عمان الثقافي

عن الثقافة والمثاقَفة حول الهوية وأزمة الخوف من الآخر

30 أكتوبر 2024
30 أكتوبر 2024

الحديث عن الثقافة في مجتمعاتنا العربية دائم مستمر لا يتوقف، وهو حديث يكشف عن أزماتنا أكثر مما يدل على ثقافتنا نفسها، وإذا كان من الممكن القول إنّ دولاً ومجتمعات أوروبية متقدمة تتحدث أيضًا عن الثقافة، فإنّ حديثها ليس حديث أزمة، لكنه حديث تقدمٍ وتطور في المعارف والعلوم والفنون والآداب، وليس حديثًا يشبه حديثنا نحن في مجتمعاتنا العربية التي لا تزال حتى لحظتنا هذه مشغولةً بالآخر الذي طالما هو متفوق علينا فإنّ احتمالية نظرية المؤامرة قائمة، ومن ثم لا يكاد حديثنا عن الثقافة ينتهي حتى ينتقل إلى حديث عن المثاقفة بصفتها في وعي البعض مفهومًا يعرّض ثقافتنا المأزومة أصلاً لأخطارٍ تهددها!

فما الثقافة؟ وما المثاقفة؟ وهل هناك تهديدٌ حقيقي على ثقافتنا من مفهوم المثاقفة هذا؟

(1)

بالنسبة لـ (الثقافة) ربما لن يكون جديدًا أنْ نردد أنّ ثقفَ الشيء حذقَه، والتثقيف التسوية، وكل اشتقاقات الكلمة في معجمات العربية تدور حول المهارة وسرعة التعلم وحُسن تدبير الأمور بمهارة، وانفردَ معجم مقاييس اللغة لأبي علي الفارسي بقوله: «الثاء والقاف والفاء كلمة واحدة إليها ترجع الفروع، وهو إقامة درء الشيء».. يقول الشاعر العربي القديم:

«نظرَ المثقفِ في كعوب قناتِه.. حتى يقيم ثقافُه منآدَها»

فالمثقف لغةً هو الشخص الماهر، المتعلم، الذي يعمل على تغيير الشيء من أجل تسويته وإصلاحه، وهو المعنى الذي لا يختلف عنه اصطلاحًا ومفهومًا، والتغيير الوحيد الذي طرأ على الكلمة في الاصطلاح هو انتشار وذيوع كلمة (المثقَّف- بتشديد وفتْح) بديلاً عن كلمة (المثقِّف- بتشديد وكسْر).. وهو في تصوري انتشارٌ وذيوع لهما من الدلالة ما يتصل بما نناقشه؛ حيث يبدو وكأن عملية التثقيف -بانتقالها من تسوية الرمح وتهذيبه وما شابَهه إلى تسوية الخَلق أو العِلم، وهي المهمة التي كان يقوم بها (المثقِّف) في جذر الكلمة- لم تكن ذائعة ومنتشرة بسبب قِلة المثقِّفين في البيئة التي نشأ فيها الجذر اللغوي للكلمة بسبب انتشار الأميّة.. كان طبيعيًا أن تلقى تبعة المَهمة إلى مَن وقع عليه التثقيف فصار (مثقَّفا) ليقوم هو بعملية التثقيف، لتصبح الإشارة إلى المثَّقف -اسم المفعول- باعتباره المثقِّف -اسم الفاعل.

وانطلاقُ كثيرٍ من الكلمات في اللغة العربية من جذرها اللغوي إلى مفهومها اصطلاح معروفٌ ومنتشر، ويكاد يكون مستقرًا في الوعي العام أن هذا الانتقال يتم عبْر رحلة طويلة من استخدام الكلمة مصحوبة بتغييرات تطرأ دائمًا على المصطلح، تبعًا للبيئة وسياق المجتمعات التي تستخدمه، ومن هنا يمكن فهم واستيعاب المعاني والدلالات المختلفة لكلمة (الثقافة) في وعينا الحديث أو المعاصر، بدءًا من التعريفات التي تجعلها دالةً على البراعة والمهارة في التخصص الدقيق، مرورًا باعتبارها الأخذ من كل عِلم بطرف، وليس انتهاءً بتصورها مجموعة من الآداب والفنون يعمل تحصيلها على تسوية الإنسان وتغييره للأفضل، حتى نصل إلى واحدٍ من أهم تعريفاتها المعاصرة بأنها تضم مع الآداب والفنون مجموعةَ العادات والتقاليد الموروثة والحديثة لبيئةٍ ما أو لمجتمع بعينِه. لكن حتى هذا التعريف الأخير يظل قاصرًا، من وجهة نظرنا على الأقل، بسبب غياب عنصر الوعي فيه، والتعريف الذي نراه يتسق مع معارفنا وعلومنا الآنية والمعاصرة هو ما يجعل الثقافةَ تلك العملية التي يتحول فيها الإنسان من مجرد وجوده الطبيعي إلى الوعي بهذا الوجود.. وعملية الوعي تلك هي التي تفصله تمامًا عن باقي الموجودات الأخرى بسبب تمتعه بميزة العقل، وما دام الإنسان واعيًا وعاقلاً بوجوده ووجود باقي الموجودات حوله، فهو ساعٍ دائمًا وأبدًا إلى عملية التغيير التي يشير إليها الجذر اللغوي للكلمة.

ومن هنا تكاد تكون المهمة الأولى للثقافة أو المثقف هي التغيير، ومهمة التغيير لا تبدأ بتغيير الأشياء أو الموجودات أو الثورة عليها، لكنها تبدأ دائمًا بتغيير الوعي، وهي مهمة المثقف الحقيقي.. فهو ليس مطالبًا بمحو الأميّة الأبجدية -تلك مهمة غيره من المتخصصين فيها أفرادًا ومؤسسات- لكنه مطالَب بممارسة دوره ومهمته في التصدي للأميّة الثقافية بمحاولة الخروج بها ومعها من حيز الرضا والقناعة بالوجود الطبيعي فقط إلى الإحساس والوعي بهذا الوجود، وهو ما يتطلب ليس فقط مهاراتٍ خاصةً وعِلمًا وحكمة، لكنه يتطلب صبرًا طويلا، ومواجهاتٍ صعبة وعسيرة مع أفكار واتجاهات وقناعات استقرت بسبب رسوخها وقِدمها في الوجدان، وتحولت إلى ثوابتَ ومسلّمات، فضلاً عن الضريبة الباهظة التي يدفعها المثقفون دائمًا ثمنًا لتلك المواجهات.

والحديثُ في مجتمعاتنا العربية عن ضرورة محو الأميّة الثقافية تَرفٌ نحن مضطرون إليه، والذين يتحدثون ليل نهار عن أهمية محو الأميّة الثقافية باعتبارها أخطر من الأميّة الأبجدية محِقون نظريًّا، لكنْ عمليًّا لا يمكن الحديث عن مواجهة أميّة ثقافية دون القضاء قضاءً تامًا على الأميّة الأبجدية، إذا كنا طامحين إلى ثقافةٍ حقيقية، وإلا ظللنا على ما نحن عليه من أحاديثِ النخبة للنخبة دون أن يكون لهذه الأحاديث تأثير على المجتمع بأبنيتِه وأنساقه الاجتماعية والسياسية والاقتصادية.

ولأننا مضطرون إلى ذلك فسأكتفي هنا بإشارات قليلة عن مسألة الأميّة الثقافية، إذ إنّ دور المثقف فيها ليس توفير ما يظن أنها آلياتها أو وسائل القضاء عليها من موادّ أو كتب أو حتى فعاليات؛ فالواقع يشير إلى وجود كل الوسائل والآليات التي مِن شأنها مواجهة الأميّة الثقافية، بل القضاء عليها تمامًا، ورغم ذلك فما تزال ظواهر الأميّة الثقافية وتجلياتها قائمة؛ والسبب في ذلك أن أحدًا لا يريد أن يلتفت إلى أن هناك عيوبًا ومثالب في عمق الثقافة السائدة نفسها، وفي جوهر المنطلَقات التي ينطلق منها الجميع دون استثناء، ومن ذلك جدلية الإنسان العربي مع الدنيا والآخِرة، وعلاقته بالمقدس، وسيادة ثقافة الموت، ثم غياب الحريات العامة كمفهومٍ ثقافي مجتمعي بسبب طبيعة السلطة والأنظمة السياسية، ومن ثم يأتي بعد ذلك الاستسلام لثقافة التكرار والترديد وإعادة إنتاج ما سبق إنتاجه، مع عدم الإيمان بفكرة حرية النقد وقيمتها، والإحساس المجتمعي على كل المستويات بامتلاك الحقيقة الوحيدة أو المطلَقة.. وكل تلك أمور يصعب إنْ لم يكن يستحيل معها الحديث عن دور المثقف وقدرته على مواجهة الأميّة الثقافية حديثًا علميًّا.

(2)

أمّا (المثاقَفة) Acculturation وصيغتها (مفاعَلَة) فتشير أول ما تشير إلى المشارَكة بين طرفيْن، ولا بدّ فيها من وجود الآخَر أو الغير دائمًا، والمفردة بصيغتها تلك حديثة عهدٍ باللسان العربي وبالتداول الإعلامي، ولا شك أنها ثمرة طبيعية من ثمرات التواصل مع الثقافة الغربية، ولا نرى حرجًا في ذلك على الإطلاق، مع الأخذ في الاعتبار أن تداول الكلمة وجريانها متعلق بالأمم والشعوب والحضارات أكثر من تعلقِه بالأفراد، بمعنى أن المثاقَفة هي عملية التواصل الحضاري والثقافي بين ثقافات أو شعوب .. ويمكن أن تظهر لنا تجليات عملية المثاقفة في أكثر صورها لو استدعينا من الذاكرة ما حدث في الثقافة الإسلامية في القرن الثالث الهجري من مثاقفتها مع اليونان بترجمة كنوزها المعرفية آنذاك، ومن ثم لا بدّ لأي عملية مثاقَفة من تأثير، قد يكون طفيفًا وقد يكون كبيرًا. لكن المشكلة في الثقافة العربية المعاصرة هي إحساسها الدائم أنها ثقافة متربَّص بها من الآخَر، فالمثاقفة في ذهنية الكثيرين تتحول بقدرة قادر إلى ما يطلِقون عليه اسم (الغزو الثقافي!)

الأمر الذي يكشف عن هشاشة تلك الثقافة وعن ضعفها أمام الآخَر؛ لأن المسكوت عنه أن الآخَر عنده من القدرات والإمكانيات الثقافية والحضارية ما يستطيع به أن يغزوني، وأنني ضعيف للدرجة التي لا يمكن أن أكون أنا غازيًا له! ومشكلة تلك الذهنية في إصرارها على تضييق اختياراتها بين الانصهار الكامل والذوبان في ثقافة الآخَر، وبين العزلة أو الانعزال التام الذي يؤدي إلى القطيعة والعداء، وكأنه ليس هناك اختيارات أخرى!

ويقع في هذا الوهم باحثون وأكاديميون كبار، منهم على سبيل المثال الدكتور حسن حنفي في كتابه الشهير «مقدمة في علم الاستغراب»، حيث اعتبَرها مخططًا للقضاء على الثقافات المحلية، وفرضِ ثقافة الآخَر للهيمنة والسيطرة.. ولعل أهم الكتب التي صدرت تتناول قضية المثاقفة كان كتاب «المثاقفة وتحولات المصطلح - دراسات في المصطلح النقدي عند العرب»، للدكتور زياد الزعبي سنة 2007 عن وزارة الثقافة الأردنية، وهو كتاب مهِم من حيث إنه رحلة في تتبع المفهوم أو المصطلح داخل الثقافة العربية، وعلاقاتها وتفاعلاتها وعمليات التأثير والتأثر التي خضعت لها، خاصة مع الثقافة اليونانية تحديدًا.

أمّا ما دون ذلك فيظل مصطلح ومفهوم المثاقفة جنبًا إلى جنب مفاهيمَ ومصطلحاتٍ كثيرة يدور الخلاف حولها كالعولَمة، والكوكبية، والنظام العالمي الجديد، وما إلى ذلك ما ينتج في الأصل والأساس من عمليات التواصل مع الآخَر الحضاري.

وكاتبُ هذه السطور مِن المؤمنين تمامًا أن المثاقفة واحدة مِن أهم آليات التغيير دون شروط ودون ضوابط، ما دُمنا معترفين جميعًا بتفوق الآخر علينا في كل المجالات والحقول المعرفية، إنسانيةً كانت أم تكنولوجية. أمّا الخوف على الهوية، والرعب من الانسحاق، والهلع من فكرة الذوبان، أو من فكرة غزو الآخَر لنا، فكل تلك أفكار وتصورات تنبع من الإحساس بالدونية وبالضآلة أمام الآخَر المتفوق. والحقيقةُ أن المعرفة بمعناها الواسع والعريض أول شرطٍ من شروط قدرتنا على مجابهة الآخر ومواجهته، ولا سبيل لهذه المعرفة إلا بالتواصل مع مَن يمتلكها أو القادر على إنتاجها، وهو تواصل معرفي وثقافي لا يعني التخلي عن الهوية ولا عن الخصوصية.

أشرف البولاقي شاعر وكاتب مصري