طه حسين ونبتة الأمل الباقية
طه حسين (1889-1973) في وعيي الخاص، وفي وعي أجيال مختلفة من المصريين، تجسيدٌ حي لرحلة صعود عظيم، ظلت مبعث أمل دائم في مواجهة الظروف والمحن التي لم تتوقف.
منذ عام 1929، حين نشر الرجل الجزء الأول من رائعته «الأيام»، رسم الطريق الصعب للصبية الفقراء من أبناء الفلاحين والموظفين الصغار، أولئك الذين كان عليهم أن ينحتوا في الصخر ليتاح لهم ولوطنهم التعلم والتقدم والحرية والعدل. صارت «الأيام» دستورًا لهؤلاء الصبية، يقرأونها جيلا بعد جيل.
ظل الرجل - بسيرته، وشخصيته، وكفاحه، ووعيه، ونضاله الطويل على مستويات متعددة- مثار إلهام متجدد للصبية الفقراء العاجزين المعذبين. اليوم تمر خمسون عامًا على رحيله، جرت في النهر مياه كثيرة كما يقولون، تآكلت منجزاته على الأرض، خصوصًا ما يتعلق منها بمجانية التعليم وانتشاره وعمقه وقيمته بين أبناء الفقراء، تراجع التعليم نفسه على نحو لم يخطر ببال، واستفحل الخلل في البناء الاجتماعي والاقتصادي للمجتمع المصري، الخلل الذي حذر منه صراحة في مفتتح «المعذبون في الأرض»، ثم في لحنها الختامي الحزين.
تخلخلت الدنيا نفسها وتغيرت؛ فهل بقي شيء من طه حسين بعد كل هذا؟ الإجابة: نعم. لو لم يبق منه شيء سوى الأمل لكان دواءً كافيًا. نحن بحاجة إلى نبتة الأمل التي زرعها، وبحاجة إلى روح التكامل التي أكلتها المصالح الضيقة.
1-«الأدب» بمعناه الجديد
كثيرون في الأدب العربي الحديث من خلع الجمهور عليهم ألقابا، لكن قليلين منهم من ترسخت ألقابهم بعدها وصارت مقترنة بأسمائهم. من هؤلاء بالطبع أمير الشعراء أحمد شوقي، وشاعر النيل حافظ إبراهيم، وعميد الأدب العربي طه حسين. وترسخ اللقب يعني وعيًا جماعيًّا ضمنيًّا بمعنى اللقب وقيمته. يظهر كل لقب في ظرف تاريخي خاص، لكنه لا يستمر ولا يترسخ إلا إذا حظي بهذا التوافق الجماعي الضمني على استخدامه.
كان طه بالطبع دارسا للأدب، أو ناقدا، قبل أن يكون أديبا، لكنه من البداية كان يكتب النقد بروح الأديب ويكتب الأدب بروح الناقد، وقد طرح مفهومه هذا للأدب بحيث يشمل ضمن ما يشمل كل ألوان الكتابة التي قدمها، التاريخ الأدبي، والتاريخ الثقافي العام، والفلسفة، والسياسة، والرحلات، والنقد الأدبي، والسيرة، والرواية... إلخ.
ومن وقت مبكر، ربما في أعقاب عودته من البعثة، عمل الرجل في مواضع متعددة من مقالاته وكتبه، على بلورة مفهوم خاص جديد لــ«الأدب» كما يراه، وهو مفهوم صاغه في أتون معاركه مع أنصار القديم كمصطفى صادق الرافعي والشيخ علام سلامة المدرس بمدرسة دار العلوم ورفيق بعثته الدكتور أحمد ضيف ومن إليهم. يقول في ختام مقالته «الأدب والأدباء» ضمن كتابه «من بعيد»:
فالأدب عندنا أدبان: أدب إنشاء، هو هذا الذي ينتجه الكتَّاب والشعراء من أصحاب الفن. وأدب علم ودرس، وهو هذا الذي ينتجه النقاد ومؤرخو الآداب. والأدب الأول فن كله، والأدب الثاني مزجٌ من الفن والعلم. وقوام الأدبين شخصية الأديب التي يجب أن تظهر في كل ما يصدر عنه ظهورًا واضحًا. وقوام الأدبين أيضًا اتصال الأديب بعصره اتصال يمكِّن من تمثيل ذوقه الفني إن كان منشئًا، وحياته العقلية إن كان ناقدًا أو مؤرخًا. ليس أديبًا منشئًا هذا الذي ينظم الشعر فلا يتجاوز ما قال القدماء في اللفظ والمعنى والأسلوب. وليس أديبًا ناقدًا هذا الذي يدرس الأدب فلا يتجاوز ما قال المبرِّد والجاحظ وأبو الفرج وصاحب العقد الفريد، وإنما الأديب المنشئ من يقرأ معاصروه أدبه فيرون فيه أنفسهم، وإنما الأديب الناقد من يقرأ معاصروه نقده فلا يشعرون بأن بينهم وبينه بُعد ما بينهم وبين القدماء. (من بعيد ص 249-250)
وفي كتاب «في الأدب الجاهلي» يعود طه حسين مرة أخرى إلى بلورة مفهومه للأدب، فيقول تحت عنوان كبير هو «الأدب الإنشائي والأدب الوصفي:
«وهنا أعود إلى ما قلته في غير هذا الموضع من أن الأدب أدبان: أحدهما أدب إنشائي، والآخر أدب وصفي. فأما الأدب الإنشائي فهو هذا الكلام نظمًا ونثرًا، هو هذه القصيدة التي ينشدها الشاعر، والرسالة التي ينشئها الكاتب، هو هذه الآثار التي يحدثها صاحبها لا يريد بها إلا الجمال الفني في نفسه، لا يريد بها إلا أن يصف شعورًا أو إحساسًا أحسه أو خاطرًا خطر له في لفظ يلائمه رقةً ولينًا وعذوبةً، أو روعةً وعنفًا وخشونةً، هو هذه الآثار التي تصدر عن صاحبها، كما يصدر التغريد عن الطائر الغَرِد، وكما ينبعث العَرْفُ من الزهرة الأرجة، وكما ينبعث الضوء عن الشمس المضيئة.... وهذا الأدب الإنشائي خاضع لكل ما تخضع له الآثار الفنية من تأثر بالبيئة والجماعة والزمان وما إلى ذلك من المؤثرات الأخرى، ومن تأثير في هذه المؤثرات أيضًا. هو مرآة لنفس صاحبه، وهو مرآة لعصره وبيئته كلما عظم حظه من الجودة والإتقان؛ وهو بحكم هذا متغير متطور قابل للتجديد.
.... الأدب الثاني، أو ما سميناه بالأدب الوصفي، هذا الأدب الوصفي لا يتناول الأشياء من حيث هي، لا يتناول الطبيعة وجمالها، لا يتناول العاصفة وحرارتها، لا يتناول الرضا ولا السخط، لا يتناول الفرح ولا الحزن، وإنما يتناول الأدب الإنشائي الذي يمثل هذه الأشياء تمثيلًا مباشرًا، كما يقولون، وهو يتناول هذا الأدب الإنشائي مفسرًا حينًا، ومحللًا حينًا، ومؤرخًا حينًا آخر، وهو يتناول هذا الأدب الإنشائي بما اتفق الناس على أن يسموه نقدًا. فأما الأدب الإنشائي فهو -كما قدمنا- الأدب حقًّا، وأما الأدب الوصفي فهو ما اتفق المحدثون على أن يسموه تاريخ الآداب...» (الأدب الجاهلي، ص 37-38)
ويمكن للمرء أن يلاحظ في هذا التعريف للأدب مجموعة من النقاط المهمة:
الأولى، أن الأدب ليس فقط ما يقدمه المنشئون في علاقتهم بالواقع، وهذا هو الأدب الحق كما يقول طه حسين، أي ما نسميه الآن الإبداع الأدبي، وإنما هو أيضًا ما يقدمه النقاد في وصف الإبداع الأدبي وخصائصه، وفي علاقتهم وعلاقة هذا الإبداع بالواقع الذي نشأ عنه. وهو لا يتردد في إعطاء هذا الأدب الوصفي مكانة أعلى وأعقد؛ لأنه يملك علاقة مركبة ثلاثية الأبعاد، مع الواقع الذي نتج عنه الأدب، ومع هذا الأدب بخصائصه وأدواته، ومع الجمهور المتلقي لهذا الأدب، خصوصًا حين يلعب دور الوسيط، وهو يطلق على كل هذا «تاريخ الآداب».
والثانية، أن أول ما يميز «الأدب» بنوعيه الإنشائي والوصفي، هو «شخصية الأديب التي يجب أن تظهر في كل ما يصدر عنه ظهورًا واضحًا». الأدب يمثِّل ذوق الأديب في حالة الإنشاء، ويمثل ثقافة الناقد وحياته العقلية في حالة الوصف. ليس الأدب وصفًا باردًا أو زينة مسجوعة مملة منقولة، وإنما هو جمال خاص ينطوي على مهارات في التفسير والتحليل والتأريخ والنقد. والأديب الحق عند طه حسين هو من يجسد عملُه هذه الملكات. «مستحيل أن يؤرخ الآداب غير الأديب... لأن تاريخ الأدب لا يستطيع أن يعتمد على مناهج البحث العلمي وحدها، وإنما هو مضطر معها إلى الذوق، هو مضطر معها إلى هذه الملكات الشخصية الفردية.. تاريخ الأدب إذن أدبٌ في نفسه... فيه موضوعية العلم، وذاتية الأديب» (الأدب الجاهلي، ص37).
أما النقطة الثالثة، فهي أن الأدب بنوعيه ينطوي على رأي واضح وموقف من الواقع؛ إذ تقاس جودة الأدب وإتقانه بمقدار ما يعكسه من بيئته وزمانه ومجتمعه. وهذا أمر حاسم في قيمة ما قدمه طه حسين من «أدب» بهذا المعنى العام الجديد، الأدب الذي ينهض على معرفة قوية باللغة وتذوق ما فيها من جمال، كما ينهض على «عناية قوية بفهم الصلة بين الأدب والشعب، وبين الأدب وغيره من مظاهر الحياة العقلية والشعورية، وعناية قوية بتحقيق الصلة بين آداب الأمم المختلفة...». (الأدب الجاهلي، ص18).
النقطة الرابعة والأخيرة أن الأدب بطبيعته متغير ومتجدد؛ لأنه يعكس واقعًا وزمانًا متغيرًا، وهذا ما لا يسمح لأحد من أنصار القديم أن يوقف فهم الأدب عند القدماء وألا يسمح له بالتجدد والتطور والأشكال والأساليب الجديدة.
بناء على هذا التصور الجديد للأدب، الذي صاغه طه حسين في الكتاب الأول من «في الأدب الجاهلي»، أخذ الرجل ينتج الأدب بالمعنيين، في نصوصه الأدبية، وفي دراساته العلمية والتاريخية، في رواياته وقصصه، وفي مقالاته وكتبه وأحاديثه، وعلى نحو صار معه من البديهي أن يتأكد في أذهان الجمهور لقبه: عميد «الأدب» العربي.
2- حكاء ومحدِّث من طراز رفيع
كان الرجل في حقيقة أمره حكاء، فحوَّل كل شيء نشره على الجمهور إلى قصة أو حكاية ممتعة، وهل كانت دراساته عن أبي العلاء وابن خلدون والشعراء الجاهليين والعذريين إلا دراسات معمقة تتجلى في صورة قصص وأحاديث وحكايات؟ وهل كانت أعماله القصصية كـ(الأيام وشجرة البؤس والمعذبون في الأرض) وأعماله التاريخية كـ(الوعد الحق وعلى هامش السيرة والشيخان والفتنة الكبرى) إلا قصصا وأحاديث تستند إلى ما حصله من ثقافة واسعة، وإلى ملكته الخاصة في الحديث إلى الجمهور.
وهكذا ظل يؤلف كتبه ومقالاته جميعًا، دون تمييز كبير فيها بين البحثي والإبداعي، بين الحديث المباشر بصوت المؤلف التاريخي طه حسين والحديث بصوت راو متخيل أو شخص من ورق، بين الحديث إلى قارئ مباشر في لحظة تاريخية محددة والحديث عن أشخاص قصصه الخياليين وتكويناتهم النفسية وحبكات حياتهم. الحقيقة أن كتبه هذه جميعًا، مهما اختلفت طبيعتها، ظلت في النهاية لونًا مما كان يسميه «الحديث».
هذا ما يلاحظه المازني مثلاً منذ وقت مبكر، حين يرى في طه حسين قصاصًا من الطراز الرفيع، حتى في كتبه النقدية، وهل «ذكرى أبي العلاء»، و«ابن خلدون»، إلا قصص تمثيلية؟ و«الأدب الجاهلي» بحث حر، ولكنه على هذا رواية ممتعة».
وهذا أيضا ما لاحظه مجايله الكبير هيكل؛ إذ ينزع عن كتب طه حسين النقدية صفة النقد، ويراها أقرب إلى القصص: «وأكاد أحسبني لا أغلو إذا قلت: إن النقد الذاتي ليس نقدًا وإنه إلى فن القصص أقرب. وهل تراه يزيد على وصف التأثرات الخاصة لشخص معين أمام مظهر من مظاهر الفن... لكنه على كل حال قصص وليس بنقد». (محمد حسين هيكل: في أوقات الفراغ). أما تلميذه حسين نصار فيلاحظ أن: «طه حسين قد دخل القصة متأثرًا بمنهج التاريخ الأدبي، فاقترب مفهوم الفنين عنده، واقتربت الكتب التي أخرجها في التاريخ الأدبي أن تكون قصصًا، واقتربت القصص التي صورها أن تكون تاريخًا أدبيًا». (حسين نصار: فن القصة عند طه حسين، ص 46)
كل شيء في عالم طه حسين يعبر عن نفسه بفعل الحديث: أحاديث للفتى، والشيخ، والمرأة، والشاعر، والفقراء المعذبين في الأرض، والكائنات والموجودات، والنهر والحيوان.. إلخ. كل شيء يتحدث. والنتيجة أن كتبه النقدية والإبداعية جميعًا تحولت إلى مونولوج درامي واحد كبير، تتكلم فيه شخصيات دراساته، تمامًا كما تتكلم شخصيات قصصه، تعبر عن هواجسها، وتدير على مسمع من قرائه أو مستمعيه، حوارًا مثيرًا مع الحكاء الذي يقف وراءها. وهكذا تنتهي كتاباته في مجملها إلى دراما كبيرة، يلتحم فيها الخيالي بالتاريخي، والذاتي بالموضوعي، والبحثي بالأدبي.
في قصصه، يحاول طه حسين/ الراوي المحدِّث على الدوام، أن يوهمنا بأنه يحكي حكاية متخيلة، لكنه في الوقت نفسه حريص على أن تظل علاقة هذه الحكاية المتخيلة وثيقة مع نموذج الواقع الذي أنتجها، ولا مانع عنده من أن يكسر وهم القص المصطنع، ويخاطب قراءه التاريخيين مباشرة ليصل إلى هذا الهدف. وفي بحوثه ومقالاته، يلتزم هذا المحدث بالإطار التاريخي والشخصيات الحقيقية والقراء الفعليين، لكنه لا يتخلى أبدًا عن نغمة القص ولذة الخيال ودراما الحوار.
3- ابن الفقراء
ولد طه حسين لأسرة فقيرة، وعاش عمرًا طويلا، صعد خلاله من قريته البعيدة في المنيا، إلى مدينة النور، وعاد إلى مصر نجمًا لامعًا ومثيرًا للجدل ببحوثه وأفكاره ومحاضراته ومعاركه ورحلاته، درس التراث العربي والثقافة العربية بالمعنى الواسع العميق للكلمة، ثم انفتح على علوم الأدب الحديثة وصار على رأس أنصار الحديث على كل المستويات، عميدًا لكلية الآداب وأديبًا مرموقًا تتنافس المجلات على نشر مقالاته، وزيرًا للتعليم وحكيمًا كبيرًا يلجأ إليه الجميع. لكنه خلال كل هذا الصعود، ظل ابنًا مخلصًا لفقراء المصريين، سواء في سياساته التعليمية، أو في كتاباته المتنوعة. وهذا ركن كبير في منجزه الباقي.
من البداية حتى النهاية، ظل طه حسين شخصية صراعية، لا تكف عن الحركة والرغبة العارمة في الخروج على كل ما هو مستقر، منذ المشهد الأول في الأيام، حيث يسعى صاحبنا إلى اجتياز السياج، بما في ذلك من رمزية، حتى معاركه الأخيرة أواسط الخمسينيات مع شباب النقاد والأدباء، مرورًا بكل المعارك الكبيرة التي خاضها ضد مناوئيه، خصوصًا معركة الشعر الجاهلي ومستقبل الثقافة في مصر.
مفردات مثل: البؤس والفقر والشقاء والحرمان لازمت طه حسين منذ استعاد الجزء الأول من «أيامه» طفلا وصبيًّا، ويستطيع القارئ أن يرى هذه المفردات بكثرة في رسالته لابنته التي ينتهي بها الجزء الأول من الأيام. وحتى أوائل الأربعينيات لم تكن مفردة «العذاب» مطروحة في معجمه. غير أن من يقرأ كتب طه حسين ومقالاته في عقد الأربعينيات، يمكنه أن يستشعر درجة أعلى من الحدة التراجيدية في الخطاب، تنضح بألم عميق بعيد الجذور في تجربته. وهكذا فرضت مفردة «العذاب» -بعد مفردة «البؤس»- نفسها عليه.
عنوان «المعذبون في الأرض» كان مفتاحًا للكتاب كله، إذ توالت صور المعذبين في عقل طه حسين الشيخ الذي كان قد قارب الستين من عمره، كأنما يستعيد عذاب طفولته مرة أخرى، لدرجة أن فصول الكتاب بدت لي أحيانًا كأنها استكمال لفصول الأيام المؤلمة.
الفضاء الذي تدور فيه معظم فصول الكتاب هو صعيد مصر زمن طفولة طه حسين، فضاء واحد متشابه متكرر، مفرداته رفقة الكُتّاب وسيدنا، والدور والضيوف والطعام، والنهر والحقول والأذان والقطار، وأبطال القصص الأساسيين أطفال وصبية في عمره حين كان طفلا وصبيًّا، ربما كانوا من رفاقه الصغار، وربما جاءوا من خياله المجروح، حيواتهم عذاب متصل، وفقر يصل إلى حد العدم، وهوان ما بعده هوان، نهاياتهم تكاد تكون واحدة: موت تراجيدي إلى أبعد حد، دهسًا بالقطار، أو غرقًا، أو انتحارًا. كانت مفردة «الأرض» في العنوان دالة إلى أبعد حد، فالعذاب ليس في الصعيد وحده، ولا في مصر وحدها، بل في الأرض أو في الكون أو في الوجود الذي لا يملك البشر أن يخرجوا منه. وكانت الحرب الكونية قد أبادت للتو عددًا مهولا من البشر المعذبين بلا ذنب، تمامًا كما كان وباء الكوليرا، وبلا ذنب أيضًا، قد حل بمصر وفقرائها وزادهم بؤسًا.
لحظة من لحظات اليأس حاصرت طه حسين في أواخر الأربعينيات، وقد عبر عنها صراحة في النص الأخير من كتابه الذي بدا ومن عنوانه كأنه تكثيف مرهق لكل المشاعر التراجيدية اليائسة التي عبر عنها في الكتاب:
«... فلم يكن الشعور الذي وجدته في ذلك الوقت شعورَ الخوف، ولا الشعورَ بالحاجة إلى الاحتياط، وإنما كان شعورًا غريبًا أستطيع الآن أن أقول إنه كان مزاجًا من الحزن والخزي جميعًا».
كان فيه الحزن على هذا البلد الذي كنَّا نراه خليقًا بالسعادة، والذي أفنينا شبابنا وكهولتنا وجهودنا وقوانا لنرقى به إلى بعض هذه السعادة التي كنَّا نراه لها أهلًا، ثم ها نحن أولاء نرى الشقاء يُصَبُّ عليه صبًّا، والبلاء يأخذه من جميع أقطاره، والآلام والنوائب تسعى إليه من كل وجه.... وفيه الحزن على هذا البلد الذي كنَّا نراه أهلًا للحرية والأمن، والذي أفنينا شبابنا وكهولتنا وجهودنا وقوانا لنظفر له ببعض حقه من الحرية والأمن، ثم ها نحن أولاء ننظر فنراه مغلولًا لا يقدر على أن يتحرك، معقود اللسان لا يقدر على أن ينطق، مقفل القلب لا يقدر على أن يجد ما تجد الشعوب الحرة من الشعور بأيسر كرامة الإنسان. ثم ننظر إليه فنجده من أجل ذلك خائفًا يترقب، يخشى أن يعمل فيغضب سادته، ويخشى أن يقول فيُحفِظ قادته، ويخشى أن يسكت فيسوء به ظن المسيطرين على أمره..... وفيه الحزن بعد ذلك على هذا البلد الذي كنَّا نراه أهلًا للاستقلال، والذي أفنينا شبابنا وكهولتنا وجهودنا وقوانا لنظفر له بحقه في هذا الاستقلال، ثم نحن ننظر فإذا هو يردُّ عن حقه أعنف الرد وأقساه...». (المعذبون في الأرض، ص 184-186).
ومع كل ذلك، فقد ظل طه حسين حتى النهاية مهمومًا بأطفال مصر الفقراء، ومهمومًا أن يجنبها ويجنب أبناءه وأحفاده هذا الشقاء والعذاب. لقد كتب هذا الكتاب المؤلم وهو في عمر الستين تقريبًا، ولكن حين توفي في عمر الثالثة والثمانين كتبت زوجته هذه الكلمات:
«...كنت وابنتي أمينة ننتظر في السيارة انطلاق أولئك الذين كانوا سيذهبون إلى المقبرة. وكان كثيرٌ من أهالي الحيِّ في ذلك المكان ينتظرون أيضًا في صمت عميق. وكان من بينهم، بالقرب منا، صفٌّ من الأطفال والراشدين. وكنتُ أكرِّرُ لنفسي: «إنه من أجلهم ما بذل طه من جهود كثيرة». وإليهم إنما كنت أودُّ الحديث ذلك الصباح. ومددتُ يدي نحو أقربهم، فأذهلته حركتي في البداية ثمَّ ما لبث أن نظر إليَّ بابتسامة جميلة وتناول يدي. وسرعان ما امتدت إليَّ الأيادي: عشرون، خمسون ...». (معك، ص31)