No Image
عمان الثقافي

فكر.. الحق في أن تكون مهاجرا غير مثالي!

29 نوفمبر 2023
29 نوفمبر 2023

عند الخروج لشوارع هنوفر هذه الأيام، تلمح شخصا واحدا على الأقل يرتدي الكوفية، أو أحد التنويعات عليها (يُحتفظ بنمط التطريز، لكن تُغير الألوان)، لا أدري إن كانت هذه وسيلة تحايل، أو أنها اكتفاء بأفضل المتوفر. في المُظاهرات أتتبع ما يلفه الناس حول أعناقهم، أو يضعوه فوق رؤوسهم، فألمح الكوفية البيضاء، الشماغ الأحمر، الشال اليمني، وحتى ما يبدو أنه مصرّ ظفاري. لعل الموضوع -بعد كل شيء- ليس موضوع وفرة ولا تحايل، بل على الأغلب مرتبط بتفتح الأعين والحساسية الخاصة لجميع أشكال انعدام المساواة التي تمنحها لنا غزة ضمن ما تمنحه من عواطف تهزنا، وتعيد تشكيلنا.

طُلب مني كتابة هذا المقال استنادا على مقال كتبته بداية الحرب، حمل عنوان «هل انتهى زمن التعايش؟»، لكن آرائي مثلها مثل كل شيء في هذه الحرب: سريع التغير، متهور، ويُصيب بالقنوط. والبذرة التي ظننتُ أنني أبدأ منها صارت تنتمي لتاريخ آخر.

ذكرت في ذلك المقال أنه حتى وقت قريب، كان يُنظر إلى أوروبا باعتبارها الملجأ الأخير للهاربين من الحروب أو من التضييقات السياسية والاقتصادية وتلك المتعلقة بالحريات الشخصية بالنسبة لشباب الشرق الأوسط (أو غيرها من بلدان العالم). أما اليوم فيبدو أن المهاجرين يفتقدون الشعور بالأمان، بل يشعروا أن وظائفهم، وسكنهم، ووجودهم بأسره مُهدد، وبالإمكان خسارتها بكل سهولة، أو تغيير حياتهم كما يعرفونها بمجرد الإدلاء برأيهم حول الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، أو إظهار أي رمز من رموز التعاطف مع الفلسطينيين. وتطرقتُ إلى الإرهاب الفكري الشرس، للحد الذي تساوت فيه معاداة السامية، ومعاداة إسرائيل. بل إن «السياقية» أصبحت هي الأخرى مرفوضة، أعني أن تقول إن ما فعلته حماس يأتي كرد فعل على سنوات من الإرهاب والظلم والحصار المفروض على غزة. لا يُشدد أمنيا على المظاهرات وحسب، بل تتم حاليا إعادة النظر في سياسات الهجرة، والتهديد بالترحيل، أو عدم منح الجنسية متى ما ثبت أن الفرد معادٍ لإسرائيل. الأمر الذي يجعل صِراع الغرب والشرق حاضرا بقوة، ويُهدد فرصة وجودة التعايش في المجتمعات الأوروبية.

استحضر المجازر التي ربينا ونحن نسمع عنها، أحاول تخيل ما سنقوله عن مجازر غزة بعد عشر سنوات، ربع قرن، لكني أفشل. كيف لي أن أفعل وأنا أشعر أن ليس ثمة غد فما بالك بسنة قادمة، أو عشر، أو ربع قرن. ثمة شرخ في نسيج الحياة يفصل بين ما كناه وما نحن عليه الآن.

ذبول. بلادة. عِناد. مقارعة للسلطة. هذه هي مفردات قاموسنا الجديد. ثمة بلادة يُحفزها العجز وقلة الحيلة، لكننا أيضا على شفى البكاء والهياج في الوقت نفسه.

العالم يستعيد ذاكرته. يُبعث من جديد أرشيف المعاناة والمقاومة. الزيتونات التي تُحرق في فيلم «خمس كاميرات محطمة»، «الزيتون شو ذنبها، الشجرة بتسبح لربها، شو ذنبها يولعوها». لا نُريد أن ننسى هذه المشاهد. النسيان ذنب هو الآخر.

خطابات الشهيد باسل الأعرج، ومنولوجاته التي يُصر فيها على تحطيم أصنام السلطة، وإصراره أنها (أي السلطة) في عقولنا وحسب، أننا من نمنحها القوة بالتصديق بها. فلا ننسى هذا أيضا.

«أنا متفاجأة من الدوغمائية الألمانية!» تقول صديقتي وهي فتاة تنحدر من باڤاريا، ليس لأهلها أي انشغالات ثقافية أو حقوقية بل إنها وكثيرا ما وصفتهم بالعنصريين. أُشدد على هذا الأمر، للتأكيد على أن بإمكان المرء أن ينجو، وأن يُعيد توجيه بوصلته الأخلاقية أيا كان موقعه. ينشغل اليسار الألماني بالحديث عن مُعاداة السامية عوضا عن انشغاله بكيف تُجابه الإبادة الحاصلة لسكان غزة. في المقابل، لا نتعب نحن أنفسنا بالعثور على عذر أو تبرير بعد. صار التسامح رديف الضعف والتنازل.

لا عجب في أن الكثيرين في ألمانيا لا يعرفون الكثير عن تاريخ القضية الفلسطينية، أو بالأحرى لا يعرفون سوى الرواية المضادة، خصوصا الأجيال الأسبق التي لا تتحدث سوى الألمانية، والتي لا سبيل لها لذلك وسط السردية التي يدفع بها التعليم والإعلام الألماني. لا أقول هذا للمطالبة بتفهم موقف بعض الألمان من القضية، ولكنه يأتي كانتقاد لسياسات التعليم والإعلام المنحازة.

كيف نفكر ونشعر حول مُداهمات الشرطة الألمانية للمتهمين بتأجيج خِطاب الكراهية على الإنترنت؟ الفكرة الأولى: غالبا ما تُبرر المضايقات والاعتقالات بأن أصحابها يستخدمون رموزا معادية لليهود بشكل صريح (مثل الصليب المعقوف)، لكننا نعلم أن المضايقات تحدث لأسباب أقل، كالمطالبة بفلسطين حرة النهر إلى البحر، أو وصف ما يحدث في غزة بالإبادة العرقية. مع هذا دعونا نتشجع ونُفكر في شاب يُنادي بإبادة اليهود فعلا. لا يسعنا إلا أن نضع هذه الصورة إزاء صورة من يصرخون «الموت للعرب»، وأتساءل عن الغرض من التشديد على نقد جانب دون الآخر، لماذا لا يستخدم الإعلام الألماني التبريرات ذاتها، أي القول إن ثمة حرب على الأرض، ذهب ضحيتها الآلاف حتى الآن، من الطبيعي أن تخون المرء لغته، أن ينفعل دون أن يهتم بالصوابية، بل إن تغيير الوضع يستلزم غضبًا لا يعرف الحذر. فالفكرة الأولى إذا هي إن كانت الدولة حساسة للغة المستخدمة، فلتُعامل جميع أنواع العِداء على قدم المساواة. الخطوة الأولى إذا هي في عدم التمييز بين جميع أنواع خطابات الكراهية. متى ما تحقق هذا، يُمكننا أن نتحدث عن سقف حرية التعبير، وما يستلزم التدخل، وما لا يستلزمه. والحديث عن عدم التمييز بين أنواع خطابات الكراهية ليس محصورا على القوانين، بل أيضا على المساحة التي يشغلها التعاطي مع المسألة من الفضاء الإعلامي.

الفكرة الثانية: المطالبة بمهاجرين مثاليين. عداء السامية، مثله مثل أي شكل من أشكال الانحياز والعنصرية ظاهرة تشترك فيها المجتمعات بنسب تزيد أو تنقص حسب احتكاك المجتمعات المختلفة ببعضها. ما تُطالب به ألمانيا من المجتمعات المهاجرة هو أن تكون خالية من أي جانب سلبي (بداية بتبني الأفكار، وانتهاء بالأفعال الإجرامية)، فيما تشفع لمواطنيها الذين لا يأتون من خلفيات مهاجرة، تشفع لهم بسهولة، وتعد أي فعل مضاد للمجتمع -متى ما قدم منهم- جزء طبيعي للسلوك الإنساني. فلماذا يُجبر المهاجرون على الامتثال لقاعدة «غلطة الشاطر بألف»؟ فيما يتم التسامح مع آخرين. الأفراد حين يحملون أفكارا عنصرية، أو يقومون بأفعال تحفزها تلك الأفكار العنصرية - فهم يصبحون مدعاة للنقد والعقاب وهذا شيء يُمكن قبوله. أما أن تُشرعن العنصرية عبر استغلال القضية للتقليل من المهاجرين، وتمرير سياسات منحازة ضد القادمين من خلفيات غير أوروبية فهذا ما لا يُمكن القبول به.

من الطبيعي أن تؤجج مشاعر الغضب حين لا يجد المرء أن الحكومة التي يعيش في ظلها (والتي انتخبها في كثير من الحالات) تُمثله. وما تفعل ألمانيا اليوم من الاصطفاف غير المشروط مع إسرائيل يُغضب الشارع. الشعور أن ثمة رواية يتم الدفاع عنها بكل شراسة، إرهاب فكري لا يعرف الرحمة ضد كل من ينتقد الاحتلال الإسرائيلي، يُذكي هذا شعورا بأن ثمة «مؤامرة» يقف فيها المستعمر القديم في صف المستعمر الجديد جنبا إلى جنب، لانتزاع ما ليس لهم أي حق فيه.

الشعور بتآمر العالم عليك محبطٌ بشكل خاص لأنه يقتل كل أمل في أن تسير الأمور للأفضل. فنحن إن نجونا اليوم، لا نملك أي أرضية مشتركة للحوار، لا يبدو أن بالإمكان الاتفاق على الحقائق. فالجانب الفلسطيني يقول أن عدد الشهداء هو س، يرد الجانب الإسرائيلي أنه لا يُمكن الثقة بمصدر هذه المعلومة لأنها قادمة ممكن يعدوهم أعداءً، والاستناد إلى بيانات ومعلومات المؤسسات الحقوقية والدولية المحايدة (بقدر ما يُمكن أن يكون الحياد) لا يُفلح في حل خلاف الموثوقية؛ لأن بالإمكان دائما الطعن في حياديتها (أي المؤسسات)، ومسائلة تأثرها بالجهات التي تمولها، أو اللوبيات التي تضغط عليها، وإلى ما لا نهاية من وسائل التوجيه المباشرة وغير المباشرة التي تجعل الوثوق بمصدر ما مهزوز.

الفكرة الثالثة (وكنتُ قد تحدثتُ عنها في مقالي المُشار إليه سلفا): إن ما لا يبدو الغرب قادرا على فهمه في مسألة عداء السامية، أن لغة الاعتراض العربية لا تتطابق بأي شكل مع تلك الغربية لأن سياقها مختلف تماما. فعندما يقول العربي (أو الشرقي ما دمنا نتحدث عن محور الشرق والغرب) «اليهود» فهو يقصد من استوطن أرضه، لا يخطر بباله عداء اليهود كما تعرفه أوروبا لأنه لم يكن يوما جزءا منه، ولأن عداءه مع اليهودي لا علاقة له بهويته كيهودي بل بكونه مستوطنا للأرض. وهكذا فما يقوله رجل ألماني يُمكن أن يُعد عداءً للسامية، فيما لا يُعد القول نفسه كذلك عندما يخرج عن فلسطيني يعيش في ألمانيا.

يبدو أن الألماني المعاصر ليس مشغولا بالذنب بالشكل الذي يتوقعه، إن ما يهزه في هذه الحرب هو الهوية الألمانية التي ينطوي عليها تلقائيا الدعم غير المشروط لإسرائيل. والتفريق بين الشعورين مهم لأن الهوية يُمكن أن يولد معها الشخص، أعني أنها قد تكون مكتسبة وسالبة، في حين شعور الذنب ملازم ونشط. يرى الألماني نفسه كمواطن مَثل، ولو أنه يُمكن المجادلة أنه تفكير رغبوي أكثر منه واقعي، أي ما يتمنى أن يكونه، عوض ما هو كائن. أقول إن المواطن الألماني المثالي يُريد أن يُصدق أن كل مواطن لا يعبأ من أي خلفية يأتي شقيقه المواطن، ما لونه، عرقه، توجهه الجنسي، كل ما يُهم هو السواسية المكتسبة من كون الجميع يحملون الجواز الألماني. ماذا يعني أن تكون ألمانيا؟ يعني أن تكون وريثا لتبعات الحرب العالمية الأخلاقية والسياسية، ودعم إسرائيل جزء من ذلك، جزء من منطق الدولة (Staatsräson). وهذا المفهوم لا يعني تماما «المصلحة العليا»، ولو أنه يحتمل هذا المعنى أيضا، إنما يعني المبدئ الذي يُعد المعيار الأعلى لكل أفعال الدولة، حتى لو عنى ذلك القبول بالخروق الأخلاقية والقانونية (أي ما تفعله إسرائيل ببساطة). وتقديم هذا المصطلح يُقربنا قليلا من فهم الموقف الألماني. يشعر الألماني إذا أن هويته مُخترقة حين ينشط المعادون للسامية، لأن العداء يأتي مع انتباه لعرقك، ولقوميتك، وعرق الآخر وقوميته، وهذا ما يجرح الألماني، وهو ما يُكافح ضد تصديقه، وبكونه واقع الحال.

يشعر المسلم والعربي بعدم الأمان، أو على الأقل عدم الراحة. يشعر الألماني أيضا بهذا لأن الحكومة تقف دون شرط خلف إسرائيل، بينما يُشكك المواطن العادي بمدى أخلاقية وحكمة هذا الموقف. ليس صعبا على ألمان الجيل الجديد الوصول إلى مصادر أخرى للمعلومة، هذا يعني أن ما يشكل رأيهم ليس الصحافة والإعلام الألماني وحده، ورغم أن البعض يملك قناعة بأن الدولة لا تتعامل مع الموقف بشكل ملائم، إلا أن الجميع لديه نوع من التخوف حول الإدلاء بآرائهم الفعلية، يصل حد هذا التخوف من دوائر الزملاء الضيقة، والأصدقاء، والعائلة. يُمكننا الحديث مطولًا ورده بشكل سطحي إلى الخوف المورث من أيام نشاط الشتازي. ولكن أظن أن ثمة شيء آخر، الخوف من أن تُجانب الصواب، من أن يخونك التعبير، من أن تخرج عن الصورة المثالية التي تُريدها لنفسك.

مع اقترابنا من اليوم الـ50 على الحرب (حتى وقت كتابة هذا المقال)، والمرور بحالات الـ: الصدمة، إعادة التفكير بالهوية، والآن وقد حل أسبوع جديد، ها هو الإعلام الألماني ينشغل بالدين العام واضعا الصراع الفلسطيني الإسرائيلي على الرف. لكن من يُتابع عن كثب يُدرك أن القضية ستبقى حية، فهذه ليست حربا على غزة، إنها ثورة ضد كل أشكال عدم المساواة في العالم.

نوف السعيدي كاتبة وباحثة عُمانية في مجال فلسفة العلوم