قصة قصيرة.. يوم ما في مسقط
في هذه اللحظات أتحدث معكم من قلب المول الذي دخلته قاصدًا شراء السمك. لم أكن أفعل ذلك من قبل في غير أسواق السمك الطبيعية سواء في السيب أو مطرح.
اخترت سمكة جيذر وتم وزنها وتحديد سعرها، ثم حان وقت تقطيعها إلى شرائح. هذا الفعل كان يقوم به في ساحلي السيب ومطرح قماطون مهرة، تتحرك السكين برشاقة بين أصابعهم، وأجسادهم ترقص وهم يقطعون السمك. ومنهم من فرط مهارته يشتغل بحديث جاد مع جاره بسكينه الحاد. ولكن الذي حدث أمامي في المول مختلف تماما. كان الذي يقطع السمك شاب عربي، لم أتبين جنسيته، ولكنه يتردد بين الشامي والمصري والمغربي، فحين حادثني اجتهد ليستخدم لهجة وسطى لا تخلو من محاولات نطق بكلمات عمانية. وحين بدأ في التقطيع جرح يده من أول ضربتين، رغم أنه كان يرتدي قفازا. اختفى العربي من المشهد راكضًا إلى جهة ما في المول لكي يعالج يده الجريحة، فاستلم زمام التقطيع شاب هندي، وهذا بدوره كانت تنقصه المهارة، فصار يقطع السمكة بطريقة غريبة، ويضحي بكميات منها، فقلت له «عليك أن تزنها مرة أخرى»، فأجابني بما معناه «لقد وزناها وانتهى الأمر» رغم ذلك واجه صعوبة حتى في إنهاء التقطيع على هذا النحو العبثي.
هنا سافرت بخيالي إلى قماطي السمك في ساحلي مطرح والسيب. هل يمكن أن تكون هناك شهادة عليا في تقطيع السمك؟ إذا كان الأمر كذلك فهؤلاء الشباب أول من سيحصل عليها. في الحقيقة حرفة تقطيع السمك ليست هينة، ولن ألوم الشابين العربي والهندي في عدم مقدرتهما على ذلك. فالمهارة في مثل هذه الأحوال تحتاج إلى تصرف خارق. فلنذهب بعد حديثي هذا إلى أحد السوقين المفتوحين في السيب ومطرح، ولنستمتع بالطريقة الفذة في تقطيع السمك. سنكون أمام فرجة مضمونة المتعة. ذات مرة في سوق السيب كنت أراقب صبيًا يقطع السمك بمهارة عالية، وحين انتهى قلت لوالده الذي كان بجانبه، «ابنك ماهر جدا ما شاء الله» فقال لي ضاحكا :«أنتظره يكبر شويه عشان أزوجه حرمه مايته عن زوجها».
هناك يتوارث القماطون حتى السكاكين الحادة وطاولات التقطيع ناهيك عن تلك الدقة في اللعب، وتحويل -خلال دقائق قليلة- سمكة كاملة إلى قطع وشرائح. وفي هذه الأماكن المفتوحة قرب البحر، يكون عادة الصوت عاليا، والقفشات الضاحكة تتقاذف هنا وهناك، وكأننا أمام آلات إضحاك تتجدد كل يوم ولحظة. يصرخ أحدهم مطلقا لقبا لزميله البعيد، فيرد عليه الآخر بكلمة، ويعلو الضحك الذي سيشارك فيه حتى الزبائن الموجدين بالصدفة.
استلمت كيس سمكة الجيذر، كم كان خفيفا قياسا بوزنه السابق، لقد اختفى نصف السمكة بلا رجعة، بين عظام وما فرط فيه بسبب قلة المهارة.
سيحتاج الشابان إلى وقت طويل حتى تتسلل مهارة القماطين إلى أصابعهما، أو إلى ورشة في تقطيع السمك على يد المهرة في السواحل العمانية المفتوحة قرب البحار.
بعد هذه التجربة لا يمكنني الاستهانة بهذه المهنة، بل سأوليها حقها من التقدير. فقماط ماهر لا يقل أهمية عن حاصل على شهادة دكتوراة في أي مجال. إنه الوصول بالتخصص إلى ذروته؛ إلى تلك الحدود العليا للعب بين السكين والسمكة.
وقفت في طابور الدفع. في هذه اللحظة ستكون القطعة النقدية «خمسون بيسة» هي بطلة المشهد. أب عربي مع ابنته تعطل وهو يبحث عن خمسين بيسة طلبها منه المحاسب. أسعفته بأن أخرجت قطعة الخمسين من قاع جيبي، وقلت للذي خلفي مازحا، «إذا احتجت إلى خمسين بيسة عليك أن تسعفني» فأجابني وهو يطلق ضحكة: «أخاف أنه حتى أنا ما عندي خمسين بيسة».
يمكن أن أتحدث هنا عن القيمة الأخرى لهذه الخمسين بيسة. إنها تحمل إشارة جازمة بأنه لا توجد أية أنواع من المجادلات في هذه المولات العصرية المتجهمة. فخمسين بيسة يجب أن يوجدها المحاسب أو يسعفه بها المشتري. بخلاف حياة الدكاكين التي تفتح مجالا للهامش تلخصها عبارة «كم آخر؟». في هذه اللحظات بين الشد والجذب، يتدفق حديث طويل بين البائع والمشتري. لا يمكنك أن تنطق بعبارة «كم آخر؟» في المولات. وباختصار فإن هذه العبارة التي هي مفتاح كل حوار في الدكاكين الشعبية اختفت، ولم يعد لها وجود. فالأسعار مثبتة في كل سلعة، بينما في الدكاكين لا توجد الأسعار إلا في رأس البائع.
حين وصل دوري في الدفع، سألت المحاسب «كم آخر؟» ولا يمكنه إلا أن يرد بالضحك وليس بالكلام. وإذا تلفتُ خلفي يمكنني أن أرى امرأة عابسة. فعبارتي الساذجة ليس هذا مكانها أو زمانها، وما إطلاقها في هذه اللحظة إلا من باب البحث عن حديث لا يأتي.
محمود الرحبي قاص وروائي عماني