No Image
عمان الثقافي

قصة قصيرة: فَقَدْتُ المَاء

24 يناير 2024
24 يناير 2024

سُئلتُ مرة عما إذا كنتُ أفضله معكرًّا أو صافيًا نقيًّا، فاخترتُ -وكل الصور تختلِج بين قلبي وذاكرتي، وكل الأصوات بعلوها وخفوتِها تطن بداخلي، وكل المذاقات بحلوهَا ومرِّها تمخر عبابها بلسانِي- أن يكونَ معكّرًا، وإن بَلغ أعلى درجَاته من التعكّر والتلوُّن قبلتُ به. فأنا وبعد أن لفظتني الأيام هنا وجدتني في خابية من طين تحفظني ولا تسألُ عن مدى صفائي، وهكذا أرى في العكر ما لم يره كائن منتوف الأجنحة مثلي.

من ماء أنا وإن غطّانِي الريش، فريشي يحفظ دفئي إن بردتُ ويحفظ جفافي إن تبللتُ أو غرقتُ. من ماء ولا حرَج في أن أكون من ماء فأول ما خلق الله الماء ثم خلق منه كل شيء. لا ليس الطين هو البداية كما يظن البشر. كما أنه ليس للطين شأن يفوق شأن الماء، فكلانا على الأرض نمشي على سقفها، نمشي على رجلين فقط لا على ثلاث ولا على أربع، ولكنني أتفوق على البشريّ بأجنحتي التي لا تعرف إلا للحرية طريقا. أيختار طينٌ حريّتي إذن ويسلب منِّي فطرتِي؟! بقيتُ محتفظا بصفات الماء فيَّ إلى أن رأيتُ أمي بهيئتها الأخيرة، ففقدتُني وفقدتُ الماء.

تجمّع صِبيَة الحمَام ذات يوم لعرض ما لديهِم من حمام، محاولا كلٌّ منهم أن يتلقّف العرض الجيدَ لبيع حماماته، فهم يربونها إلى أن تكسَب مع الأيّام حجما يُقال من شكلها أنها ناضِجَة. تناثر حِس الحمام في المكان إلى درجَة أن هديلها كان يذهب مع موج النهار فيضيع فيه. سجعت حمَامة دون توقُف فلفتت إليها الأحداق. كانت تستعرِض جناحيهَا وتتباهى بلون ريشها المميز، بيضاء هي ومع بياضها رشّة من اللون الرماديّ الفاتِح. جميلَة وقَد تاهت الأنظار حولها وتسابَقت لأجلها الأيادي، ممددة إلى صاحب الحمامة بأوراق نقدية يختار منها ما يشاء فيحظى بها صاحب العرض الأعلى. وفي غمرة اندماج الناس مع صبيّ الحمامَة وعلوّ أصواتهم تنبّهت الحمامة إلى ما يحدُث حولهَا فعلمَت أن ما ستؤول إليه ليس ما تحلم به طوال حياتها؛ وهي الهجرة بعيدًا إلى مكان فسيح، يتصف بالخُضرة والهواء النقيّ معا، بعيدًا عن كل ما يحمل بصمة بشريّة. كانت تتوجس من أن ينتهي بها الأمر إلى يد مالك آخر قد يقيّدها ويبرع في نتف ريش جناحيها.

وبينما كان صبيّ الحمامة يحاول الإمساك بها مقتربا منها بهدوء، خفقت جناحيها وارتفعت بجسدها، وتمكنت من أن تنفذ من بين يدي الصبي فارتفعت وكان رأس الصبي يرتفع معها محتارا متحسرا من خسارة قد تكون آتية. طارت الحمامة متجهة إلى مكان أضعف قيدا وأوسع اسما. كان الأمر أكثر تعقيدا من أن تطير فتختفي عن الأنظار بتلك السلاسة التي وضعَتها في حسبانها، فأجنحتها لم تسعفها لتبتعد أكثر، ولم تشعر إلا بحجرة تُقذف وتصوّب إليها، أصابتها فهوَت بجسدها إلى الأرض وشارة الحرية تلوح إليها من بعيد. أمي الحمَامة لم تسعَ إلا أن تنال مساحة من السّماء ولكن انتهى بها الأمر إلى جرح جعلت من الصبي يعيد النظر في أمر بيعها ونقلها إلى مالك آخر. إلى هنا كان ما زال صفاء الماء في أمي إلى أن بدأت تفقد نقاءه شيئا فشيئا.

عادت إلينا أمي، فقد خفت أن أفقدها إلى غير أوبة. لكم تمنيت أن تعود لتأخذنا معها إلى السّماء الفسيحة – بهذه الكلمات كانت تصفها لنا – كما وعدتنا قبل أن تذهب مع الصبي. ولكنها عادت بوضع حرِج لم يخلف وراءه شيئًا أقل من التواء قلوبنا الصغيرة. لا أنسى حكايات أمي الكثيرة التي كانت تصف لنا علوّ السماء وفسحتها وسعتها. كانت تقول إن في السماء متسعا للجميع، فهي بلا سقف، ولا مكان للقيد فيها، ولا تجتمع الخيبة مع التحليق بحوزتها. إلى جانب حكايا السّماء تلك كانت تسرد لنا عن مدى نقاء الماء فينا فهو من السماء التي نحب ونحلم، ومن بين حديثها أن نحافظ على نقاوته ونتجنب كل أسباب تعكره. قالت كثيرا إن صفاتنا نكتسبها من الماء، صفَوْنا إن صفا وتكدّرنا إن كَدُر.

كنا لا نزال نحلم بالسّماء إلى أن مضى وقت ليس بطويل فمرِضَت أمي الحمَامة، فهي منذ ذلك الحدث لم تستعِد قوتها وعافيتها، وكأن المرض يقضم مع كل نفَسٍ شيئًا من روحها. عجبا أن ظلّتْ مؤمنة بنقاء الماء بالرغم مما أودعه الحدَث فِي داخلها، وأنا الذي وجدتُ أن مائي بدأ بتعكر صفوه كلما شعرتُ بدنو فقدان أمي. ماتت أمي وهي تضع بيضة، كان جزؤها العلويّ ملتصقًا بجسدها، لم يغادره إلى أن فاضت روحها. أما الجزء السفلي فقد تفقس. نامت وديعة متكئةً على جانبها الأيمن، على جدار لوح خشبي، وكأنها لم تضع بيضة وإنما لفظت الحجرة التي قُذفت إليهَا. لا يزال المكان مُتخَما بذاكِرة المَاء وذاكِرة السماء وريح أمي وريح الحريّة. أنا وبعد بكائي الجنائزي عليها شكّل موت أمي خيطًا رفيعا من التيه، أيصفو الماء من جديد؟ وهكذا «بقيتُ محتفظا بصفات الماء فيّ إلى أن رأيتُ أمي بهيئتها الأخيرة ففقدتُني وفقدتُ الماء».

ليلى السيبانية قاصة عمانية