عايدة الروّاس.. المصوّر يجمع الوقت
تستوفي الدهشةُ حياتها السريعة جدا من النظرة الأولى الفاحصة بقصد للمشهد: أمكنة، أشخاص، وأشياء، يحتاجها المصور الفوتوغرافي علامة للاستحواذ على الصورة وأخذها واستنفار لكل الحركات السريعة التي سوف تحدث لاحقا: حصر النظرة في ذلك المشهد، رفع الكاميرا، ملأ الذراع بالقوة، حضور السيرة البصريّة كلّها، تحديد الإطار، ما يدخله المصور فيه وما يستثنيه منه، كتم النفي لحظة عجلته، الضغط على الزر السحريّ، تجديد الإطار -ربّما- بحركة ملليمتر واحد في جهة ما، يحددها العقل في سرعة البرق، ينتج عنها صورة جديدة. تهدأ الدهشة -غالبا- بابتسامة رضا على ذلك الاستحواذ للمشهد، وأسمّي الصور الناتجة عن ذلك، صور الدهشة. لكن الصور التي تتجاوز الدهشة إلى بناء المعرفة البصريّة لا تكتفي بالتصوير المرة الأولى، تصوير الخطفة، وتذهب إلى تعدد الزيارات للأمكنة، للأشخاص الفعالين فيها ولكلّ الأشياء والحاجات من حولهم. عندها - فقط- تتحقق وظيفة المصوّر الصبور ذي النفس الطويل: التمكّن في الاطلاع على الحياة، فهم الروابط بين الأشياء فيها، وجمع كلّ ذلك في صور تجعلني أن أعرّف مصوّرها، أقصد هذا النوع من المصوّرين، بأنّه الذي يجمع الوقت.
جرأة من عايدة الخالد الرواس أن تنشر صور زيارتها الأولى لسلطنة عُمان في شهر (نوفمبر ١٩٧٧)، في كتاب في عام ٢٠١٤، أي بعد مضي ست وثلاثين سنة على تلك الزيارة وعلى تلك اللقطات. وفيه بدأت التصوير من مسقط، بعدها انتقلت إلى محافظة الداخلية ابتداء من نزوى حضرها وبدوها، بعدها محافظة جنوب الشرقيّة، وصور الجميلة، ثمّ إلى أقصى الجنوب ظفار ومدنها، متنقلة في رحلتها باستخدام طائرة البيفر (Beaver)، وكأنّها حسمت ذلك النشاط في مشروع للنشر في كتاب في يوم ما.
أقول جرأة لماذا؟
لأنّّها - أولا- الزيارة الأولى لي إلى سلطنة عُمان، قادمة من بيروت «العاصمة التي كنت أقيم فيها، وكانت غارقة في دمائها، ووجعها، وحربها الأهلية الشرسة». انتقلت من حرب إلى سلام صخّة الجبال التي تحيط مسقط من جنوبها وتحرسها وجنة البحر من شمالها، وقررت أن تتعرّف على البلاد عبر كاميرتها التي وصفتها بالبسيطة قائلة: «منذ اللحظة الأولى، أحاطتني طبيعة مسقط الجغرافية بسحرها وجمالها الصامت، وأُتيحت لي فرصة الدخول إلى وسط البلاد في المنطقة الداخلية، لأقابل بترحاب أهلها ودماثة أخلاقهم، وأعايش طرق حياتهم عن قرب، وجسدت كثيرا منها في العديد من الصور التي التقطتها بكاميرا بسيطة (1) كبساطة حياتهم» (2) فالشهر الذي هبطت فيه صوّرت، هكذا بلا مسافات، وكأنّها تعرف البلاد والناس منذ زمن بعيد، ودون الأخذ في البال تلك المسافة العاطفيّة التي يعبرها المصوِّر للمصوَّر ليحقق نتائج عفويّة أو شبه عفوية على الأقل، فلا نرى الخجل في وجوه الذين صورتهم، أو الاستغراب. هذه المسافة تعالجها طول مدة البقاء في المكان الواحد أو تعدد زيارته في فترات مختلفة، وعقد الصداقات مع الذين نصوّرهم حتى تأتي اللحظة التي نرفع الكاميرا في وجوههم فلا يلتفتون إليها ولا يستشعرون ثقلها. عندها فقط نتمكّن من الاطلاع على الحياة بلا صنعة، بلا انقطاع للنشاط والحركة ريثما ينتهي المصوّر من التقاط الصورة.
العودة بالكاميرا لتصوير الناس أنفسهم في مواسم مختلفة، يهبنا هذا الغنى في مشاهدة حضور هذه المواسم في النّاس، نطلع فيه على أثر تلك الروابط الخفيّة بين الناس والبيئة في الذي نعرفه باسم: المشيج. النّاس في الشتاء ليسوا هم في الصيف أو الربيع. أجسادهم وأنفسهم في ضوء النهار ليست هي في الليل. صورة واحدة في الكتاب في ليل عمان في تلك الفترة. أظنّها صورة واحدة فقط. ربّما مرجع ذلك لما أشارت إليه: بساطة الكاميرا؟!
ولأنّه -ثانيا- عام ١٩٧٧، رفع الكاميرا فيه في وجوه النّاس نادر، فضلا عن دخول البيوت وتصوير حياة النساء، وهو الذي تجنّبته نساء باحثات غربيات تمنين لحظات وقبول كهذا في الخليج أو بلاد العرب، بصراحة كما فعلت عايدة الروّاس، دون خداع أو إخفاء للكاميرا مع ضرورة حضورها البحثي تلك اللحظة. فعلى الرغم من كثرة المصورين والمصورات الذين رافقوا البعثة الدنماركيّة للتنقيب عن الآثار في البحرين منذ عام ١٩٥٦، لم تستطع، الأنثربولوجية هيني هارلد هانسن (توفيت ١٩٩٣) مثيلة عايدة في التخصص، غير التقاط ثلاث صور لهن، وخمس أخرى التقطتْ خلسةً، خارج البيوت، فلا يمكن رؤية الوجوه. واستعاضت عن الصور من داخل بيوت عاشت فيها عام ١٩٦١، بنشر رسومات وتخطيطات أوليّة، متخيّلة للنساء في كتابها «بحوث في قرية شيعية في البحرين»(3) الذي نشرته في عام ١٩٦٨! لاذت بالرسم الذي تخصصت فيه في أكاديمية الفنون الجميلة وتجيده ممارسةً لبيان هيئة جلسات النساء. في الكتاب صور للرجال والبيوت وحاجيات المعيشة اليومية في قرية سار أكثر من صور النساء. أمّا كتابها «بنات الله: بين النساء المسلمات في كردستان»(4)، الذي صدر في عام ١٩٦٠، أي قبل كتابها في البحرين بثماني سنوات، وامتلأ بصور نساء كردستان في أنشطتهن الاعتيادية، داخل البيوت وخارجها منذ الصفحة التي تسبق عنوان الكتاب. صور التقطت بمعرفة الأنثربولوجي الفنّان غير العَجل، الذي يجمع الوقت برويّة، وحكمة البطء، ونساء نسين وجود الكاميرا واستفزازها، فقابلن العدسة بالوجوه.
في هذا الشأن: تصوير النساء في حياتهن ومهامهن، بالجرأة المحفوفة بالمنع وفي تلك الفترة، تتفوق عايدة الروّاس مدعمة بدراستها للانثرولوجيا في بيروت. أدخلتها الكاميرا البيوت، كي تضع هذا التسجيل البصريّ المهمّ، والرياديّ للحياة على اختلافها عند النّاس، وفي البر والمدينة، عند الحضر والبدو، عند الأفلاج أو في سفوح الجبال، الصور الجوّية، أشكال البيوت، أبوابها، الحارات والمقاصير، الأسواق، رجال القبائل، الليسو وأزياء النساء، وجوه نسوة بدهانهن العطري وجلسة دقّ الحناء المرسوم على أيديهن، خشيفة الذهب في أرنبة الأنف تجاورها البدلة، نشأة الأطفال وأسرتهم، معلمو القرآن والعودة من المدارس، وظائف المرأة، جِلساتها، إذ لم يفتها حتى رمسة النساء مع دلة الشاي والقهوة. في فترة عزّت فيها الكاميرا، فكان المتاح منها يمكنني تشبيهه بالمفتاح، وبالإذن والتصريح لدخول البيوت. كان المصوّر البحريني القدير عبد الله الخان يقول: «الكاميرا أدخلتني البيوت، فرأيت كثيرا»(5). يضاف إلى ذلك ما أشرت إليه، وجود الكاميرا في يد امرأة يقلل كثيرا من الحرج في إدخالها البيوت، ومن اقترابها من النساء؛ والتقاط صور لهنّ في فترة ما زالت فيها وطأة مدونات تحريم التصاوير، التي خلطت بالصورة الفوتوغرافيّة خطأ، فعّالةً وتعمل بشكل جيد في نبذ الصورة جنبا إلى تلقي المجتمع لها، وللمصورين.
صور عايدة الروّاس في كتابها بلا نصوص تعريفيّة، بلا كتابة إلا في فهرس الكتاب، وهو ربّما يفتح موضوع ما زال جدليا، وهو حاجة الصورة للنص، وحاجة النص للصور. صار واضح لديّ - من الكتاب على أقل- أن عايدة الروّاس لا تحبّ وجود الصور والنصّ معا. الصورة هنا لا تمثّل الكلمات مثلما يرى البعض. الاتصال هنا يكون بالصورة فقط، والسرد بصريّ خالص. وسوف تكون أفضل ممّا هي عليه لو أزيل التحديد الأسود (Stroke) من حول عدد منها، وفرشت بلا فراغات في الصفحات، وهو شكل تمّ تحقيقه في صفحات بداية الأبواب وفي عدد قليل جدا من الصور.
أنظر إلى صورة المرأة الصغيرة، تضع قدرا معدنيا على رأسها وتمشي به جوار جدار أحد البساتين، المنشورة في صفحة(٣١) وأقول لو فرشت الصورة على صفحتين، وبان امتداد الجدار أكثر لما خسرنا شيئا وقت التوقّف عندها، وإطراء ذكاء الإطار عند عايدة الروّاس، وتمكّنها من هذا الحرص اللذيذ. وعند تمّ تحقيق ذلك الفَرش في الصور الجميلة جدا المنشورة على صفحتي (٢١-٢٢) لجدار بستان ينتهي ببوابة يدخلها رجلان وضعت صورة أخرى فوق جدار الصورة الأولى! صورة فوق صورة، أفقد الصورة الأولى فراغها المهم جدا، ومهمته في أخذ العينين إلى البوابة. فعندما ننظر في صورة ما، أي صورة، سوف نجد موضعا هو البداية، تفتح فيه الصورة عيوننا عليها، ونهاية، مهمتها إغلاق الصورة. وبين موضعي الفتح والغلق ما شاء الله من رحلة العين، النظر، ثمّ الرؤية وما يتّبعها من التأويلات المسؤولة عن المعنى. درب العين في الصورة لا يقطع بمثير آخر ليس منه. خصوصا في هذه الصور ببساطة ناسها، لكن بجمالهم المعقّد، الذي لا يتنازلون عنه ولا ينشغلون به أيضا. هذا ما جعلني مفتونا بهذه التجربة، سعدت كثيرا بحمل الكتاب في حقيبة يدي عائدا من مسقط، بتلك الصور الفيلميّة فيه، وعددها (٢٦٢) صورة، تحتاج اهتماما كتابيا أكثر جوار صور التجربة التي لم تنشر، تماما مثلما نحتاج النظر في تجربة عايدة القادمة من لبنان وحضارتها وثقافتها، ومكانتها العلمية والفنّية البصريّة- خصوصا أن التصوير دخل بيروت منذ ٣٠ يناير ١٨٤٠ عندما صوّر الفرنسي جوبيل فيسكيه أوّل صورة لمئذنة جامع السراي، أي بعد أشهر فقط من اختراع لويس داغيير آلة التصوير في أكاديمية العلوم بفرنسا- التي تمّ التأسيس لها في دمشق، إذ «بدأت حياتها في بيت أثري دمشقي بمدينة اشتهرت ببيوتها الجميلة وأمثلة رائعة من العمارة والفن الإسلامي بشكل عام. نشأت في منزل دمشقي قديم وأثريّ، رسم ذاكرة طفولتها وشحن وعيها بصور وانطباعات جمالية معينة، عمّقت علاقتها مع المساحات ومدى تأثيرها على حركة الناس.»(6)
ولأنّ الرؤية لا تحققها - لو تمنيتُ- إطارات المرّة الواحدة، يتمّ أخذها في وقت واحد، تمنيتُ لو أن عايدة الروّاس -في هذا الكتاب البصريّ الريادي- عادت بكلّ هذا الحماس اللافت لكلّ الذين صورتهم، كررت زياراتها، والتقطتْ لهم صورا أخرى بإطارها الذكي، لتتجاوز الدهشة الأولى فيها إلى بناء المعرفة البصريّة، بما أتيح لها من دراسة الأنثربولوجيا، وتقلل من هذا الخجل الظاهر في وجوه كثيرة. لكنّ ذلك كلّه ضمن «الأمنية»، التي ترغب دائما في أن ألّا يقلل شيء من مفهوم المصور الذي يجمع الوقت.
هوامش:
. أحد موديلات كاميرا نيكون (Nikon).
2. عايدة الروّاس، عمان وجوه وأماكن، نوفمبر ١٩٧٧. دار السراة، سلطنة عمان، ٢٠١٤
3. Henny Harald Hansen, Investigations in a Shi›a Village in Barhain, National Museum of Denmark, Copenhagen, 1968.
4. Daughters of Allah: Among Moslem Women in Kurdistan. Translated from the Danish: Reginald Spink. London: Allen & Unwin, 1960.
5. حسين المحروس، عبد الله الخان معجم العين، بيت البحرين للتصوير، مملكة البحرين، ٢٠١٣
6 . https://www.daralsorat.com/Home/HerStory