في تأثير ديوان شذور الذَّهب على الفكر العُماني بالقرن الثَّامن عشر
بعد أن تسنَّى لي -خلاف أصحابي المدعوِّين- أن أبقى أيَّاما أخرى بعمان بعد تلك اللَّحظات التي شاركنا فيها احتفال مجلَّة نزوى بثلاثينيَّتها خلال المعرض الدُّولي للكتاب لهذا العام، رحت أجوب عالم المخطوطات الذي يستهويني أدبا وعلما وفنَّا، ووجدتُ نفسي متوزِّعًا بين عديد المؤسَّسات الرَّاعية له كهيئة المخطوطات التي استضافني فيها الأستاذ عبد الله العبري، وذاكرة عمان التي استتقبلني بها الأستاذ محمود الصَّقري، ودار المخطوطات التابعة لوزارة «الثَّقافة» التي حظيت فيها بالجلوس إلى الأستاذ محمَّد المسكري والحديث معه. وللأسف الشَّديد، لم أستطع زيارة مكتبة السَّيِّد محمَّد بن أحمد البوسعيدي التَّابعة لديوان البلاط السُّلطاني، فلم يكن لدي علمٌ بوجودها إلا قبيل يومين من عودتي إلى باريس.
ولقد راقَ لي أن وجدتُ بهذه المؤسَّسات نسخًا مختلفةً من مخطوطات شذور الذَّهب لابن أرفع رأس الجيَّاني الأندلسي ومخطوطاتٍ في شروحات قصائده أيضًا. فلقد عثرت لهذا الدِّيوان على خمس نُسخٍ بدار المخطوطات، وعلى نسختين بفهرس مخطوطات ذاكرة عمان بخزانة وقف بني سيف، وأخرى بخزانة الشَّيخ حمد بن سيف بن عبد العزيز الرَّواحي بوادي المعاول، ونسخٍ أخرى بهيئة الوثائق. ويعود اهتمامي بهذا الدِّيوان إلى عنايتي بدراسة تاريخ الكيمياء من خلال الشِّعر العربي، فلقد قمت بتحقيق شذور الذَّهب سنة 2018، ونشرت مقالًا نقديًّا بخصوصه بمجلة نزوى باحثًا في علاقة الدِّيوان بالمستوى التَّجريبي للعلوم. ولقد يُسِّر لي أن ألحقتُ بهذا الدِّيوان دواوين أخرى في الكيمياء وما زلتُ حتَّى هذه السَّاعة أُفتِّشُ في ظاهر الكتب وباطنها عن هذا الفنِّ المسمَّى بالعلم الشَّريف.
وإنَّه لمن العجيبِ حقًّا أن يكون لهذا الدِّيوان ولعلم الكيمياء انتشارٌ واسعٌ بسلطنة عمان، والأعجب من ذلك، أن نجد، في ظلِّ طغيان العلوم النَّقليَّة، علماء من قبيل الشَّيخ جاعد بن خميس الخروصي (1147 - 1237 هـ/ 1734 - 1822 م) وابنه ناصر بن جاعد (1192 - 1263 هـ / 1778 - 1847 م) وقد أوليا اهتمامًا واسعًا بعلوم طبيعيَّة عقليَّة كالرِّياضيَّات والكيمياء وأوسعا في هذا الأخير بنظم أشعارٍ فيه والكتابة عنه نثرًا.
ولقد حاولت أن أفتح من خلال كتابي الأخير الصَّادر بدار الآن ناشرون بعمّان بالأردن بابا في الدٍّراسات النَّقديَّة يختصُّ بتوفير منهجيَّةٍ علميَّةٍ مستمدَّةٍ من علم الكيمياء القديم، مستنبطًا عوالمها انطلاقًا من شعر سيف الرَّحبي. وسيف الرَّحبي هو أيضًا شاعرٌ عمانيٌّ، وبينه وبين الخروصيِّين مسافةٌ قصيرةٌ، إذا قارنَّاها بالمسافة التي تفصله عن فضاء عمل ابن أرفع رأس الجيَّاني بمدينة فاس بالمغرب، واللَّذين وضعناهما على محكِّ المقارنة والدِّراسة والتَّحليل. فهل توجد حقًّا بين ما يكتبُ سيف الرَّحبي وبين ما كتبه الخروصِيَّان علاقةٌ في طريقة توظيف الرُّموز، لاسيما أنَّ هذه الرُّموز قد استعصت على مفسِّري شعر الشَّيخ جاعد بن خميس؟ ها هو إبراهيم بن سعيد مثلًا يعبِّرُ في تعليقه على قصيدة حجر الفلاسفة التي حقَّقها ضمن ديوان نفائس العقيان للشَّيخ جاعد بن خميس عن هذا التَّعقيد الرَّمزي قائلًا: (إنَّ) «القصيدة في الظَّاهر يبدو أنها تتبع علم الفلك في النُّجوم تارة، ثمَّ الخلقَ والتَّكوين ثمَّ تمرُّ على التَّصوُّف والمحبَّة الإلهيَّة مع أنَّها في علم الكيمياء، غير أنَّ إلغازَه بإدخال الزَّواج والحمل ثمَّ مشهد القيامة كان له في القصيدة وقعٌ عجائبيٌّ غريبٌ، مع أنَّه إلغاز لكنَّ له أثرًا مدهشًا». (نفائس: 304).
ولا أملك في الواقع أيَّة معلوماتٍ حتَّى الآن تفيد في فهم طريقة انتشار هذا الدِّيوان وشروحاته بالمنطقة، ولكنَّه من الأرجح أنَّ وجودهُ يعبِّر عن اهتمامٍ واسعٍ به، وعن رغبةٍ في إتقان هذه الصَّنعة الإلهيَّة والحذق بها.
ومن بين تجلِّيات أثرِ هذا الدِّيوان، أن عثرت على كتابٍ ألَّفه الشَّيخُ ناصر بن جاعد بعنوان «السِّرُّ المصون في تدبير الحجر المكنون»، وهو عنوانٌ ذكره فهد السَّعدي في فهرسه خزائن المخطوطات (الخزائن : 169)، ووضع له لوحةً تظهر فيها قصيدة رائية لابن أرفع رأس. ولقد تواصلت مع الأستاذ محمود بن مهنَّا بن خلفان الخروصي، الذي استقبلني ببيته في العوابي، بعد أن تنقَّلت برفقة الدُّكتور أحمد بن سالم بن موسى الخروصي إليه، وكان ذلك لغرض الاطِّلاع على هذه المخطوطة، إلَّا أن ضيق الوقت حال دون ذلك، فلم يسعني الجلوس إلا لسويعات لم تسمح لي بالبحث في مخطوطات مكتبة العائلة.
ولو أتيح لي الاطِّلاع على هذه المخطوطة لخرجت في هذا المقال بنتائج قد توضِّحُ مبدئيًّا دور ديوان شذور الذَّهب في رسم الملامح الفكريَّة وتحديد نوعيَّتها لمثقَّفي عمان في نهاية القرن الثَّامن عشر. إلَّا أنَّني، ومن جميل الصُّدف، قد اطَّلعت، من جهةٍ أخرى، على منظومةٍ للشَّيخ ناصر بن جاعد مصنَّفة بهيئة الوثائق. وهي منظومةٌ لا تشبهُ طريقة نظم ابن أرفع رأس، ولا طريقة نظم شعراء آخرين محسوبين على غرض الكيمياء، وإنَّما توسَّع فيها الشَّيح ناصر بن جاعد، كما يبدو، لغرضٍ صيدلانيٍّ فحسب. يقول في مطلعها:
إذا شئتَ عقدَ العبدِ ثابتَ بالسَّهلِ
فهاكَ صفاتٍ فيه ما قيلَ يا خِلِّ
فطهِّرهُ قبل العقدِ طُهرًا مبالغًا
كما جاءَ في نظمٍٍ ليطهَرَ من دغلِ
وأَوْقِد عليهِ النَّار، كَرِّرْهُ دائمًا
تراهُ عجينًا، غيرَ ذي يُبْس، ذا ثِقلِ
ولا يمكن أن نوقف بحثنا في دور شذور الذَّهب وتأثيراته الفكريَّة على الشَّاعر ناصر بن جاعد فحسب، وإنما نستطيع توسيع ذلك بالبحث في أعمال أبيه الشَّيخ جاعد بن خميس نفسه، لاسيما من خلال مختلف القصائد التي تضمَّنها ديوان نفائس العقيان، وهي قصائد صرَّحت بنظمها في الكيمياء كقصيدة حجر الفلاسفة (نفائس : 304) وأخرى تضمَّنته دون تصريح كما هو الحال في قصيدة حياة المُهَج (نفائس : 237).
وقبل أن نقف في هذا المقال على قصائده في الكيمياء، والتي يبدو جليًّا تبنِّيه لما اعتاده شعراء الكيمياء تقليدًا، واعتمادُه بالأساس على مفاهيم تناولَها ابنُ أرفع رأس نفسُه، فإنَّه من الجيِّد النَّظر في كتابه عن الكيمياء، وفي اللَّقب الذي أُطلِقَ عليه أيضًا وهو الشَّيخُ الرَّئيس قبل أن نتناول بالدِّراسة أشعاره في الكيمياء نفسِها.
وعلى الرَّغم من أنَّ المصادر تخلو كما يقول إبراهيمُ بن سعيد من تعليلٍ لتلقيبه بالشَّيخ الرَّئيس، فإنَّ الأشهرَ من ألقابه هو هذا اللَّقب، ويبرِّرُ ذلك لكونه مرجع جميع علماء زمنه، ويقول في موضعٍ آخر: إنَّ ذلك يدلُّ قطعا على المكانة العلمية والدِّينية التي لازمته. (نفائس : 20). ويرجِّح إبراهيمُ بن سعيد سببَ وقوفه على هذا اللَّقب دون غيره لكونه متشابهًا أيضًا مع لقب ابن سينا المعروف.
ومن الأجدر أن نحقِّق، بمعرض مناقشتنا هذه المسألة، في طبيعة إلحاق هذا اللَّقب بالشَّيخ جاعد. إذ لا يمكننا أن نقارنه بلقب ابن سينا لأسباب كثيرة وهي: إنَّ الشَّيخ جاعد بن خميس وابن سينا اتَّفقا في أشياءٍ عديدة واختلفا في الكيمياء، وخلافه، فإنَّ ابن سينا كان من بين من أنكروا هذه الصِّناعة وأبطلها. وإبراهيمُ بن سعيد نفسُهُ يقول: إنَّ ممَّن قال ببطلان (الكيمياء) الشَّيخ الرَّئيس ابن سينا من كتاب الشِّفاء، (...)، وذهب لإثباته الرَّازي في المباحث الشَّرقية (...). أمَّا الشَّيخ جاعد، فهو يصف من ينكرها بالعربيد، اُنظر في (النَّفائس : 297-298):
أَوَمَا تَرَى العِرْبِيْدَ يُنكِرُ سِرَّنَا
وَيَقُولُ إنَّ الكِيمِيَا تَهْوِيْسُ؟
لَمَّا تَدَبّرَهَا وَدَبَّرَ أمرَهَا
وأضَلَّهُ التَّخمِيسُ والتَّسدِيسُ
حَلَّ الأُصُولَ وقَالَ هَذَا باطِلٌ
أنتَ الجَهُولُ وطَبْعُكَ التَّخلِيسُ
بِالجَهْلِ أنْكَرتَ الصَّحِيحَ عَمَايَةً
لَـمَّا جَهَلتَ وعاقَكَ التَّحمِيْسُ
كَالشَّمسِ بَارِزَةً وَلَكِن دُونَهَا
سِتْرُ الرُّموزِ وَلِبسُهَا التَّلبِيسُ
وَالنَّصُّ فِيهَا في الكِتَابِ مُسَطَّرٌ
عَنْ قَولِ مَن هُوَ حُكمُهُ التَّبلِيسُ
ولعلَّ هذا دليلٌ نسبيٌّ يشيرُ على سبيل المقارنة إلى أنَّ وراثةَ هذا اللَّقب بإلحاقه بالشَّيخ جاعد لا تكون -بالتَّأكيد- تحت طائل تأثير ابن سينا، إنَّما وجب علينا، أن نبحث في الكيميائيِّين أوَّلًا عمَّن كان له أثرٌ فيه.
ولا يسعُنا ونحن نكتب هذا المقال إلَّا أن نتذكَّر نصوص التَّصوُّف في القرن الثَّامن عشر خصوصا، التي وُصِف فيها ابن أرفع رأس، صاحبِ الشُّذور بلقب الشَّيخ الرَّئيس. فلقد أُطلَقُ هذا اللَّقب عليه بشكلٍ متأخِّرٍ وانتشرَ بين المهتمِّين به لاسيما بالمشرق العربي ودول الخليج، في الفترة نفسها التي عاش بها الشَّيخ جاعد بن خميس. نجد ذلك في التَّعليقات التي وضعها عبد الرحَّمن السّويدي (1134-1200 هـ/1722-1786 م) في رسالة بعنوان شرح قصيدة كشف الأستار لخواصِّ الأسرار، وهي رسالة في شرح همزيَّة محيي الدِّين بن عربي في الكيمياء، ولقد نشرتُ تحقيقَها في كتاب ما أتى به الوارد لمحيي الدِّين بن عربي نفسه. في هذه الرِّسالة، لا يذكرُ عبد الرحَّمن السّويدي أبياتًا مقتطَعَةً من قصائد ديوان الشُّذور إلَّا ويشير إلى قائلِها بوصفه بالرَّئيس. وفي معرض هذا التَّوصيف، سنلاحظُ أنَّ عبد الرحَّمن السّويدي قد تقاسم والشَّيخ جاعد بن خميس المرحلة التي عُرِفت بنقاشٍ فكريٍّ حادّ بين الوهَّابيَّة والتَّصوُّف الذي تحوَّل عند ابتدائه إلى مصطلح السُّلوك في سلطنة عمان تخفيفًا للحدَّة. ولا أمتنعُ إطلاقًا عن قولِ قائلٍ باطِّلاع كليهما على عملِ صاحبه، فكلاهما متشابه فكرًا، ومتزامن عصرًا، ومتقصٍّ في سلوك المعدن من حالةٍ إلى حالةٍ أخرى عالمَ التَّصوُّف.
وعبد الرَّحمن الشَّهير بالبغدادي الشَّافعي السُّويدي هو الذي وُصِف في كتاب «سلك الدُّرر في أعيان القرن الثَّاني عشر» للمرادي بِـــ«الشَّيخ الإمام العالم العلاَّمة الفقيه الـمفنِّن أبو الخير زين الدِّين». وهو مؤرِّخٌ، من بيت قديم في العراق. وُلد ونشأ وتوفِّي في بغداد، وأخذ عن والده وعن فصيح الدِّين الهندي وياسين الهيتي، وكتُبُه كثيرةٌ لا سبيل لذكرها في هذا المقام.
ومن خلال هذا الاستنتاج، هل يمكن طرحُ فرضيَّة وجود علاقةٍ بين ابن أرفع رأس والشَّيخ جاعد بن خميس؟ لقد جاء في تعليقات نفائس العقيان من قبل إبراهيم بن سعيد أنَّ الشَّيخ جاعد بن خميس قد اشتغل بالكيمياء قبل التَّصوُّف، ويقول في موضعٍ آخر: إنَّ اشتغاله بهذا العلم (...) سابق على طور التَّصوف (نفائس : 304). ويعدُّ هذا الأمر، بالنِّسبة لي أنا شخصيًّا، منطقيًّا، فالكيمياءُ تفضي إلى التَّصوُّف عكس التَّصوُّف الذي لا يفضي بالضَّرورة إليها. ومن الأرجح أن يكون التَّصوُّف نفسُه عملا من أعمال الكيمياء وهذا ما أشار إليه ابن عربي بقوله في سلوك الكيميائي والمتصوِّف في ديوانه قراضة العسجد الذي قمنا بتحقيقه سنة 2019، يقول في (القراضة : 1):
مَا حَجَرُ القَوْمِ سِوى الـمَاءِ
وَإنْ تَرَى كَثْرَةَ أَسْمَاءِ
مَاءٌ مِنَ النِّيرَانِ مُسْتَخْرَجٌ
عَنْهُ بَدَا تَرْكِيبُ أَشْيَاءِ
كَانَ لَظًى ثُمَّ هَوَى فِي الهَوَا
وَسَالَ مَاءً يُبْهِرُ الرَّائِي
يَعْرِفُهُ كُلُّ حَكِيمٍ صَفَا
وَسَالِكٌ فِـي عَوْدِ إنْشَاءِ
هَذَا وَذُو الـجَهْلِ بِهِ مُغْرَمٌ
يَـخْبِطُ فِي ظُلْمَةِ عَشْوَاءِ
وجاء في مقدِّمة إبراهيم بن سعيد أنَّ الشَّيخ جاعد قد ابتدأ التَّأليف في عمرٍ مبكِّرٍ، وأنَّه في الخامسة والعشرين من عمره كان قد وضع كتاب «إيضاح البيان فيما يحلُّ ويحرم من الحيوان»، وأنَّ شرحه لقصيدة «حياة المهج» كان في عمر الأربعين ما يفيد أنَّه كتب مبكِّرًا (...) قصائده الإلهيَّة (...). وإذا كان لهذا الكلام، في الواقع، ما يدلُّ على أنَّ اشتغاله بالكيمياء لم يكن إلَّا بين الثَّلاثين والأربعين، باعتبار أسبقية الكيمياء على التَّصوُّف، فإنَّ هذا الاشتغال سيجعلنا نفترض وقوعه بالتَّاريخ الذي بين 1764 و1474، أي بعد ثلاثة عقودٍ أو أربعة من زمن ولادة الشَّيخ المؤرَّخة بعام 1734؛ وهي فترةٌ يكون قد وصل قبلها بقليل ديوان شذور الذهب الذي سنلحظُ فيما بعدُ تأثيره الفكري على نظم الشَّيخ نفسه.
وعلى الرَّغم من أنَّ الشَّيخ جاعد لم يقرَّ في ديوانه صراحة بتأثُّره بشيخ الشُّذور، إلَّا أنَّ قصائده في الكيمياء تشير إلى ذلك. ولغرض تبيان هذا التَّأثير الشُّذوري، سنقتصر على قصيدته «وصفة كيميائية» (نفائس : 329) التي يقول فيها:
إذَا زُحَلٌ وَافَاكَ بالمُشْتَري قَهْرَا
وثَلَّثَ بالمَرِّيخِ في الدّورَةِ الأُخْرَى
وَبِالشَّمْسِ والزَّهْرَاء ثُمَّ عُطَارِدٌ
تُدَرِّكُهُ بالفِعلِ كَي تَلْحَقَ البَدْرَا
هُنَالِكَ تَسْتَسقِي البَسِيطَةُ شَرْبَةً
فَيَسقِيْهِ جَونُ الجَوِّ مِن قُبَّةٍ خَضْرَا
فَتَأتِي مِنَ الألوَانِ كُلَّ عَجِيبَةٍ
وَتُظهِرُ ألوَانًا مِنَ الدَّوحَةِ الحَمْرَا
نعرض في الجهة المقابلة لهذه القصيدةِ قصيدةَ ابن أرفع رأس التي تضمَّنها ديوان الشُّذور بمطلعه قائلًا (الشُّذور: 1):
إذَا ثَلَّثَ المَرِّيخَ بالزُّهْرَةِ امْرُؤٌ،
وَقَارَنَ بِالبَدْرِ المُنِيرِ ذُكَاءَ
وَوَاصَلَ سُعْدَ المُشْترِي بِعُطَارِدٍ
إلَى زُحَلٍ، كَيْ يَسْتَفِيدَ ضِيَاءَ
وَأَجْمَدَ أدْهَاناً، وَحَلَّ بِحِكْمَةٍ
صُخُورا أَصَارَتْهَا المِيَاهُ هَبَاءَ
وَأَوْدَعَ صِبْغَ الأَرْضِ إذْ ذَاكَ مَاءَها
لِقَوْمٍ أَقَامُوا للثَّبَاتِ لِوَاءَ
فَذَاكَ الذِّي إنْ يُضْحِ أَفْقَرَ مُعْدَمٍ
يَرُحْ وَهْوَ أَغْنَى العَالَمِينَ مَساءَ
دون الدُّخول في تفاصيل بناء النَّصِّ الشِّعري والصُّور المستعملة واللُّغة المستخدمة، فإنَّه من المهمِّ جدًّا القول: إنَّ قصيدة الشَّيخ ابن أرفع رأس لا وجود لما يشبهها في شعر الكيمياء كلِّه والذي رصدتُه لحدِّ السَّاعة إلا قصيدة الشَّيخ جاعد بن خميس، وهو ما يبيِّن حقًّا تأثُّرَ هذا الأخير الواضح بصاحب الشُّذور دون غيره.
ولعلَّه يكون مفيدًا النَّظرُ في كتاب الشَّيخ جاعد بن خميس في صنعة الكيمياء، فهو الذي سيؤكِّد فلسفيًّا نشوء مدرسَةٍ شذوريَّةٍ بعُمان، وإن كان هذا العنوانُ قد تناهى إليَّ في مواضع من سيرتهِ التي اِطَّلعتُ عليها واختفى في مواضع أخرى كأنَّه كتابٌ غير موثوقٍ في نسبته.
وفي انتظار تقصِّي نسبة هذا العنوان والتَّحقُّق منه، لترجيح التَّأثير والميلِ إليه، فإنَّه لمن الجديرِ حقًّا البدءُ في البحث بدائرة العوابي وما جاورها عن شذور الذَّهب لاستقصاء تأثيره الفكري في مثقَّفي عمان بتلك المرحلة، ومن الأجدر أيضًا تفقُّدُ من تأثَّر بهذا الدِّيوان قبل الشَّيخ جاعد بن خميس. فلربَّما يكون هذا السَّابقُ بالاكتشاف هو نفسُهُ من أوحي إلى الشَّيخ وأوصاه بالاطِّلاع عليه.
وإذا كنَّا لا نعرفُ تحديدًا من أيِّ سبيل وقع هذا الدِّيوان بين يديّ الشَّيخ جاعد بن خميس، فإنَّ توريث المعرفة الكيميائيَّة لابنه ناصر بن جاعد باتت مسألةً كأنَّها مقدَّسة لدرجةٍ اقْتَصَرَتْ فيها محفوظات هذا الأخير من شعر أبيه على هذا العلم الطَّبيعي فقط دون غيره من العلوم الأخرى. ولقد شدَّت انتباهَنا تلك المراسلة التي يبدي فيها الشَّيخ ناصر بأهميَّة شعر الكيمياء، فلقد كتبَ إلى أخيه خميس بن جاعد الذي كان بصدد جمع أشعار أبيه الشَّيخ جاعد بن خميس، فيقول: وذكرتَ أيُّها الأخُ أن أكتبَ لك ما عندي من نظمِ (أبينا)، ولم يكن في حفظي تلاوةٌ شيئا منه ولا في كتبي مرقومًا إلا ما كان عنه في الحكمة الإلهيَّة والصَّنعة الفلسفيَّة مرسومًا قصيدة على حرف العين المهملة وأخرى على الشِّين المعجمة وهما في تصحيح ثبوتها وفي الرَّدِّ على من أنكرها (...).
ويمكننا بناء تصوُّرٍ شاملٍ لتاريخ المعرفة بسلطنة عمان اِنطلاقًا، على الأقل، من هذه النُّقطة الجوهريَّة، التي أفرزت فكرًا في علم السُّلوك، وأفضت إلى قصائد في الإلهيات، وأخرى في التَّصوُّفِ وشرحه كما هو الحال في شرح قصيدة ابن الفارض من قبل الشَّيخ ناصر بن جاعد.