قبضة الحزن
إلى صديقي الراحل
غالب بن ماجد بن حمد الحجري
١٩٧٤-٨ مارس 2024م
١.
ثياب المستشفى التي فارقت بها، لعلها مرمية الآن في مكان ما أجهله، من كان يصدق أن ترحل وأنا حيّ ولا أحضر غسلك ودفنك..
وصلت متأخرًا
رحل صديق عمري الأثير
ولا أملك منه حتى نظرة وداع.
٢.
بلغني الخبر في السابعة صباحًا، كنتَ قد أكملت في العناية المركزة بمستشفى إبراء عدة أسابيع، بقيت أسأل عنك إخوتك وأبناء عمك بالهاتف فحسب، ولم أزرك غير مرتين خاطفتين، مرابطًا مع أبي الذي كنا ننتقل معه من مستشفى لآخر في مسقط.
نصف ساعة في عزائك
ودقائق وقفتها على قبرك
تخيّل، هذا كل ما أمكنني
في وداعك الأخير.
٣.
داخلي تهدر أودية ذكرياتنا المشتركة، وأنا الذي عطلت الذكريات كلها منذ أشهر
بساتين ذكرياتنا مهجورة
عليّ أن أطوف بها وحدي
ما تبقى من العمر
ولا أحد لأسأله: أتذكر؟
٤.
في عز صيف عام ١٩٩٨ غرزت سيارتنا في الرمل، لم نستطع إخراجها وظللنا نمشي على أقدامنا طوال النهار، أشرفنا على الهلاك بلا قطرة ماء، حتى غابت الشمس ولم نجد من يسعفنا إلا عند العشاء، والآن يبدو لي ذلك اليوم كأنه اختصار رمزي لحياتنا كلها..
الحياة هي
إشرافنا على الموت،
وأنت سبقتني الآن
والحياة صحراء صيف أقطع عطشها وحدي.
٥.
الفقد يكشف وجوهًا لم أنتبه لها من قبل، للعالم الذي ظننت أني أعرفه، والآن كم يبدو لي واضحًا، هذا العام بالتحديد، أن العالم لديه ميولات انتحارية عديدة، يدعوها بأسماء مختلفة
هذا العالم الانتحاري
صفعتَه على وجهه
برحيلك.
٦.
ربيع نشط، شهران من الأمطار المتوالية، والأودية الهادرة، والنسيم العليل، والبروق والرعود، كلها تعد بالخصب، لكني بعدك متبلّد المشاعر
عنَّتْ
من شدة قبضة الحزن
عضلة القلب.
٧.
كانت علاقتنا عادية كأي أبناء عم، لم تتوطد إلا في النصف الأخير من التسعينيات، صرنا لا نفترق، أيامًا وليالي ونحن معًا، كبرنا وتزوجنا وأنجبنا واحدنا تلو الآخر، والآن رحلت أنت، وصارت صداقتنا الوثيقة بحكم الماضي
وأنت صادقت الموت ورحلت معه
وتركتني للحياة المصرّة
على تحطيم كل لقاء.
٨.
في زيارتي الخاطفة لقبرك، أنا المكسور في كل جزء من جسدي، تركت كسوري خارج المقبرة، وتقدمت نحو قبرك مترنحًا كأني بلا أطراف.
أمام قبرك
واقفًا بدموعي في صمت
مكسور اللسان.
٩.
في الصباح الذي بلغني فيه خبرك، هرعت كالمعتوه إلى المطار، لأحجز طائرة أنا وحمولاتي الثقيلة، وفشلت في فعل أي شيء، من العجمة والإرباك والتشويش.
في المطار
أمام مكتب الحجوزات
كأني أتبع فكرة خرقاء
للحاق بك.
١٠.
دعني اعترف لك متأخرًا، حين زرتك آخر مرة، حاولت ابتكار كلمات مشجعة لتطمينك، وأنت في شبه غيبوبة، شعرت أني أكذب عليك.
للحظة وأنت في شبه الغيبوبة
كأنما سمعتك تقول
دع عنك هذا الكلام
وكان الصمت أصدق.
١١.
آخر مرة التقينا وتحدثنا فيها، قبل أن تسقط، كان أبي في العناية المركزة، طغى بيننا شعور ثقيل وشبه حاجز غليظ، لم أفهمه حينها والآن عرفته، كانت الروح تشير للطريق، وتودع الروح.
الشعور الثقيل
اتضح لاحقًا
أنه هو بعينه
الوداع.
١٢.
لم أقم في عزائك فظلت التعازي تصلني فيك على البعد، ومع كل تعزية كنت أرثي لنفسي مع هذا الفراق المشت
ترحلون وتصبح الحياة بعدكم
هي تذكركم لا أكثر
نحن من الآن فصاعدًا
أنصاب ذكراكم.
١٣.
هجم الموت من جبهة أخرى غير التي كنت أصارعه عليها، وفجعني فيك. ما أقصر الحياة في الموت الطويل بلا نهاية.
حياتنا محسومة سلفًا بالموت
ولكن لا معنى للموت
دون الحياة التي تسبقه.
١٤.
لي مدة انتظر هذا العام بالتحديد وأقول لنفسي سيحدث شيء ما، كنت أحسبها حوادث رائعة، ولم أتوقع أبدًا عمق هذه الجراح الشخصية والعامة.
من توالي الحوادث
لم أجد وقتًا
حتى لأتمعن
في خيبة الأمل.
١٥.
لي مدة أقول لك: سترحل سريعًا كي تصدقني، وأنا لم أصدق نفسي. والآن يا للشقاء اكتشفت أني كنت صادقًا.
حين حل الربيع
وأقبلت فرص اللقاء
افترقنا نحن.
الأعياد مقبلة
وأنا أفتش في جراحي
عن معاني الألم.
١٦.
رحلت أنت واغتربت أنا، ها أنذا أصارع للكتابة عنك، في مدينة غريبة بها ملايين الناس، لكن لا أحد منهم يعرف شارع الجاحس والمنترب، ولا عرق هاتوه.
المدن الصاخبة بالحياة
أكثر امتلاءً
بالموت.
كل يوم
نكاد نتدافع بالأكتاف
أنا والموت.
كل يوم
أرى الموت أمامي
يخلي أسرة المستشفيات.
هنا تأكدت أن الموت
مسألة شخصية كالحياة
ليست الحياة واحدة ولا الموت.
١٧.
أنت الذي بدأت حياتك العملية معلمًا على جبل القمر، في شهب صعيب، وأنهيتها في سيحٍ غرب الغبّي، وكان مولدك في مستشفيات أبوظبي ومماتك في مستشفى إبراء ومدفنك في الجاحس.
لم يتمهل التيار حتى جرفني
لم يترك لي وقتًا للبكاء عليك
بينما في الجهة الأخرى من قلبي
أصداء النشيج.
١٨.
ما الحياة الآن أيها الصديق؟ لحظات نشوة وحزن وفرح وإرهاق وألم متقطعة
زهرة فرقت شذاها قبل الذبول
قلب خفق بنشاط قبل التوقف
جسدٌ ذاق الوجود
وسقط.
من الآن فصاعدًا
كلما تذكرتك
ترنّ ضحكتك الساخرة.
١٩.
كان يعبّ الموت عبًا/ غير عابئ بتحذيراتنا المتكررة/ قلنا له: تمهّل في العيش/ اشرب الموت بهدوء/ قطرة قطرة/ بالدقائق والساعات/ كالأيام/ وكان يشربه دفعة واحدة/ في كأس ونفس واحد/ بالفصول والسنوات/ مبتهجًا بكل جرعة/ متحملًا مرارته اللاذعة/ صابرًا على كوارثه/ متممًا على عتابنا بالحكمة والتعقل/ مواصلًا اجتراع الموت كأنه ماء الحياة/ بشراهة مفزعة/ حتى رحل هذا الصباح.
حين انقلب العالم على عقبيه
رحل صديقي
تاركًا آثار كفّه
على خدّ الحياة.
٢٠.
لا وقت للحزن ولا لشم الريحان.
ممبي
١٩ مارس 2024م
إبراهيم سعيد كاتب وشاعر عماني