فلسفة: ممارسة الفلسفة منذ الطفولة.. مدرسة من الحرية
الترجمة عن الفرنسية : حافظ إدوخراز -
يقتصر تدريس مادة الفلسفة في فرنسا على المدارس الثانوية، وتُدرّس هذه المادة في المدارس الثانوية العامة والتقنية فقط، وليس في المدارس الثانوية المهنية. يمكننا أن نعدّ غياب تدريس هذه المادة في هذه المدارس بمثابة عنفٍ مؤسّسيٍّ موجّهٍ ضد الطبقات الشعبية (الممثَّلة بشكل زائد في هذه المدارس حيث ينحدر الجزء الأكبر من تلاميذها من هذه الطبقة الاجتماعية). وهذا على الرغم من كون الفلسفة هي التخصص الذي لا غنى عنه من أجل بناء تفكير مستقل ونقدي ومركّب، تستحيل ممارسة المواطَنة المستنيرة من دونه. يختبر الأطفال الصغار الفلسفة في وقت مبكّر جدًا من حياتهم من خلال «الدهشة أمام العالم». وبالنسبة إلى الفيلسوف اليوناني أرسطو، فإن ما يميز البشر عن الحيوانات الأخرى هو تحديدا هذه القدرة على الاندهاش (العمر الذي نسأل فيه عن «لماذا؟» و»كيف؟»). لا يوجد عمرٌ مثالي من أجل طرح الأسئلة الفلسفية والانطلاق قُدما في هذا المسار الفكري الوجودي الذي يمنح معنى للعالم. وكما أشار الفيلسوف الفرنسي مونتين (Montaigne) (1533-1592) في كتابه «المقالات»: «إننا نخطئ خطأ جسيمًا حينما نعرض الفلسفة كشيء بعيدٍ عن متناول الأطفال، وذو وجه متجهّم وعابس يثير الفزع. فمن الذي ألبسها هذا القناع الشاحب القبيح؟ ما من شيء أكثر بهجة وحيويّة ومرحا، وأكاد أقول أكثر مدعاةً للعب من الفلسفة». (1)
بعد مرور خمس مائة عام على هذه الدعوة إلى «اللعب»، تتطوّر ممارسة الفلسفة مع الأطفال -في المدرسة وفي المدينة- لتتّخذ أشكالا مختلفة في جميع أنحاء العالم. وبخلخلتها للتمثّلات التقليدية لتدريس مادة الفلسفة، تستجيب هذه الممارسات لرهانات متعددة لكنها متكاملة:
- الرهان الأول ذو طبيعة أخلاقية ويتعلق بالاعتراف: هذه الممارسات هي بمثابة اعتراف بالتلميذ (حتى لو كان صغير السن أو كان يعيش في ظروف صعبة أو كان من ذوي الإعاقات) كذاتٍ تستحق الإنصات والحديث والتفكير؛
- الرهان الثاني ذو طبيعة سياسية ويتعلق بالتّمكين: تشكّل هذه الممارسات التي تستند إلى مبادئ النقاش الديمقراطي والذكاء الجمعي، أيضا فرصة من أجل التمرّن على التداول والإنصات إلى وجهات النظر المختلفة والتفكير النقدي والمركّب.
الفلسفة والديمقراطية
تاريخيا، بدأت التجارب الأولى لممارسة الفلسفة مع الأطفال في سبعينيات القرن الماضي في جامعة مونتكلير (Montclair) بالولايات المتحدة، مع أعمال الفيلسوفين ماثيو ليبمان (Matthew Lipman) (1923-2010) وآن مارغريت شارب (Ann Margaret Sharp) (1942-2010). وكان كلاهما من تلاميذ الفيلسوف الأمريكي جون ديوي (John Dewey) (1859-1952)، أحد مؤسسي الفلسفة البراغماتية، وهي فلسفة تسعى أن تكون تحرّرية، تنطلق من الواقع والتجربة وتستند إلى نموذج البحث الاستقصائي والمشكلة والمنهج العلمي. غير أن ثمة بُعدًا سياسيًا أيضًا في القضية، فقد رفض جون ديوي الرؤية التقنية للديمقراطية باعتبارها الآلية الرسمية الوحيدة. يرى ديوي على خلاف ذلك أن الديمقراطية هي أسلوب حياة، أي مجموعة ديناميكية من القدرات والعادات على مستوى السلوك والحديث والتداول مع الآخرين. نميل كثيرا إلى حصر الحياة الديمقراطية في إجراء لا يحدث إلا كل خمس سنوات -عملية التصويت- عوضًا عن تسليط الضوء على ما يجب العمل عليه كل يوم على مستوى تفاعلاتنا الاجتماعية اليومية. ومن هنا جاءت فكرة ليبمان وشارب بإنشاء «مجتمعات البحث الفلسفي» في الفصول الدراسية التي تضم أطفالًا صغارًا في السن، والتي تختبر مفهومهم للديمقراطية من خلال ترجمته إلى أفعال على أرض الواقع.
ورشات للتفكير
إن كل ما يكون موضوعا للعب وللممارسة في ورشات الفلسفة، وما يُخاض فيها من تجارب يسهم في تطوير عاداتٍ لدى الأطفال تتموقع في صميم متطلّبات سير الديمقراطية وأدائها. يجلس الأطفال خلال هذه الورشات معا مشكّلين دائرة -حيث تتقابل الوجوه مع بعضها البعض- ويقومون بصياغة الأسئلة وممارسة التفكير ومناقشة الأفكار المختلفة التي يتم التعبير عنها. وانطلاقا من سؤال ما (مثلا «ما هو القانون العادل؟»، أو «هل يمكن أن نكون أشرارا وسعداء؟»)، يُدعى الأطفال إلى صياغة الفرضيات واستنتاج الافتراضات الضمنية وعواقبها، ويُطلب منهم تبرير آرائهم، وتقييم صحة الاقتراحات المختلفة من الناحيتين العقلانية والأخلاقية بشكل جماعي. ويطوّر الأطفال في هذه الورشات، بصبر وأناة -بفضل الدعم الصارم من طرف معلّميهم- تفكيرا يكون نقديا وحذِرا وإبداعيا.
تعدّ الوسائط الثقافية ضرورات لا يمكن الاستغناء عنها في هذه الورشات، فالسرديات (مثل أدب اليافعين والأساطير والسينما) تسمح لنا باتّخاذ مسافة عاطفية من أجل التفكير بشكل واضح وجليّ. وكما قال الفيلسوف الفرنسي بول ريكور (Paul Ricoeur)، فإن الخيال هو «مختبر» هائل حيث يمكن تجربة جميع أبعاد الحالة الإنسانية. تُعيننا هذه التجارب التي نخوضها في «مختبر الخيال الكبير هذا (2)» - أن نصبح غير مرئيين من خلال لبس الخاتم السحري لجيجس (Gygès) بصحبة أفلاطون، أو الوقوع في الحب بصحبة سيرانو، أو مواجهة معضلة بصحبة شخصية نيو في فيلم ماتريكس –على إضفاء الوضوح على علاقتنا بالعالم: ما نعنيه بـ«الفضيلة» أو «الحب» أو «الحقيقة». وبالتالي، فإن هذه اللحظات الفلسفية هي أيضا فرصة لتجربة الوظيفة الأساسية للفن والخيال، لا بغرض التسلية والترفيه عن أنفسنا ونسيان الواقع، وإنما على العكس من ذلك من أجل تحريض أنفسنا على التفكير ولفهم هذا الواقع على نحوٍ أفضل (3).
إذا كان أحد التحديات الذي تواجهه التربية الديمقراطية هو محاربة مزالق الدوغمائية والنزعة النسبية، فينبغي على التعليم إذن تمكين مواطني ومواطنات المستقبل من تحصين أنفسهم من خلال التزوّد بدفاعات فكرية تجنّبهم الوقوع فريسة هذين «المرضين الشيخوخيّين اللذين تعاني منهما حداثتنا المتأخرة» على حدّ تعبير الفيلسوف ميشيل فابر (Michel Fabre) (4). تظل الدوغمائية (سواء كانت دينية أو سياسية أو اقتصادية) متصلّبة ومنغلقة على نفسها تدور حول إجابات قاطعة وغير قابلة للنقد؛ وعلى العكس من ذلك، تمنع النزعة النسبية نفسها من تقديم أية معايير موثوقة. وحدها المقاربة الهرمينوطيقية للعالم، والتي تقوم على التفسير الدقيق والصارم للظواهر، بإمكانها أن تلقي ما يكفي من الضوء على تعقيد الواقع والوجود وتُتيح نظرة ثاقبة بهذا الخصوص. يشبه العالم نصًّا يجب تأويله، ومثل أي تأويل أدبي، تبقى القراءات التي يمكن أن نقوم بها للنص متعددة، غير أنها تستند جميعها إلى بيانات وقائعية وثابتة.
عدم اليقين.. أمر صحّي
من خلال المشاركة المنتظمة في ورشات الفلسفة، يدرك الأطفال تدريجيًا أنه لا ينبغي لنا أن نخشى من عدم المعرفة، ويفهمون أن انعدام اليقين هو أمر ضروري وصحّي وطبيعي. وتُتيح ورشات الفلسفة -التي يشارك فيها الطفل بشكل منتظم- إمكانية تطوير موقف تأويلي بشأن المسائل الإنسانية الأساسية.
يرى الفيلسوف الألماني هارتموت روزا (Hartmut Rosa) - راعي كرسي اليونسكو: «ممارسة الفلسفة مع الأطفال» (5) - أن عصرنا يتميز قبل كل شيء بالضغط المستمر الذي تمارسه الوتيرة الجامحة للحياة على الأفراد، سواء كانوا بالغين أم أطفالا، حيث يواجهون العالم من دون أن يتمكّنوا من إمساكه وتملّكه. هذا الشعور بالحاجة إلى الإسراع باستمرار («أسرع!» هي العبارة التي يسمعها الأطفال كل يوم أكثر من أي عبارة أخرى..)، والشعور بالإرهاق الدائم، إضافة إلى استبطان قيم المنافسة والأداء والفردانية، كل هذا يؤدي في النهاية إلى القلق، والشعور الغامر بالذنب، والإحساس بفقدان المعنى أو حتى بالعجز عن السيطرة على الواقع وعلى حياة الواحد منّا (6).
تمنح ورشات الفلسفة للأطفال واحات للتفكير وفرصة لإبطاء السرعة من أجل أن يأخذوا الوقت الكافي للدخول في حوار مع أنفسهم ومع الآخرين ومع الأعمال الفكرية ومع العالم. تعدّ هذه الورشات إحدى الروافع التي يمكنها الإسهام في عملية التحرّر والاعتراف. وبالتالي فإن الرهان هنا لا يقتصر على الجانبين الديداكتيكي والبيداغوجي فحسب (دمقرطة الولوج إلى مادة مدرسية هي الفلسفة)، بل ثمة بُعد سياسي لهذه الورشات بالمعنى الأكثر نُبلا لكلمة «السياسة».
هوامش:
(1) : Michel de Montaigne, « De l›institution des enfants », Essais, Volume I, chapitre 26, 1580.
(2) : Paul Ricoeur, Soi-même comme un autre, 1990, réédition, Editions du Seuil, collection «Points», 2015.
(3) : Edwige Chirouter, Ateliers de philosophie à partir d›albums et autres fictions, Hachette, 2022.
(4) : Michel Fabre, Éduquer pour un monde problématique. La carte et la boussole, Presses Universitaires de France, 2011.
(5) : https://chaireunescophiloenfants.univ-nantes.fr
(6) : Hartmut Rosa, Rendre le monde indisponible, Editions La Découverte, 2020.
إدفيج شيروتي أستاذة باحثة في فلسفة التربية بجامعة نونت (فرنسا)، وحاملة كرسي اليونسكو: «ممارسة الفلسفة مع الأطفال: أساس تربوي من أجل الحوار بين الثقافات والتحول الاجتماعي»
عن مجلة علوم إنسانية، عدد 362