Untitled
Untitled
عمان الثقافي

فارس اسمه الموت(1)

28 أغسطس 2024
28 أغسطس 2024

«فنظرتُ وإذا فرسٌ أخضر، والجالسُ عليهِ اسمهُ الموت، والهاويةُ تتبعه»

(سفر الرؤيا)

«وَأَمَّا مَنْ يُبْغِضُ أَخَاهُ فَهُوَ فِي الظُّلْمَةِ، وَفِي الظُّلْمَةِ يَسْلُكُ، وَلاَ يَعْلَمُ أَيْنَ يَمْضِي، لأَنَّ الظُّلْمَةَ أَعْمَتْ عَيْنَيْهِ»

(يوحنا)

6 مارس

وصلتُ موسكو مساء أمس. لا تزال مثلما هي. الصُلبان تلمع فوق الكنائس، والمزالج تصدر صريفا على الثلج. الصباح برد قارس، الزخرفة على النوافذ، وفي دير ستراستنوي تقرع الأجراس لقداس النهار. إني أحبُ موسكو، القريبة من قلبي.

أحمل جوازا ممهورا بالختم الأحمر للملك الإنجليزي وتوقيع اللورد لانسدون؛ مذكورا فيه أني، جورج أوبراين، من رعايا بريطانيا، أقومُ برحلةٍ إلى تركيا وروسيا، وفي الأراضي الروسية أضافوا ختم «سائح».

في الفندق كان كلّ شيء مألوفا حدّ الضجر: البوابُ في السترة الزرقاء، والمرايا المُذّهبة، والسجاد. في غرفتي ديوانٌ رثٌ والستائر مُغبّرة. وتحت الطاولة ثلاثة كيلوجرامات من الديناميت جلبُتها معي من خلف الحدود. إن للديناميت رائحة مُطهراتٍ قوية وفي الليل يؤلمني رأسي منها.

سأتجول اليوم في موسكو. الشوارع مظلمةٌ وثلجٌ خفيف. ثمة ساعة تدّق في مكان ما. وأنا وحدي تماما. أمامي حياةٌ وادعة وبشرٌ هانئون. أمّا في القلب فيتردد صدى الكلمات المقدسة: «سأعطيك نجمة الصباح».

8 مارس

لدى إيرنا عينان خضراوان وضفائر سميكة. تدنو مني بخجل وتقول:

- لعلك تحبني ولو قليلاً؟

ذات يوم بعيد منحت نفسها لي كملكة، وكان لسان حالها يقول: لا تطالبني بشيء، لا تأمل مني شيئا. أما الآن فتتسول الحب مثل شحاذة. نظرتُ عبر النافذة إلى الساحة البيضاء وقلت:

- أنظري، ثلجٌ ناصع. فتخفض رأسها وهي صامتة، حينها أقول:

- كنت مساء في ساكولنيكي. الثلج هناك أنصع. إنه وردي، وظلال البتولا زرقاء. فأقرأ في عينيها:

- هل ذهبت من دوني؟

وأقول مجددا:

- اسمعي، هل سبق لك أن ذهبت إلى قرية روسية؟

تجيب:

- كلّا.

- إذن، ففي أوائل الربيع، حين يكون العشب قد اخضرّ في الحقول فعلا، وفي الغابة تفتحت أزهار الثلج، يكون الثلج قابعا في الوديان بعدُ. شيء غريب: ثلجٌ أبيض وأزهارٌ بيضاء. ألم تري ذلك؟ لا؟ ألم تفهميني؟ لا؟

تجيب:

- كلّا.

بينما أفكّر أنا بيلينا.

9 مارس

يعيش الحاكمُ العام في قصرهِ، محاطا بالجواسيس والحراس.. سياجٌ مزدوجٌ من الحِرابِ والنظراتِ الصارمة.

عددنا قليل، خمسةُ أشخاصٍ فقط. فيودور وفانيا وهاينريش وهم حوذيون، يقومون بمراقبتهم بلا انقطاع ويبلغونني عن ملاحظاتهم. إيرنا كيميائية وتقوم بتحضير المتفجرات.

على مكتبي أقومُ برسم مسارات الخطة وأحاول مُباركتها. نلتقي معاً بالضيوف في صالات القصر. معا نتجول في الحديقة، خلف السياج. معا نتخفى في الليل، ومعًا نبتهل لله.

لقد رأيته اليوم. انتظرته في تفيرسكايا حيث تسكعتُ طويلا على الرصيف المتجمّد. هبط المساء وتجمّد الهواء وكنت قد فقدت الأمل. فجأة لوّح المأمور بقفازه من الزاوية. تقدم رجالُ الدرك إلى الأمام صفا واحدا، وهرع المخبرون. تجمّد الشارع.

مرّت عربات الشرف حذو الرصيف وهي تنهب الشارع. خيول سوداء. سائقٌ بلحية حمراء. عروة الباب المحدودبة، مشدات العجلات الصفراء. والحرسُ في مزالجهم يتبعون كل ذلك.

بالكاد تعرفت عليه وأنا أجري بسرعة، أمّا هو فلم يرني. كنت بالنسبة له قطعة من الشارع.

سعيداً وبخطى وئيدة عدتُ إلى مسكني.

10 مارس

حين أفكر به فإني لا أحمل له غلا أو ضغينة. الشفقة أيضا لا أحملها له. إنه سيّان بالنسبة لي. مع ذلك أريده ميّتا. أعرف أنه من اللازم قتله. لزاما لأجل الكفاح المسلّح ولأجل الثورة. إني لا أؤمن بالكلمات؛ أؤمن بأن القوة تحطّم القشة. فإن كان بمقدوري لقتلت كلّ الرؤساء والحكّام. لا أريد أن أكون عبدا. لا أريد أن يكون هناك عبيد قط.

يُقال: إن القتل مُحرّمٌ. ويقال أيضا: إنه من الممكن قتل الوزير، ولكن لا يصحّ قتل الثوري. كما يُقال عكس ذلك.

لست أعرف لماذا لا يصّح القتل. ولن أفهم أبدا لماذا يكون القتل باسم الحرية جميلا، وقبيحا حين يكون باسم السُلطة.

أتذكر حين ذهبت للصيد أوّل مرة. كان الحقل أحمر، تدلت خيوط العناكب، والغابة كانت صامتة. وقفت في بقعة مكشوفة، حيث خلّف المطرُ حفرا في الدرب. أحيانا يُسمع حفيف البتولا، وتتطاير الأوراق الصفراء. وقفتُ أترقب. فجأة تمايل العشب، ومن بين السيقان انسلّ أرنبٌ صغير، رماديّ اللون مكوّرٌ، وبحذرٍ جلس على قائميه الخلفيين. تلّفتّ حولي، ورفعت سلاحي مُرتجفاً. ثم ارتجع الصدى في الغابة، وانبثق دخان أزرق بين أوراق البتولا، وعلى العشب القاني، كان الأرنبُ الجريح يرفس، غارقا في دمائه. كان يصرخ مثل طفلٍ يبكي. لقد شعرت بالشفقة نحوه. أطلقت النار مرّة أخرى فهمدت أنفاسه.

في البيت، نسيت أمره من فوري، فكأنه لم يعش قطّ، كأني لم أسلب منه أغلى ما لديه – الحياة. ثم سألت نفسي: لماذا تألمتُ حينما كان يصرخ؟ ولماذا لم أتألم وأنا أقتله إرضاءً للمتعة.

11 مارس

الحداد فيودور، عامل سابق من بريسنيا. يرتدي مريولا أزرق وقبعة حوذيّ، وكان يرتشف الشاي من صحنِ الكوبِ.

قلتُ له:

- هل شاركت في ِصدامات ديسمبر؟

- من أنا؟ كنتُ قاعدا في المهجع.

- في أي مهجع؟

- إحدى المدارس، في المدينة.

- لماذا؟

- كنت في الاحتياط. أحرس قنبلتين.

- هذا يعني أنك لم تشارك في إطلاق النار؟

- وكيف لا؟ لقد شاركت.

- فلتحدثني إذن.

لوّح بيده.

- لا شيء يُذكر... جاء سلاح المدفعية وراحوا يرجموننا بالمدافع.

- وأنتم؟

- ونحن أيضا... رجمناهم بالمدافع. صنعناها بأنفنسنا في المعامل. مدافع صغيرة، مثل هذه الطاولة، ولكنها تدّكُ بصورة جيدة. وقد أطحنا منهم خمسة عشر رجلا. ولكن سريعا ما ارتفع ضجيجٌ حيث وقعت قذيفة على السقف وفجّرت ثمانية منا.

- وماذا عنك؟

- أنا؟ وماذا عنّي؟ كنتُ رأس الاحتياط وبقيت مع القنابل في الزاوية. بعدها صدر القرار.

- أي قرار؟

- قرار اللجنة بالخروج. كان واضحا أن الوضع بحاجة إلى التروي... فانتظرنا قليلا وغادرنا.

- وأين ذهبتم؟

- نزلنا إلى الطابق السفلي، فالرمي من هناك أسهل.

لم يكن متحمسا للكلام. وقفت أنتظر.

قال بعد برهة صمت:

- نعم، لقد كانت وحدها هناك... وقد تضامنت معي... كما لو أنها زوجتي.

- وبعد؟

- وماذا بعد؟ لا شيء... قتلها القوزاق.

من خلف النافذة تلاشى النهار.

13 مارس

يلينا متزوجة. إنها تعيش هنا، في موسكو، ولا أعرف شيئا آخر عنها. في أيام الفراغ أتجول صباحا في الشارع، حائما حول دارها. الثلج الرقيق يطقطق تحت قدميّ. أسمع كيف تدّق ساعة البرج ببطء. لقد بلغت الساعة العاشرة. أجلس على المصطبة وبصبرٍ أراقب الوقت. أقول لنفسي: لم أصادفها بالأمس وسأصادفها اليوم.

رأيتها أول مرّة قبل عام. كان ذلك في الربيع حين توقفتُ في مدينة ن. في الصباح خرجت إلى حديقة كبيرة وظليلة. على الأرض الرطبة سمقت أشجار البلوط القوية وأشجار الحور النحيلة. كان المكان هادئا مثل كنيسة. حتى الطيور لم تشدو. وحده الجدول كان يهدرُ. نظرتُ إلى مجراه فرأيت الشمس تتلألأ في رذاذه. أنصتُّ لرقرقة الماء. رفعت عينيّ. على الضفة الأخرى وقفت امرأة وسط شبكة من الأغصان الخضراء.

لم تنتبه لوجودي. ولكني كنت أعرف أنها تنصت إلى ما كنت أنصتُ له. تلك كانت يلينا.

14 مارس

أنا في غرفتي. ثمة من يعزف على البيانو مِن فوقي. خطواتٌ تغوص في سجّادٍ ناعم.

لقد تعوّدت على حياة التنقّل. تعوّدت على الوحدة. لا أريد معرفة المستقبل. أحاولُ نسيان الماضي. لا وطن لي، لا اسم، لا عائلة. إني أقول لنفسي:

نعاسٌ أسود عظيم (2)

يسود حياتي

أملي كلّه في النوم

جلّ رغبتي في النوم

لكنّ الأمل لا يموت. الأمل في ماذا؟ في «نجمة الصباح»؟ إني أعرف أنه، وبما أننا قتلنا بالأمس، فسنقتلُ اليوم أيضا، ولا مفرّ من أن نقتل في الغد أيضا. «ثم سكب الملاك الثالث جامه على الأنهار وعلى ينابيع المياه فصارت دما»(3). وإنه لن يكون بالمستطاع غسل الدم بالماء وحرقه بالنار. فمع الدم إذن، من الآن وحتى القبر.

لم أعد أرى شيئا

وإني لأفقد ذاكرتي

بحلوها ومرّها

فيا للقصة الحزينة.

سعيدٌ من يؤمن بقيام المسيح ونشور لعازر. سعيدٌ أيضاً من يؤمن بالاشتراكية، وبالجنة الموعودة على الأرض. إلّا أن هذه الحكايات المأثورة مضحكة بالنسبة لي. لقد قلتُ إني لا أحبُ أن أكون عبدا، فهل حريتي تكمن في هذا! وما حاجتي بها؟ باسم ماذا أسعى للقتل؟ باسم الكفاح المسلّح، لأجل الثورة؟ باسم الدم، لأجل الدم؟

أنا مهدٌ

دع اليد تتأرجح

في قرارة القبو

وليعمّ الصمت...

الهوامش:

1- النص جزءٌ من رواية قيد الترجمة

2- هذا المقطع وما يليه للشاعر الفرنسي بول فيرلين وقد وردت بالفرنسية في الأصل- المترجم

3- سفر الرؤيا – المترجم