في رواية «نارنجة».. أجيال تعيش رغبات مهزومة
كان من الممكن لهذه الرواية أن تكون حكاية أسطورية عن ابنة فارس بدوي، ولدت مباشرة بعد الحرب العالمية الأولى. لكن حياتها أخذت مسارًا آخر حين نبذتها عائلتها، وهي فتاة صغيرة، فعملت على إعالة نفسها بجمع الفحم وبيعه. حتى عطف عليها أحد أقاربها وأخذها لتعيش معه. ربت أجيالًا من عائلة واحدة، حمتهم من نوبات الجنون واليأس. كان حلمها الوحيد امتلاك بستان صغير في الصحراء العمانية مزروعًا بالصبار والياسمين.
هذا الخذلان يتضح من بداية رواية «نارنجة» لجوخة الحارثي، حيث نكتشف أن هذه المرأة «بنت عامر» تركها أحفادها لتموت وحيدة تماما مجردة من كرامتها. إلا أن حياة الجدة سيطرت على حفيدتها زهور الراوية، التي تؤمن بقوة شخصية جدتها حين ذكرت: «لم ينظر شاب في عينها الصحيحة، وهي شابة ليرى الذكاء والتصميم والسحر». تقول زهور: «اشرأبَّ جسدها الفاره كنخلة أو فرس، وذبل كشجرة طاعنة دون أن يراه مخلوق».
فازت رواية «سيدات القمر» الصادرة عام ٢٠١٠ للكاتبة جوخة الحارثي التي ترجمتها إلى الإنجليزية المترجمة مارلين بوث عام ٢٠١٨ بجائزة المان بوكر الدولية كأول رواية عربية تفوز بالجائزة. وقد أشاد النقاد بالأسلوب الإبداعي لجوخة الحارثي التي تتمكن، وفي فقرة واحدة غالبًا من تصوير الحياة التقليدية العربية القديمة ثم تنتقل منها بخفة وسهولة إلى فترات زمنية متباعدة. ومن الجدير بالذكر أن جوخة الحارثي كاتبة عمانية حاصلة على درجة الدكتوراة في الأدب العربي الكلاسيكي.
وقد صرحت جوخة الحارثي بأن فوز كاتب عماني بجائزة البوكر الدولية أمر مذهل بشكل خاص، حيث استأثرت مدن مثل بيروت والقاهرة لسنوات طويلة بكونها مراكز أدبية وثقافية في العالم العربي، بعكس منطقة الخليج تمامًا. وقد وضحت أن الثقافة العمانية بدأت تأخذ منحى مختلفًا في أواخر الستينيات وبداية السبعينات.
ويتضح أن السلطان قابوس بن سعيد، بعد أن تولى الحكم استثمر بشكل كبير في البنية الأساسية والتعليم والسياسة.
ترتكز كتابات جوخة الحارثي على الأجيال التي واكبت تغييرًا كبيرًا خلال فترة قصيرة من الزمن، وكيف أن ما يتحقق في مجتمعات أخرى على مدى قرون، حدث في عمان خلال عقود. تكشف رواية «نارنجة» عن الكثير من تفاصيل الحياة العمانية بين الحربين العالميتين، مستحضرة الوقت الطويل لحكم سلطان البلاد آنذاك، وسلطته على حياة المواطنين حتى أنه كان يقرر من يسافر للعلاج في الخارج أو من يلبس نظارة طبية.
استمرار زهور في الحديث عن حزنها غيّب الكثير من حياتها عن القارئ الذي لا يعرف عنها سوى أنها تدرس في جامعة بريطانية، وأن شعورها بالغربة وابتعادها عن عائلتها لم يؤثر عليها مثل تأثير وفاة جدتها «بنت عامر». ويلاحظ أن تواصل زهور مع العالم الخارجي كان عبر أختين باكستانيتين، كحل الأخت الكبرى التي تزوجت سرًا برجل التقته في المسجد وأختها التي ترى أن زوج أختها غير مناسب على الإطلاق فهو في نظرها رجل قروي وفقير ولد في إحدى القرى الفقيرة في باكستان وبالطبع لم يكن لائقا بابنة مصرفيّ غني نشأت في ضواحي كراتشي. إلا أن زهور بدت متفهمة أكثر للعلاقة ومع الوقت لم تكن تفارق الزوجين، لدرجة أن رغبة كحل في زوجها (جسديا وعاطفيا) استحوذت على عقل زهور الباطن.
إلا أن الانحياز العاطفي الأساسي لمشاعر زهور كان منصبًا طوال الرواية على «بنت عامر» التي ماتت دون أن تحقق أحلامها بالحصول على بيت لها ولا على بستان تزرعه. هذه الرغبات المحطمة لم تتحلل مع جسدها بل توارثتها الأجيال من بعدها. وجزء من حسرة زهور استرجاعها المستمر لخيبات جدتها. وعندما تفكر في جثة جدتها تقول: «لم تكن جثتها تشبهها. كانت تشبهني أنا».
هذا الوضع المتأزم لزهور، الذي اشتغلت المترجمة مارلين بوث على توضيحه، أثار اهتمام القارئ أكثر بتفاصيل الرواية: «لاحقنا طير الحياة الهش، تشبثنا بجناحه حتى انتزع في قبضتنا، فلبسنا الريش، وشربنا الدم، قلنا: «سنمضي»، رغم مزق الطير بين أصابعنا، رغم طعم دمه الحريف تحت ألسنتنا، قلنا: «سنمضي»، ثم انتظرنا أن يحلق طير الحياة بنا».
أسهم الحزن العميق الذي تعيشه زهور في تكثيف الكتابة عن حياة «بنت عامر»، كما أن استحضارها بهذا الشكل أضفى عليها المهابة بدلا من الشفقة، لتبدو وكأنها شخصية أسطورية خاصة حين أثيرت الشائعات حولها وقيل عنها: «وشاع بين أقرانه، أن أمه بنت عامر، أغرقت عقربا بحليب صدرها حين كانت ترضعه فمن يومها لا تؤذيه عقرب».
كما أن عدم تغير شكل «بنت عامر» وحفاظها على نفس ملابسها طوال حياتها، وسط التغيرات المفاجئة في بلدها منحها نوعا من الخلود. وفي اعتقاد جوخة الحارثي: «الماضي منفتح على الفرص والاحتمالات مثل المستقبل تماما».
عن نيويورك تايمز