ظلال الحرب وحبل التاريخ في رواية البيرق
تذهب الكاتبة والروائية شريفة التوبية في عملها الروائي الثاني إلى موضوع أو ثيمة تشغل السرد العماني؛ وهو الهم «السياسي/ التاريخي».
ويأتي عملها الروائي الثاني المعنون بـ «البيرق (حارة الوادي)»، بعد روايتها الأولى «سجين الزرقة» التي حققت نجاحا ونضجا في تجربة الكاتبة، وحصل على جائزة أفضل عمل روائي في جائزة الإبداع الثقافي فرع الرواية التي ترعاها الجمعية العمانية للكتاب والأدباء 2021، وكذلك بعد عملين قصصيين سابقين، «عين السّواد» 2017، ومجموعة « انعكاس» 2020.
وقبل الدخول إلى عوالم رواية البيرق، أرى من الضروري أن نوضح قليلا حضور الهم السياسي/ التاريخي في السرد العماني، وهذا التوضيح ليس بعيدا عن جو رواية البيرق والأسئلة الضمنية التي تطرحها في خطها العام. بل إنه يلامس الأسئلة التي ينبغي أن تُطرح بصوت مسموع، وأن تُناقشَ بشكل نقدي وتحليلي، لماذا يشعر السارد العماني بأن من مهامه أن يسرد تاريخ بلاده، وأن يذهب إلى المساحات المجهولة والأكثر غموضا؟ هل هو هروب من الواقع وأحواله أم شعورا بأن الذاكرة العمانية القريبة تحتاج إلى سبر وتحليل، وإعادة سردها وتوثيقها من زاوية ووعي الكاتب/ السارد ومخيلته أم أن التاريخ مادة مغرية للغوص فيها؟ وهذه المادة يمكنها أن تجعل أرض السرد خصبة وغنية بالدهشة.
وبالعودة إلى ملاحظة أن الهم التاريخي/ والسياسي يشغل الكثير من الساردين في عُمان، وهذه الثيمة ظهرت في الكثير من أعمال الكتاب العمانيين، وما يزال الكثير منهم ينهل من هذا المخزون، وكأنه بهذه الكتابة يرمم الذاكرة الجمعيّة والفرديّة، وربما هي محاولة لسرد تاريخ المكان والإنسان وتطلعاته السابقة والحالية من زاوية السرد والمخيلة، ونبش الأحلام الجمعيّة المكبوتة، والكشف عن المناطق المُغيّبة من الذاكرة العمانية لأسباب تاريخية أو سياسية ربما، نذكر هنا على سبيل المثال لا الحصر: رواية (ملائكة الجبل الأحضر) لعبدالله الطائي، وأعمال الروائي أحمد الزبيدي، وأعمال الروائي علي المعمري (همس الجسور، وابن سولع)، ورواية (حوض الشهوات) لمحمد اليحيائي، و(رواية تعويبة الظل) لسعيد الهاشمي، ورواية (أيوب شاهين) لسالم آل توية، ورواية (الباغ) لبشرى خلفان، ورواية (الأحقافي الأخير) لمحمد الشحري، و(عودة الثائر) ليعقوب الخنبشي، وأعمال أخرى.
وفي هذا الجانب، يمكننا أن نطرح عدة تساؤلات لنقترب من فهم هذا الحضور التاريخي/ السياسي في هذه الأعمال: لماذا ينشغل الكاتب العماني بالهم التاريخي أكثر من اشتغاله بالواقع والحاضر؟ هل يشعر الكاتب العماني بالمسؤولية الشخصية في ترميم الذاكرة العمانية؟ وكيف عالج موضوع التاريخ في روايته؟ هل بطريقه مباشرة أم من خلال شخصياته الروائية أم إنه أعاد عجن وتشكيل الأحداث التاريخية؟ وما مدى حضور الحربين: حرب الجبل الأخضر وحرب ظفار؟
هذه التساؤلات والأسئلة تحتاج إلى دراسة مستقلة يقوم بها الباحثون والنقاد.
عتبات أولى
وبالعودة إلى رواية البيرق، الصادرة عن دار الآن ناشرون موزعون/ الأردن، 2022، (تقع الرواية في 431 صفحة، 58 فصلا) الصورة وتصميم غلاف الرواية للفنانة العمانية: بدور الريامي. وبما أن الغلاف والعنوان من عتبات أي عمل أدبي، فعلينا أن نحاول تفكيك بعض دلالات هذه العتبات، ونحاول أن نجد خيطا يربط دلالة الغلاف بمتن الرواية.
نلاحظ في صورة الغلاف طفلة تقف على مدخل بيت طيني، وتنظر إلى الأمام، وعلى مدخل البيت عُلّقت عمامة بيضاء، الطفلة الواقفة على المدخل تفصل بين الظلام من خلفها وبين الشمس الساطعة أمامها، ربما يمكننا أن نستشف من الظلمة والشمس (من لعبة الضوء والظلال) أن الرواية ستذهب بنا إلى مرحلة مفصليّة بين زمنين، أو مرحلتين أو قضيتين أو حالتين أو فكرتين تتصارعان على شيء ما، كل ذلك دون أن نهمل العمامة البيضاء المعلقة على المدخل البيت الطيني، وما لها من دلالات في التاريخ العُماني، وما لها من حضور في الصراعات السياسية. وكذلك حضور اللون الأسود بكثافة. وقد يستدل القارئ على زمن وقوع الأحداث من خلال حضور البيت الطيني.
أما من حيث العنوان، فهو ليس عنوانا واحدا، بل عنوانين، البيرق/ حارة الوادي. اسم ومكان. البيرق هنا يعني (العَلَم)، لا يدري المتلقي أي عَلَم تقصده الكاتبة؟ هل عَلَم لمكان ما أم لقبيلة أم لدولة؟ ثم تحديد المكان في الغلاف؛ وهو (حارة الوادي) التي تقع في أسفل «الجبل الأشم». هل سيرفرف هذا البيرق فوق حارة الوادي؟ وهل لهذا البيرق صلة بالعمامة البيضاء المتدلية على مدخل البيت الطيني في الغلاف؟
وهل الشمس الساطعة وسط صورة الغلاف لها علاقة ما بكثافة اللون الأسود في باقي مساحة الغلاف؟ وهل من دلالة خفية بين هذا التناقص الصارخ بين اللونين؟ إلى ماذا تنظر الطفلة إلى مدخل البيت أم إلى الشمس الساطعة أم إلى الحقل؟ غياب وجه الطفلة له دلالته كذلك، وزاوية النظر في المشهد من الظلمة إلى الضوء، كأنه بحثا عن شيء مفقود أو عن أمل قادم.
وقبل أن ندخل إلى متن الرواية، تضع لنا الكاتبة توضيحا في أول صفحة، «لا وجود لشخصيات الرواية إلا في مخيلة الكاتبة، وإن استُقِيت بعض الأحداث من وقائع حدثت في زمنها ومكانها، وما عدا ذلك فسرد أدبي محض».
القارئ الفطن يربكه هذا التوضيح لعدة أسباب هي: هل التوضيح هو هروب من سلطة الرقيب والمجتمع؟ إذا كان مجرد سرد أدبي محض لا علاقة له بالواقع والذاكرة، فلماذا أضافت الكاتبة فعل «استُقِيَت» الأحداث من الواقع؟ وهل تعمّدت أن تجعل الفعل مبنيا للمجهول؟ وتحذف الفاعل الذي قام بالفعل؟ ما دام السرد هنا «أدبيا محضا»، فلماذا هذا التوضيح؟ هل هي عملية تضليل للقارئ؟ فالعمل ليس خيالا محضا ولا واقعا مكتملا. سيتوقع القارئ بأنه سيمشي من خلال هذه الرواية في منطقة تتأرجح بين خيال الكاتبة وواقع الشخصيات والأحداث. ربما هي عملية توازن خفي بين الواقع والمخيلة.
الإهداء
إلى .. علي بن حمد
في زمن كانت فيه الشجاعة رجلا يقال له «وَلَدْ جْرَيْدَة»
تُهدي الروائية روايتها لرجل يُدعى «ولد جْرَيْدة» علي بن حمد، وهذه الشخصية ظهرت في نص سابق للكاتبة في مجموعتها القصصية «عين السّواد»2017. في النص الأول من المجموعة «أطياف ولد جْرَيدة، حكاية الدم والطين» وهذا الإهداء والعودة لشخصية كُتِبَ عنها مسبقا، تدل على مدى أهمية الشخصية لدى الكاتبة. هل سنجد ظلال ولد جريدة متلبسا أو متخفيا في إحدى شخصيات هذه الرواية؟ والعامل المشترك بين ود جريدة في الإهداء الروائي، وولد جريدة في الهامش في النص القصصي، هو الشجاعة، حيث تقول الكاتبة في الهامش في النص القصصي: «ولد جريدة .. شخصية حقيقية وليس أسطورة كما يعتقد البعض، واسمه علي بن حمد بن عامر التوبي، وكما يقال إنه ولد سنة 1880م على وجه التقريب، واشتهر هذا الرجل في زمانه بالشجاعة والجرأة والإقدام...».
ونجد الإهداء في المجموعة القصصية «عين السّواد»: إلى ولد جريدة ورفاقه العابرين درب عين السّواد صعودا إلى الجبل».
ويمكننا هنا أن نضع احتمالا، أو مدخلا لمكان أحداث الرواية، ونتساءل، هل حارة الوادي المتخيلة في الرواية يمكن أن تكون عين السّواد؟ وبما أن المكانين كليهما يقعان تحت الجبل. ويمكننا أن نضع ملاحظة صغيرة هنا، بأن حضور وذكر الجبل يقصد به في الوعي الجمعي العماني الجبل الأخضر.
وتضع لنا الكاتبة بيتا من فن العازي، قبل الدخول في جو الرواية:
«قُم بْنْ جْريدة مْن المماتْ
واحْيي عُصورًا ماضياتْ»
وكأنه نداء وطلب إلى ود جريدة للعودة من الموت لكي يُرجع الحياة لعصور مضت. وهذا الطلب من رجل ميت يمكن أن نعتبره هروبا من حاضر موجع. أو فشلا في مواجهة تحديات اللحظة الراهنة، وحتى لو شعرنا بأن هناك تمجيدا لشجاعة هذا الرجل.
الشيء المشترك بين العتبات الثلاث، التوضيح والإهداء والبيت من فن العازي، هو الماضي بكل تجلياته ومعانيه:
«وقائع حدثت في زمنها/ في زمن كانت فيه الشجاعة/ عصورا ماضيات».
كيف تعاملت الكاتبة مع هذا الماضي/ التاريخ؟ وكيف ذهبت إلى شخصياته وعوالمه؟ وما الرسائل التي ضمنتها في خطابها السردي؟
متن الرواية ( الخط الاجتماعي/ السياسي)
عند الدخول إلى عوالم وأجواء البيرق، ومحاول الكشف عن خيوط السرد، وبناء الشخصيات، سنجد أن الرواية نمت وتطورت في خيطين متجانسين ومتماهيين مع بعضهما، وهو الخط الاجتماعي والخط السياسي.
يوحي الخطاب السردي للرواية بأنها تتشكل وتنمو في الفضاء الاجتماعي والشخصيات السردية في حارة الوادي وحياتها وآمالها وأحلامها وخيباتها وتفاصيل معيشتها، لكن المتفحص لهذا الفضاء (أقصد الاجتماعي) تم تشيده وترتيبه ليخدم الفضاء السياسي/ التاريخي. فمنذ الصفحة 138، بدأت رائحة الحرب تتوغل إلى الفضاء الاجتماعي للرواية، فتفاعلت حارة الوادي بكل مكوناتها وحياتها مع هذه الحرب، وبل وشارك رجالها في الحرب بشكل مباشر وغير مباشر، ووصلت نيران ودخان الحرب إلى كل مفاصل حياة أهل حارة الوادي.
وإن الشخصية المحورية في الرواية هي (عُويدة)، التي ربطت بين معظم شخصيات الرواية، وعاصرت جميع الأحداث التي وقعت في حارة الوادي، فكانت الزوجة والأم والجدة، وكانت الأرملة، وكانت المرأة التي هُدِم بيتها، وسجن ابنها. وماتت طفلتها بالمرض، وأصيب حفيدها بالعمى، فيمكننا أن نقول: إن عويدة هي العمود الفقري للخط السردي للعمل الروائي. فقد عانت هذه الشخصية الألم الاجتماعي (من فقر وقتل زوجها وتشرد عائلتها) من ويلات الحرب، حيث هُدِمَ بيتها وسجن ابنها، وقُتلت زوجة ابنها.
وهل اختيار اسم عويدة كان موفقا؟ حيث يمكن أن نشتق منه صفة العودة؟ كانت عويدة تقود أحداث الرواية وتدحرجها عبر الشخصيات التي ترتبط معها بشبكة علاقات مكانية وزمانية، ومعظم التصعيد السردي وقع من خلال عويدة وشبكة العلاقات التي تحيط بها.
لذا يمكننا القول: إن عُويدة، هي من قامت عليها الرواية بشكل مباشر أو خفي، وهذا لا يقلل من دور كل شخصية في الرواية، حتى شخصية (خْصِيفْ) الذي ظهرت في نهاية الرواية كان لها دور في الكشف عن خفايا القرية، وعن قضية مهمة كانت حاضرة في حياة أهل القرى، وهي قضية العنصرية والتهميش.
«تفرك عينيها لتتبين وجهه، رأته بياضا بعيدا لا يقترب، أرادت أن تتبعه، ولكنه كما في كل مرة يزورها، ينتظر بعيدا في العتمة، ملتفا بثوبه الأبيض، فلا تدري وتسأل نفسها: أهو جالس أم واقف؟ أهو في الأرض أم في السماء؟ تسمع صوته واضحا، فتشعر بثقل يقيد جسدها إلى الفراش وكأنها مُخدرة، فلا تعرف إن كان ما تراه حلمًا أم يقظة.» ص9، من الصفحة الأولى تقوم عويدة بفعل الحكي والسرد واسترجاع الأحداث، وهل الأحداث التي ستحدث مع تصاعد السرد هي مجرد حلم رأته عويدة أم حدثت بالفعل؟
من الصفحة الأولى من الرواية نتبين بإن عويدة الشخصية المحورية، يقع عليها المهمة الكبرى في العمل، هي من سيقودنا إلى عوالم البيرق، وتفاصيل الحياة في حارة الوادي. ومن ستقاوم ظروف الحياة القاسية، وتتحمل ألم من عمتها، وحزن فقد زوجها، وسجن ابنها.
ما بين الحلم واليقظة، وبين الأحلام التي تشبث بها أهل حارة الوادي وأنياب الحرب، ستتصاعد أحداث الرواية.
شخصية عويدة، تصاعدت وتغيرت، وانكسرت، مع تصاعد أحداث الرواية.
«تستعيد تلك الأيام التي دخلت فيها إلى البيت وهي عروس صغيرة لم تتجاوز العاشرة من عمرها، ضعيفة وهزيلة، وكذلك ناصر الذي لم يكن يكبرها كثيرا. ص170»
«تزوجت عويدة من ناصر وهي في العاشرة من عمرها، ولم تكن أقل منه حسبا ونسبا، بل هي ابنة إحدى العائلات المعروفة في الجبل، من فرع ينتمي إلى شجرة العائلة الممتدة بجذورها من الجبل الأشم حتى السهل في حارة الوادي، لكن الزواج لم يجعله مرتبطا ببيته وزوجته، فقد كانت البندقية أحب إليه من عويدة، والفلاة أكثر أمانا من جدران بيته. ص18»
شخصية عويدة تمثل حياة المرأة العمانية وصفاتها في القرى، ودور المرأة في الحياة بكل مظاهرها، فهي الصابرة، والتي تدير شؤون بيتها من كل الجوانب، استطاعت شخصية عويدة في رواية البيرق أن تكشف لنا الجوانب الكثيرة التي كانت تقوم بها المرأة، وبساطة الحياة في حارة الوادي.
خط سير الأحداث والشخصيات كانت كلها تدور في عوالم حياة أهل حارة الوادي، ولكن في الفصل(19) في صفحة 138، تبدأ رائحة الحرب تطل على أهل حارة الوادي.
«ـ تسمع مني جهزوا نفسكم الحرب في الطريق.»ص138
« ـ وحدنا شِفْنَا الإمام وعرفناه بس ما شفنا السلطان، شفنا هاذولا أولاد الحمر بو سراويل، الله لا جابهم ولا ردهم.» ص140
ومن هنا تبدأ أحداث الرواية تمشي في خطين متجانسين قلقين متوترين، وهذا التوتر ساعد كثيرا في نمو الرواية أولا، ومن ثم خلق عنصر التشويق لدى المتلقي. الألم الذي سبتته الحرب وظلالها على أهل حارة الوادي، ونتلمس كل الألم والوجع الذي سببته هذا الحرب في شخصية عويدة، فعويدة تعكس لنا الألم بكل تجلياته، وهي المرأة تحملت الألم الناتج من الجانب الاجتماعي، والألم الناتج من إفرازات الحرب، من قتل وهدم بيوت وقصف واعتقالات وسجن.
الرواية لم تذهب مباشرة إلى فرن الحرب ونيرانها، بل كانت تتلمس ظلال الحرب التي وقعت في منتصف العقد الخامس من القرن المنصرم، لكن شرار هذا الحرب أصابت حارة الوادي وأهلها.
الرواية بشكلها العام هي وثيقة اجتماعية وسياسية تكشف لنا ما تعرضت لها الأمكنة وتحولات الحياة والظروف القاسية في عُمان، ومدى تشبث البسطاء بفكرة المقاومة والتمرد والحلم، وفيها تمجيد لقيمة الشجاعة والتعاضد في حياة الإنسان العماني.
من خلال فضاءات الرواية نستطيع أن نتلمس الجوانب الاجتماعية، وأنماط العيش، والمستوى المعرفي لدى أهل حارة الوادي التي تمثل نموذجا للقرية العمانية في تلك الحقبة الزمنية.
هناك جوانب كثيرة تحتاج إلى الدراسة والفحص والتحليل في جوانب الرواية، كرسم المكان والفضاء العام، وكذلك نمو وتطور الشخصيات، وقضية الزمن، وكيف تعاملت الكاتبة مع تقسيم الزمن الداخلي في فضاء الرواية.
رواية البيرق ذهبت إلى منطقة الهم السياسي/ التاريخي، بحذر ودقة، حيث إنها لم تنغمس في المباشرة والخطابية، ولم تقترب من التاريخ بشكله الواضح. مزجت الكاتبة البناء الروائي/ الفني بظلال حرب، وشخصيات حارة الوادي.
حمود سعود كاتب وقاص عماني