No Image
عمان الثقافي

صراخ

24 يوليو 2024
24 يوليو 2024

هو مولودها الرابع الذي يموتُ قبلَ أن يحيا.

تخرجُ الأمُّ الثكلى من المشفى مُتثاقلة، خطوة إلى الأمام خطوتينِ للوراءِ، كرقصة تانجو، بعدَ تطهُّرِ رحِمها من كتلةِ الدَّمِ الميِّتة.

قبلَ نهارينِ مُشمسينِ إلَّا من غيومٍ عابرة، داخل غرفة الولادةِ ذات الأضواءِ الصفراءِ الناعمة، تقِفُ الطبيبةُ بجانبِ رأسِ زيانة ممسكةً بإحدى حوافِ السريرِ الحديديِّ الباردِ مُعلنةً وفاةَ ابنها، فَتُجيبُ وهي تغيرُ وضعية جلوسها بتأوه: رحِمهُ الله، تهمسُ القابلةُ لمساعداتها أنَّ زيانة لا تتوقُ للأمومةِ، ويحكمنَ عليها بقسوةِ القلب، ويوجهن ذات التُّهمِ لزوجها علاء الذي يقفُ خلفَ الستارةِ وقد شربَ التَّعبُ من جبينهِ، وأكلت أرضيةُ المشفى قدميهِ لطولِ ما انتظر، يتسربُ همسهنَّ للمكلومةِ، فينقبضُ صدرها، ويُجرحُ الهواءُ الفاصلُ بينهن.

بعدَ دبيبِ العافيةِ في جسدها المؤهَّلِ خِلقةً لإيواءِ الأحياء، يحاولُ زوجها إحضارها للحياة، فيقترحُ عليها الخروجَ للبحرِ بعدَ صلاةِ العصر، وبمقدارِ استغفارهما الله ثلاثمائةِ مرة بسرعة متوسطة يصلانِ بعدَ أن دثَّرا ليلتهما الماضيةِ بدعاءِ زكريا.

يجلسانِ بين الشاطئِ والرصيف على كرسي خشبي تقشَّرَ طلاؤهُ البني

ليسا قريبينِ، ليسا بعيدين، يجلسانِ بجانبِ بعضهما ويبعدانِ بمقدارِ إصبعين

تطلقُ بصرها للبحرِ والسماء، وتسأل علاء لمَ تخترِ الزرقةُ صبغَ جسد أطفالها فترديهم مغلقي العينينِ بأوصالٍ باردة قبل أن يروا نضارة الحياةِ ونعيمها، فينظرُ إليها من خلفِ العدستينِ ولا يُعقِّب.

أيقنتْ أنَّهُ تكوَّنَ بداخلها بعدَ انقطاعِ ألمِها الشَّهري، وعدم تحمُّلِ أنفها الروائح المألوفة، تعاودها ذاتُ الأعراض بعدَ جفافِ بطنها سبعة أشهر إثر تكوُّرِهِ الأخير، وفي شرفتهما التي لا تُطلُّ على بستان، احتفيا ببرودٍ يشوبُهُ التوجس هذهِ المرة، صحنُ معجناتٍ متوسط الحجم، وعصير لذيذ المذاق، خشبيّ اللونِ، لا تعرف اسمه، لم تتقبل معدتها وجوده لأكثر من ساعتين، وقبل انتصافِ الشهرِ الرابع كانَ بطنها قد اعتادَ مغلي الحلبة، والحناء.

كانت فاتحة البشرةِ في أولِ لقاءٍ لهما، تتحدثُ باقتصاد، وتُسرف في الابتسام، يسألها: لم تحبينَ أن يكونَ لنا أطفال، فيتوقع أن يكون ردها: «حتى نكونَ سعداء»، لكنها تجيبه بأوتارٍ صوتية ثابتةٍ متزنة: «حتى نجعلهم سعداء»، الآن، تنبت الكثير من البثور في وجهها الذي فقد استدارتهُ، بعد رحلاتِ علاجٍ مُتعاقبة، شربت الكثير من الأدوية، وشكَّتْ عشراتُ الإبرِ جلدها، وحرزُ الشيخ حميد يحفرُ حلقةً خضراءَ مزرقة حولَ عضدها الأيسر، وكلماتُ القريباتِ والبعيدات تقتاتُ من صِحتِها.

فسَّرتِ الزائراتُ انتحار الكلماتِ في حنجرتها بقلّةِ إيمانها بالقضاءِ والقدر، وفي اليومِ الذي يقررنَ زيارتها فيهِ تبهتُ جدرانُ الغرفةِ، ويتعفنُ الهواء، ولا يحدث هذا حين تأتي رابحة لزيارتها، فحين تتحدثُ يندلق الربيعُ من فمها، رابحة التي تتقاسمُ معها الميرمية، وزيت الزيتونِ المقروءِ عليهِ تحاول التخفيفَ عنها بذكرِ الفواجع التي تسيلُ إلى أذنها بمجردِ الاطمئنانِ على أهلها، تخبرها رابحة عن قصةِ ولادة ابنة أختها في غزة، فبعدَ انتظارٍ دامَ لعشرِ سنوات، حُرمتْ حنان من لذةِ معانقةِ وليدها أول مرة، فقد دخلت في غيبوبةٍ أثناءَ إجراءِ عملية قيصريةٍ لها دونَ تخدير؛ فمشفى الشفاءِ خالٍ من البنج، كانت تشعر بسكينٍ تمزعُ طبقات بطنها إثر كل غرزة، وتسمعُ صوتَ اللحمِ يتمزق، تصرخ حين تبدأ الإبرة بوخزِ لحمها، وحين يسحبُ الخيطُ باللحم، ثُمَّ يشدُّ الطبيب اللحمَ على بعضهِ، ويعقد الخيطَ ليلتئِم الجرح.

بعد إنهاءِ تنظيفِ المطبخ، وقبل جفافِ المناشف الخضراء، حاورها الألم، رماح كثيفة تصوَّبُ في خاصرتها، وأسفل ظهرها يلتهب، تكورتْ في زاويةِ الغرفة، تدثرت بأثقل بطانية، تحاولُ حمايته، لكنَّ الألمَ قادها للحمام، تمشي وكأنَّ الريح تحتها، وقبلَ أن تمدَّ يدها لإغلاقِ البابِ شعرت بانسيابهِ سائلا، فذابَ قلبها، تتصل بعلاء، تكرر اسمهُ خمس مرات متبوعة بشهقة طويلة، يتأخر بكاؤها ولا يتحرر، تحاول صرفَ دموعها من جيبِ الليل ولكن لا جدوى، يجثم الثقل الذي كان في بطنها على صدرها، ولا ينكمشُ حزنها على الذين تدعو لهم بالرحمةِ والمغفرةِ وهم لم يقترفوا فعلَ الحياة.

تتوقُ لطفلٍ يخُطُّ آثارًا لطفولتهِ على الجدرانِ، وآثارًا لخوفهِ على الفراش، تتوقُ لتمشيطِ شعرهِ بأصابعها الرفيعة، ولن تسمحَ للأصابع ذاتها أن تأكلَ من ظهرهِ، ستحكي لهُ عنِ العنزاتِ السبعِ قبلَ أن يُذيبَ النعاس عينيه، ستختبرُ حرارةَ الماءِ بسبابتها قبلَ تحميمهِ، ستدهنُ شحمتا أذنهِ وطرف كُمِّهِ بالمسك، وحين تفردُ الشمسُ جدائلها سيلسعُ كوب الشاي طرف لسانها قبلَ أن تُبرِّدهُ بكوبينِ وترويهِ إياه، لن تقفَ معهُ لانتظارِ الحافلة؛ حتى لا يخبزَ قرص الشمسِ وجهها، ولكنها ستحضنهُ بسخاء حين يعودُ وهو محمل بعرقِ نهارٍ كامل، وفمهُ مخضب بالحكايات، وفي قميصهِ أثر للكثير من البطولات، تتوقُ لأمومةٍ تنمو بانقطاعِ الحبلِ السري، وتصلي للهِ بألَّا تنتفي حاجةَ طفلها لها، وأن تكونَ دفء اللجوءِ لا وخزَ الهرب، تنهمِرُ عليها كل هذهِ التفاصيل فتخرجُ من فمها عبارة: يا الله، وتسكت بعد أن ذاقت ملحَ دمعتين.

ينزل علاء من الكرسي، يرسم رغيفا على الأرضِ، يضغطُ عليهِ بإبهامه، مكوِّنا حفرتينِ صغيرتين

«أُريدُ لعينيهِ أن تكونا مثلَ عينيكِ» يقولُ لها

«حتى يُنعتَ بالصِّينيِّ في فصلهِ» تُجيبهُ وقد تقوَّسَ فمها

تغرسُ رجليها في الرملِ غيرَ آبهةٍ للترابِ الذي يلثمُ عباءتها، ثم تتكورُ كجنينٍ مستندة بيدها اليمنى، وتستعينُ باليسرى لرسمِ نصف دائرة في اتجاهينِ، إنها الأذن، شمَّاعةُ الأقراطِ، ووِعاءُ الفضفضةِ، وأكثرُ ما يُدمى الإنسانُ من خلاله.

يهمُّ برسمِ الأنفِ مستقيمًا فتمحوهُ قائلة: «أُحبُّ لهُ اعوجاجَ أنفك»

يتذوقُ كلماتها فتخرج تنهيدة خفيفة، ويُعيرُ كلٌ منهما بريقَ عينيهِ للآخر

ضيَّقَ علاء عينيهِ، وعلكَ أفكارهُ لبضعِ دقائق، قبل أن يتناول عودا يابسًا هزيلا اختلطَ بالرملِ ويرسمَ خطَّينِ بميلانٍ طفيف في النهاية فوق الحفرتين، ثمّ يُديرُ رأسهُ بانتشاء دون النظر لزوجه، «تماما كما يصفهما الشعراء» يقولها بثقة

لا يرسمانِ الفم

منطلق اللغة، والوجود، ودليلُ الحياةِ والخلود

تأفلُ الشمسُ، فتبردُ الأرض، ويستعدانِ للرحيل

تُحيطُ أصابعها الخمس بإبهامهِ الأيسر، وتتخيلُ طفلها الذي سيصرخ بلا دموع، في حينِ أنها ستبكي بلا صراخ

مُدبرانِ عنِ الأشياءِ التي لا تموت؛ لأنها تولدُ كل يومٍ من جديد

يموتُ وجهُ صغيرهما عندَ البحر، وينمو حُبُّهُ في قلبيهما

وقد اقتربا من السيارة، ترخي القبضة ولا تفلتها، فهو يحتاجها كيتيم، وهي تريدهُ كأمٍ عقيم، لحينِ موعدِ صرخةٍ قِوامها طينٌ ودماء، فهي تتوقُ لقطعةِ لحمٍ دافئةٍ مُحمرَّة يعلو صدرها ويهبط.

سمية المفرجية قاصة عمانية