عبدالفتاح الجمل وجيل الستينات ومدرسة المساء الصحفية في مصر
في النصف الثاني من عقد السبعينات في القرن المنصرم، كان هناك حصار قوي يضرب في الحياة الثقافية المصرية، وكانت كذلك حرب ضروس ضد كل المجلات الطليعية التي كانت تصدر في مصر، وعلى رأس تلك المجلات، كانت مجلتا «الكاتب، والطليعة»، وهما آخر حصنين كان المثقفون والكتّاب والمبدعون المصريون يلجأون إليهما، جريدة الأهرام كانت مغلقة على أسماء معينة يختارها المشرفون على صفحاتها الثقافية بعناية فائقة، بحيث لا يفلت اسم من هنا أو هناك يكون سببا في أي إزعاج، ومن ثم هجرها المثقفون من الأساس، رغم أنها كانت تنطوي على أسماء بالغة الأهمية مثل نجيب محفوظ، وقد اكتفى الكتّاب بالالتقاء به على مقهى ريش كل عصر يوم الجمعة من كل أسبوع، كذلك كان هناك توفيق الحكيم الذي كان يلقى قدرا من الاحترام وسط المثقفين، ولكن لا الحكيم، ولا محفوظ كانت لهم أي سلطة على توجيه الثقافة في الجريدة، أما جريدة الأخبار فكانت تعاني المرض ذاته، وإن كانت الصحفية الشابة عبلة الرويني استطاعت أن تمرّر بضعة أخبار محدودة، مع نشر حوار قصير مع الشاعر أمل دنقل، وظلّ الأمر هكذا دون أي آفاق لتجاوزه في تلك المؤسسات الكبرى، ومعهم مؤسسة الجمهورية التي كانت تضم بعضا من الكتّاب الطليعيين، تلك الجريدة التي أسستها ثورة 23 يوليو في عام 1953.
في ذلك المناخ كان المثقفون والكتّاب والمبدعون، يعتمدون على مخرجين ذي حيوية فائقة، المخرج الأول كان يتلخص في النشر في صحف ومجلات بغداد وبيروت ودمشق والبحرين والكويت كذلك، وكان لهذه المجلات مراسلون مصريون نشطون، وعلى رأسهم الأستاذ صلاح عيسى الذي كان يراسل مجلة «الثقافة» في العراق، وإبراهيم أصلان كان يراسل مجلة «البيان» الكويتية، وكان سامي خشبة يراسل مجلة الآداب في بيروت، وهكذا، أما المخرج الآخر كان يجد ضالته في مجلات «الماستر» الفقيرة، وهي التي كان يكتب مصدروها على صدر كل إصدار «نشرة غير دورية»، هكذا ولدت مجلات ونشرات ثقافية كثيرة، منها إضاءة 77، وكتابات، ومصرية، وموقف، والشرنقة، وأقلام الصحوة، وأصوات، ثم خطوة، والنديم، وموقف، والخماسين، والحساب، وآفاق 79، وغير ذلك من نشرات محدودة الانتشار، لكنها صنعت حركة ثقافية بارزة.
في ذلك المناخ الخانق كان اسم الكاتب والأديب عبدالفتاح الجمل يتردد كأسطورة ثقافية تتحرك بين الناس، وتتنفس وتمارس العمل الثقافي بكل نبل ونزاهة وشجاعة لا تبارى، وكان مرشدي في ذلك الوقت إلى تلك الأجواء، الكاتب والقاص الشاب يوسف أبورية، والذي كان طالبا في كلية الإعلام، وكانت تصدر في الكلية جريدة اسمها «صوت الجامعة» يترأس تحريرها الكاتب الصحفي الكبير جلال الدين الحمامصي، والذي كان يدرّس في الكلية، وكان الطالب مرعي مدكور رئيس قسم الثقافة، وكان يوسف أبو رية يدير الصفحة الثقافية باقتدار، وبالتالي كان يتحرك بنشاط دائب وملحوظ، واستطاع أن يعقد صداقات مع مجموعة كبيرة من كتّاب جيل الستينات، في البداية كان أبو رية يجري حوارات مع الشعراء الشباب وينشرها في جريدة صوت الجامعة، وأجرى حوارا معي ونشره، ثم تطور الأمر وأعد تحقيقا مع شعراء الظاهرة الجديدة ونشره في جريدة «المساء»، ثم طلب مني قصيدة لنشرها في الصفحة الثقافية في صفحة «عبد الفتاح الجمل»، هكذا كان يطلق عليها الأدباء، وهذا يدلّ على أن اسم عبدالفتاح الجمل، كان أقوى من اسم الجريدة نفسها، ونشرت القصيدة، وكانت المكافأة تسعة جنيهات وكسور، بعدها اقترح يوسف أن أذهب معه لكي أتعرّف على عبد الفتاح و«شلّته» في مقهى إيزافيتش في شارع عماد الدين، وبالطبع ذهبت، لم يكن الجمع سوى مظاهرة صغيرة يقودها يحيي الطاهر عبد الله، وسعد صموئيل، وإبراهيم أصلان، ومحمد البساطي، وغيرهم، وكان يتوسط تلك المظاهرة الأسطورة عبدالفتاح الجمل، في البداية شعرت بأنه أحد الآلهة الشعبيين إذا صح التعبير، وفجأة نطق ذلك الإله، وقال ليوسف: «ما تعرفّنا ياجو بصاحبك» وقبل أن ينطق يوسف ويقوم بعملية التعريف، قال يحيى: «حلمك ع الراجل، ده لسه جديد ومش واخد ع الأجواء بتاعتنا»، وبعدما قام يوسف بتعريفي، والتنويه عن أنني نشرت قصيدة في الصفحة، قال عبد الفتاح: «خلاص عرفته، ده من كشّافة يحيى الجداد»، ونظر ليحيى قائلا: «إيه يا يحيى، انت كل شوية تسلّط علينا حد من الكشّافة بتوعك اللي انت بتطلقهم في القهاوي والندوات، مش كفاية الورداني ـ يقصد محمود الذي كانت تربطه علاقة قوية بيحيى»، وقبل أن تحدث ضجة من الضحك أطلقها الحشد المخيف حول عبد الفتاح، التفت لي وقال: «أهلا بيك في أي وقت، وبالمناسبة قصيدتك حلوة، فيها نفس خاص، وبعيدة عن التغريب اللي بيعملوه زمايلك»، ولكن يحيى لم يترك ملاحظة الجمل تمر عبثا دون أن يعقب عليها قائلا: «لا ياخويا، ده مش من الكشّافة بتوعي، ده من أصدقاء أخيك خليل كلفت وكمان مبعوث العناية الإبراهيمية، ـ يقصد الناقد والمترجم الكبير إبراهيم فتحي ـ خلاص كده؟، عشان أريحك وأجيب لك ما الآخر»، منذ تلك اللحظة لم تنمح انطباعاتي عن ذلك الرجل الذي لم أقابله إلا قليلا بعد ذلك، ولكنني كنت أتابع صراعه الأسطوري في ظل مناخ كان يعلن يوما بعد يوم عن إصرار عنيف لمطاردة أي ملامح لأي ثقافة وإبداع طليعيين، وبالتالي كان عبدالفتاح يصرّ على تنزيه صفحته من تلك الإبداعات الركيكة، وشاهدته عندما كان أحد كتّاب القصة يقول له: «لماذا لم تنشر لي نصّا واحدا من نصوصي، رغم أني أرسلت لك أكثر من عشر قصص»، وهنا رد عبد الفتاح بحدة: «يابني الصفحة دي مش بتاعتي، عشان أنشر فيها كل ما أريده، أنا باحاول أعمل ما يرضي ضميري قبل رضا أي حد»، وبالطبع كانت السبعينيات ردة ثقافية واسعة على كافة المستويات، بعد أن استطاع الجمل أن يدشّن جيلا كاملا من الكتّاب والشعراء والنقاد والفنانين في عقد الستينات، بعدما أغلقت الصحف الكبيرة على أسماء أخرى بعينها، ولذلك عندما رحل في فبراير 1994، صدر نعي على هيئة بيان جاءت فيه كلمات شديدة التأثير، جاء فيها: «طوال أكثر من ربع قرن، ظل عبدالفتاح الجمل، يعمل بإحساس عال بالمسؤولية تجاه المواهب التي منحها كل وقته ليدفع بها إلى الوجود، وخلال عطائه الإنساني النبيل، قدم أعمالا بارزة ومؤثرة في مجال الرواية والقصة وأدب الرحلات والترجمة هي الآن في القلب من تراث وطنه العظيم... ونحن هنا، سواء من كان منا من تلاميذه، أو زملائه، أو أصدقائه، نقدم له العهد على أن نظل دائما أوفياء للقيم النبيلة التي آمن بها، وأخلص لها طوال حياته..»، ووقع على «النعي/ البيان» مئات المثقفين، وعلى رأسهم: نجيب محفوظ، وعلي الراعي، ومحمود أمين العالم، ومحمد البساطي، وإبراهيم أصلان، وغالي شكري، وجمال الغيطاني، ويوسف القعيد، وبهاء طاهر، وصنع الله إبراهيم، ورجاء النقاش، وغيرهم من رموز الحياة الثقافية المصرية، وأعدت مجلة القاهرة ملفا كبيرا تعرض لبعض سيرته، ونشرت نصوصا أدبية له، لم يكن قد ضمها لأي كتاب من كتبه القليلة التي نشرها في حياته، وكتب في هذا الملف عدد من أصدقاء وتلاميذ ومحبي عبد الفتاح الجمل، منهم: محمد كامل القليوبي، ومحمد البساطي، وأسامة الغزولي، وعبده جبير، وفتحي فرغلي، وعطيات الأبنودي، وغيرهم.
وفي حقيقة الأمر، لم تكن لحظة الوفاة هي علامة الرحيل الأولى، ولكن كانت هناك لحظات رحيل عديدة لعبد الفتاح في مسيرته الغنية، وكانت إحدى تلك اللحظات في أوائل عقد الثمانينات، عندما تأكد الجمل أن الزمن أصبح غير الزمن، واللحظة لم تصبح مناسبة له، فقرر الرحيل في ثبات، وتلك اللحظة يروي عنها صلاح عيسى في مقال له كتبه ونشره في جريدة الأهالي بتاريخ 20 أكتوبر 1982، أي في حياة الجمل، وذلك عندما التقيا عند صديق لهما لمشاهدة أفلام فيديو قصيرة تقص لحظات رحيل المقاومة الفلسطينية عن بيروت، هنا نظر عبد الفتاح لصلاح عيسى، ويقول له بتأثر بالغ: «أنا كمان رحلت.. طلبت إحالة نفسي للمعاش.. وانتهى الأمر..».
كان الخبر مفاجئا لصلاح عيسى، ولكنه كان غادرا، رغم كل المقدمات التي كان يعاني منها الجمل، وكل الجمال الأخرى التي تحملت كافة أشكال القمع والمنع في الحياة الثقافية المصرية، والذين ظلّوا يقاومون العبث الذي راح يتسع يوما بعد يوم، وظلوا مخلصين حتى النفس الأخير، يقول صلاح عيسى في ذلك المقال: «..وحين كان جيلنا يتحسس طريقه ليقول كلمته، قادما من القرى والنجوع وشوارع المدن الخلفية، محملا بخجل الريفيين وشكوكهم في أهل البندر، وببعض جلافة ولدتها حياة قاسية تفتقد للرقة وتخلو من النعومة، التقينا بعبد الفتاح الجمل في مكتب لم يغيره الزمن، بركن قصي من صالة تحرير (المساء) الواسعة، ظل ما يقرب من ربع قرن معمل تفريغ لمواهب متجددة في القصة والشعر والنقد والصحافة..»، ويحكي عيسى في المقال عن تجربته مع الجمل، ويسرد سلسلة من بعض أمجاده في جريدة المساء التي عمل بها الجمل منذ بداياتها، وعاصر كل تقلباتها الحادة في مراحل تاريخية، كانت كفيلة بالاستغناء عنه، ولكنه صمد حتى ولد جيل كامل على يديه. صدر العدد الأول من جريدة «المساء» في 6 أكتوبر عام 1956، وترأس تحريرها الأستاذ خالد محيي الدين، وهو أحد أعضاء مجلس قيادة ثورة 23 يوليو، وكان له دور بارز في الأحداث الخطيرة التي جرت في مصر منذ 5 مارس إلى 25 مارس 1954، ووقف مع الديمقراطية، وعندما انتصر التيار المضاد لتوجهات خالد محيي الدين، تم استبعاده عن ممارسة السلطة، ولكنه ظل أمينا ومخلصا للثورة حتى تمت استعادته لكي يكون رئيسا لتحرير جريدة المساء، ولأنه كان الأقرب إلى تيار اليسار في ذلك الوقت، فكان اختياره من أجل تشغيل اليساريين في الجريدة، وكانت العلاقة قوية بين الدولة واليسار في ذلك الوقت، بعد أن تمت الإطاحة بتيار اليمين الديني الذي كان يشكل خطرا على الدولة والبلاد في آن واحد، واستطاع خالد محيي الدين أن يضم عددا كبيرا من اليساريين إلى الجريدة، منهم الأساتذة والدكاترة طاهر عبد الحكيم، وعلي الراعي، وعبد العظيم أنيس، وفتحي عبد الفتاح، وأنور عبد الملك، وفيليب جلاب، وعايدة ثابت، ومحمد عودة، وعلي الشلقامي، وسعد التائه، وعلي الدالي، ولطفي الخولي، وغيرهم، كتيبة كاملة من الكتّاب والمثقفين والمبدعين كانت معطلة عن العمل والإنتاج، أو على الأقل موزعة هنا وهناك.
كانت الثقافة من أبرز المهام التي اهتمت بها الجريدة، ولذلك نشرت في عددها الأول قصة «صح» للكاتب الشاب يوسف إدريس، وفى الأعداد الأولى تم نشر رواية «حارة أم الحسيني» مسلسلة للكاتب شهدي عطية الشافعي، وآثرت الجريدة ألا تنشر اسم الكاتب لأسباب ربما تكون سياسية أو فنية، حيث إن الكاتب كان يعمل بالسياسة ولم يرد أن يزج باسمه في ساحة الأدب، وكذلك كان يكتب مقالات ودراسات ذات طابع أدبي وفكري باسم «أحمد نصر»، كما أن الكاتب الشاب صنع الله إبراهيم كتب مجموعة مقالات، باسم «صنع الله الأورفولي»، وهي أول ما نشره في حياته الأدبية، وكان الفنان المصري السوداني محمد حاكم، هو المشرف الفني على كل صفحات الأدب والثقافة، وكان معه الفنان مصطفى حسين.
لا نستطيع أن نقول إن مصر كانت تخلو من الصحافة الثقافية في ذلك الوقت، بل بالعكس، كانت الحياة الصحفية عامرة بالصحافة الثقافية، وكان قادة ثورة يوليو على درجة كبيرة من الاهتمام بالثقافة، فكانت مجلات المصور والهلال وحواء وروز اليوسف وآخر ساعة والتحرير والإذاعة وغيرها من مجلات متنوعة، تهتم اهتماما واسعا وغزيرا بالثقافة، فضلا عن المجلات التي كانت متخصصة في كل ما يخص الأدب والثقافة مثل مجلة «الرسالة الجديدة»، وعندما تأسست جريدة الجمهورية، ضمت في تحريرها كتابا كبارا مثل طه حسين ويوسف إدريس وأحمد رشدي صالح وبيرم التونسي وعبدالرحمن الخميسي وغيرهم، وكان كل واحد من هؤلاء يكتب مقالا أسبوعيا، فضلا عن الاهتمام اليومي بحالة الثقافة في مصر.
التميز الذي جاءت به جريدة المساء في الثقافة، لم يكن في الصحافة الثقافية اليومية فقط، ولكن جاء الاهتمام بكتّاب الهامش والشباب في تلك الفترة، ورغم أن العدد الأول من الجريدة نشر قصة للكاتب يوسف إدريس، إلا أن الجريدة نشرت بعد ذلك قصصا لمحفوظ عبد الرحمن ومحمد الخضري عبدالحميد ومحمد صدقي وسيد جاد وصالح مرسي وعبدالله الطوخى وغيرهم، وتناوب الإشراف على الصفحة مثقفون وكتاب ذو مكانة ثقافية عالية مثل الدكتور علي الراعي وعلي الدالي وسعد التائه، ولم تحتكر تلك الأسماء الانفراد بقرار النشر، ولكن كانت هناك مساحة واسعة من اتخاذ قرار النشر، ونشط مجموعة من الشباب الذي راح يمد الصفحة بكل جميل ومهم في الوقت نفسه. بعد صدور الجريدة بثلاثة أسابيع جاء الإنذار البريطاني بتهديد مصر، وتحولت الحالة إلى أقصى درجات الاستعداد للحرب، وانبرت الجريدة في نشر كل ما يمت من فنون وآداب وثقافة بأي صلة للحالة التي فرضت نفسها بقوة على البلاد، وبعد أن كانت تصدر في ثماني صفحات، راحت تصدر في أربع صفحات فقط، وكانت الجريدة قد وضعت بابا تحت لافتة «يوميات الشعب»، ويستعرض ذلك الباب أحوال الناس المتعددة، وكان المحررون يجرون حوارات مع كافة فئات الشعب، وكتب في تلك الزاوية عدد من الكتاب مثل: زينب صادق، وشفيق خالد، وسرى الدين، وغيرهم، كما أن بابا آخر كانت تنشر فيه آراء بعض الكتّاب والمثقفين من الجريدة ومن خارجها، أو من كانوا تحت التدريب، وبعد صدور الجريدة بأربعة أسابيع ظهر اسم عبد الفتاح الجمل لأول مرة في الجريدة، وفي زاوية «آراء وأفكار»، وكان ما كتبه عبدالفتاح متأثرا بالجو العام الذي كان سائدا آنذاك، أي جو المعركة، وكان المقال الذي نشر في العدد رقم 37 بتاريخ 11 نوفمبر 1956 بمثابة رسالة إلى أبطال بورسعيد، يقول فيه: «بور سعيد.. لست أسطورة..بل أنت أسطورة سوف ترويها الأجيال، اختارتك المقادير، رغم حداثة سنّك، لأنك ولدت بمولد القناة، وحملت منها عن المصريين جميعا، ذل حفرها وافتتاحها وإدارتها، وعزة تحررها، ثم تمخض ذلك عن أحداثك العظام..»، ورغم أن المقال كتب بنبرة عاطفية، إلا أنه كان يعبّر عن ذلك الشعور الذي كان يتنفسه كل المصريين آنذاك، بالإضافة لمن يتأمل المقال، سيلاحظ أنه حمل كافة أركان البنية الأسلوبية التي ظلّت ترافقه في كتاباته المتنوعة طوال حياته، مع التطوير والتعميق بالطبع، ومن بينها تشخيص الحدث بمفردات مفاجئة، مثل أن يقول عن بور سعيد (رغم حداثة سنّك)، وتلك التيمة الأسلوبية تسللت من مياه يحيي حقي اللغوية والمتدفقة، إلى قنوات وجداول الجمل العذبة.
بعد ذلك المقال بيومين فقط، أصبح اسم عبد الفتاح الجمل واحدا من المحررين الأساسيين في الجريدة، ونشر تحت لافتة «يوميات الشعب» مقالا بديعا بتاريخ 13 نوفمبر عنوانه (عندما تعوي صفارة الإنذار)، وفي ذلك المقال كان قد تجاوز الحالة الرومانسية التي طغت على مقاله الأول، ويرسم في المقال حالة الناس الحماسية التي دفعت بعضهم لكى ينهالوا ضربا على أحد المارة الذي كان يهذي بكلمات ظنوها معادية لمصر. وظلّت تلك الأجواء تعمل في القصة التي تعتبر الحرب ليست لعبة، المدهش والمذهل والمفاجئ بالنسبة لي، أن المقال نشر بتاريخ 13 من نوفمبر 1956، وفي 16 نوفمبر 1956، أي بعد نشر المقال بثلاثة أيام، نشرت الجريدة قصة «ه...هي لعبة!؟» في الجريدة ذاتها على الصفحة الأخيرة كلها، وأرى أن القصة متأثرة بشكل كبير بذلك الجوّ السردي الذي طرحه عبد الفتاح في مقاله، وهو يعتبر المصدر الأساسي لقصة يوسف إدريس، والذي يقارن المقال بالقصة سوف يكتشف ذلك الأثر الواضح، وتردد تيمة «هي لعبة» في النصين.
بعد ذلك راحت الجريدة تنتظم بشكل واضح عندما هدأت حالة الحرب، وراحت تهتم بالحالة الثقافية التي تعتني بالهامش، وبرزت أسماء لا يمكن إغفالها في تحرير مواد القسم الثقافي، أبرزهم القاص والروائي فاروق منيب، والذي كان دوره لا يقل عن دور عبد الفتاح الجمل في تلك الفترة، وكان منيب يكتب مقالات نقدية عن كافة ما تصدره المطابع من مجموعات قصصية وشعرية، وروايات، وكتب في النقد الأدبي الجديد، واستطاع أن يقدم كافة شباب الأدب والإبداع الجدد في ذلك الوقت، منهم الأديب والفنان عز الدين نجيب، والذي كان طالبا في كلية الفنون الجميلة، كذلك قدّم الدسوقي فهمي، ثم محمد البساطي، ومحمد جاد، وسيد خميس، وغيرهم، كما لا ننسى الكاتب فوزي سليمان، والذي أثار عددا كبيرا من القضايا الثقافية التي كانت تشغل الرأي العام الثقافي آنذاك، وأجرى حوارات مع كثير من الأدباء الشباب الذين لم يجدوا منبرا للتعبير عن أنفسهم سوى صحيفة المساء، وأجرى حوارا مع أول كاتب متفرغ، وهو الكاتب علي أحمد باكثير، ثم حاور عددا من المتفرغين الذين كانت لهم ملاحظات على منحة التفرغ. وكذلك الناقد الفني والتشكيلي كمال الجويلي، وكانت متابعاته شديدة الأهمية، وكان يكتب باسمه المعروف، وكذلك باسم «ابن زيدون»، ولم تقتصر متابعاته على معارض الفن التشكيلي بحكم تخصصه، ولكنه كان يشتبك مع كافة مجالات الحالة الثقافية في مصر، وكان عبد الفتاح الجمل ابنا مخلصا لمدرسة صحيفة المساء، واستطاع أن يرث كل تلك السمات التي تميزت بها تلك المدرسة، حتى بعد أن غاب معظم محرري الجريدة في ظروف سياسية معلنة في بدايات عام 1959، ظل عبدالفتاح صامدا، ولم يكن هتّافا، ولكنه كان معنيا بالجمال في عمومه، ولو تأملنا معظم كتاباته الغزيرة، سنجده دوما يكتب عن المسرح والسينما والفن التشكيلي والدراما، بالإضافة إلى أنه كان يكتب عن بلدته دمياط، وضواحيها، وقراها، قبل أن يخلّدها في روايته العظيمة «محب»، التي نشرها عام 1992، وكذلك روايته الأولى التي نشرها على نفقته الخاصة عام 1970 «الخوف»، ورغم أن اسم عبد الفتاح الجمل كان كبيرا وعظيما، إلا أنه لم يستثمر ذلك الاسم لكي تنشر له إحدى دور النشر الحكومية أو المستقلة أيا من كتبه، فقط دار الهلال هي التي نشرت روايته «محب»، وكتابه الرائع «طواحين آمون» الذي نشرته هيئة الكتاب، وربما يكون اهتمام الجمل يعود لاهتمامه بالفن التشكيلي، فبعد أن تخرج من كلية الآداب عام 1945 من جامعة فاروق بالإسكندرية، راح يتنقل بين محافظات مصر، وأقام معرضا للتصوير الفوتوغرافي بأسيوط عام 1953، حيث كان مغرما بالتصوير بشكل عام، وفي عام 1955 ترك مهنة التدريس عاما، وراح يجول في العالم لمدة عام، بعد ذلك، التحق بجريدة المساء على النحو الذي ذكرناه، وظل يعمل مع زملائه الكتّاب والمحررين الذين تفرقوا في جهات شتى، ليبقى هو الذي ترأس الصفحة الثقافية منذ عام 1961 ليستكتب كثيرا من الكتّاب المرموقين مثل أستاذه يحيى حقي، والدكتورة والأديبة لطيفة الزيات، والناقد فؤاد دوارة، وغيرهم، وعندما أسست الجريدة ملحقا أسبوعيا وأطلقت عليه «الملحق الفني والأدبي»، وأشرف على ذلك الملحق عبد الفتاح الجمل، وراح لكي يمارس مهمته المقدسة، وظهرت الكتابات الأولى لمعظم أبناء جيل الستينيات، حتى الذين نشرت أعمالهم في مجلات أو صحف أخرى، اعتبروا أن ولاداتهم الحقيقية كانت في صفحة عبد الفتاح الجمل اليومية، أو في ملحقه الأسبوعي، وقرأنا لصبري حافظ دراسات نقدية، ولمحمد كامل القليوبي دراسات في السينما والمسرح، ويكفي أن الناقد علي شلش نشر مسرحية «السقوط» لآرثر ميلر مسلسلة في الجريدة، وكذلك نشر يحيى حقي ترجمته لرواية «الأب الضليل» في ملحق عبد الفتاح الجمل، رغم إنه لم يكن عاجزا عن النشر في أكبر الصحف والمجلات، ولكنه آثر النشر في ملحق جريدة المساء، وولدت كتابات خليل كلفة النقدية والفكرية في جريدة المساء، وظلّ عبد الفتاح يدير القسم بمفرده، وكان يشرف على إخراج الصفحات بنفسه، إذ لم يكن اهتمامه الفني في الإخراج، يقل عن اهتمامه بالمادة المنشورة، كان يقول دائما: «لازم المادة العظيمة، تظهر في شكل عظيم»، كان أثر عبد الفتاح الجمل عظيما، حتى تحول ذلك الأثر إلى أسلوب ومنهج وطريقة حياة ومدرسة، لم تستطع الأزمنة اللاحقة أن تطورها، كما لم تستطع الاحتفاظ بظواهر أخرى عظيمة، رحم الله أستاذنا عبدالفتاح الجمل.
شعبان يوسف كاتب ومؤرخ أدبي مصري