«شهر في سيينا» لليبي هشام مطر متعة الوقوف الطويل أمام لوحة
صدر أخيرًا عن دار الشروق بالقاهرة الكتاب الرحلي «شهر في سيينا» للروائي الليبي المقيم في بريطانيا هشام مطر. تفاصيل تأملية لرحلة قام بها الكاتب إلى مدينة سيينا الإيطالية التي يمنع أن تتحرك فيها السيارات، حيث يقتصر التنزه في أرجائها على القدمين كما ورد في بداية الكتاب، لذلك سيكون لما تلتقطه العينان وبقية الحواس الشأن الأوفر في صفحاته (150 صفحة). وقد نقلتها إلى العربية المترجمة العمانية زوينة آل توية. ويمكن الالتفات إلى أن الترجمة ذات مسحة شاعرية واضحة، وفقت المترجمة في اختيار المفردات وظلالها. وربما يعود ذلك إلى أن زوينة قادمة من ساحة الأدب، وكان لها مشاركات قصصية متعددة سواء على مستوى جامعة السلطان قابوس أو في رحاب فضاءات أخرى كالنادي الثقافي والصفحات الأدبية في الصحف والدوريات المحلية والعربية، وقد وثقت زوينة اهتمامها الأدبي السابق في مجموعتها القصصية «المرأة الواقفة تجلس». جمالية الترجمة ميزت آل توية في مختلف ما نقلت إلى العربية من كتب في مجالات معرفية وأدبية مختلفة.
اللوحات بوابة أخرى للدخول
يسافر الكاتب مع زوجته إلى العاصمة الإيطالية روما ومنها إلى مدينة سيينا الأثرية، ولكن الزوجة تتركه بعد أيام بسبب مشاغلها فيقضي أيام الشهر وحيدا، ولكنه لن يكون وحيدا حين نراه يقسم يومه ويقضيه ويبدده في رؤية اللوحات القيمة الكثيرة التي تتميز بها المدينة وخاصة في أروقة الكنائس والكاتدرائيات. وكان حين يدخل إلى رواق اللوحات يقف طويلا متأملا اللوحة التي تعجبه حتى إن المشرفة على المعرض -مع مرور الوقت- صارت تأتي له بكرسي ليجلس عليه حين ترى وقوفاته الطويلة، فيستخدم الكرسي ليس للجلوس إنما ليسند به يده وهو واقف. بعض اللوحات يكرر زيارتها قبل أن تنطبع في رأسه خباياها الظاهرة والدفينة؛ لذلك فإن الكتاب ما فتئ يزخر بعبارات جميلة وجديدة تنم عن استمتاع وعمق في تأمل اللوحة، مثل جدارية «رمز الحكومة الصالحة» للفنان «أمبرو جيولو رنزيتي» وهو فنان إيطالي من القرون الوسطى، وبعد تأمل للوحة يكتشف أن وسط طابور الرجال في تلك اللوحة رجلا عربيا يقف بين الحشود، وقد ميزه بملابسه التي تشبه الملابس المغربية من جلابية وعمامة وسلهام،رغم أن الجميع في زحمة الواقفين يرتدون ملابس متشابهة تقريبا إلا أن هذا العربي يتميز أن ملابسه قصيرة من الأسفل وهذا ما يميز الجلباب المغربي التقليدي وقصر الملابس من الأسفل هنا بسبب ضروريات الصلاة. يجد الكاتب في هذه اللقطة فرصة سانحة للحديث عن الوجود العربي في ذلك الوقت في مدينة سيينا، حيث ساهموا بدورهم في صنع الحضارة الأوروبية في تلك الفترة البعيدة من التاريخ.
سنجد أيضا في وصفه لإحدى اللوحات شيئا من الإسقاط السياسي، مثل الوجه الذي يمثل الطاغية الروماني وقد تم تصويره على هيئة شيطان، وقد علق الكاتب على هذه الصورة بالعبارة التالية: «الطغيان الذي صوّر على أنه شيطان، ذكرني برسوم الجرافيت التي غطت الجدران في كل مكان في أنحاء طرابلس، ساخرة من الزعيم الليبي معمر القذافي». رغم أن الكاتب لا يلجأ إلى مثل هذه المقارنات إلا في أحوال نادرة وحالات ضيقة وعابرة جدا، ولا يكره اللوحات لصالح فكرته، إنما يوردها على هيئة جمل اعتراضية تشبه السرحان خارج اللوحة. ولكن تظل تأملاته للجداريات في غاية الجدة تنم عن تفرس واكتشاف وتماهي مع اللوحات، كما تنم عن شغف معرفي بزيارة المتاحف ليس فقط من أجل ملء جدول الرحلة سياحيا، إنما بقصد متعة التأمل، فهو حين يقف أمام لوحة فإنه يبدو وكأنه يتنزه واقفا ويبحر بخياله ويغوص في تخوم اللوحة وتفاصيلها وزواياها لينتزع منها تفسيرا جديدا أشبه باكتشاف خاص. مثلا يقول في حديثه عن لوحة «آثار الحكومة...» حيث تكون الحياة فيها ذات معمار عسكري جامد وموحش: «هنا المدينة صلبة وفارغة وعارية مثل عضلة مشدودة. العمل الوحيد الذي يبدو مزدهرًا، هو عمل صانعي الدروع. البيوت مهجورة، نوافذها تركت مفتوحة على مصاريعها، وأخرى تهدمت بسبب الحرب، في البعيد جيشان يواجه أحدهما الآخر في قتال دائم، العدالة المكبلة بالأصفاد عند قدمي الطغيان، مخلوعة من العرش ومجردة من ثوبها، كل ما عليها هو قميصها التحتي الأبيض، يلتف عليها مثل جلد ثان، كأن القماش أيضا محرج».
حياة أخرى خارج اللوحات
خارج اللوحات القديمة والوقوف مطولا لتأملها وقراءتها وتتبع مظانها ومسالكها، نجد أيضا أن هشام مطر يصادف بعض المواقف في نزهاته اليومية وكان من أبرز هذه المواقف، تعرفه على واحد من أبناء جلدته ولغته، أردني كان يتمشى مع ولديه: «سمعت رجلا يتحدث بالعربية إلى ابنه وابنته الصغيرين. بدا في مثل سني ووجهه كوجوه الأشخاص الذين كبرت معهم» حيث أمكن أخيرا للغته الأم أن تجد متنفسها، فاقترب منه وأطلق العبارة الجامعة «السلام عليكم». يتمدد الحوار بينهما وهما يتمشيان، إلى أن يصر الأردني إلى دعوته في بيته. حيث ستتاح له فرصة لازدراد الطعام الأردني الذي أعدته الزوجة إلى جانب تعرفه على والد المضيف وهو شيخ مقعد: «تحدث ببعض الصعوبة متلعثما في كل كلمة بمكابدة كبيرة، وفي الفجوات الفاصلة بين هذه الكلمات الثمينة كانت عيناه تجولان وتحدقان، كأنه يأمل أن شيئا هناك في منتصف المسافة يأتي لنجدته».
الموقف الثاني خارج تأمل اللوحات، يأتي حين قرر تعلم اللغة الإيطالية، صحيح أن إيطاليا استعمرت ليبيا عدة عقود،إلا أنه بسبب خروجه من ليببا في عمر صغير، لم يستطع أن يلم بأية مفردة من مفردات اللغة الإيطالية، باستثناء تلك المفردات القليلة التي تتخلل اللهجة الليبية بسبب المكوث الاستعماري، لذلك قرر أن يتعلم اللغة الإيطالية في الفترة التي يقضيها في المدينة، رغم أنها فترة شهر إلا أنه تأمل أن يلتقط بعض الكلمات المهمة تكون له زادا مستقبليا، وأثناء ذلك جمعه حوار ونزهة مع معلمته، في أحد الحوارات الطريفة قالت له متحدثة عن أبيها: كان لطيفًا وذكيًا، حفظ عن ظهر قلب مجلد الجحيم لدانتي!» فرد عليها: ياله من أمر مروع له! فضحكت.
الموت الأسود وابن خلدونمن أثرى فصول الكتاب حديثه عن الموت الأسود، وهو الطاعون الذي حصد الملايين في أوروبا وبعض أجزاء من الوطن العربي. سنجد فيه معلومة لافتة تتعلق باتهام المسيحيين لليهود بأنهم كانوا ينشرون الطاعون عن طريق آبار الشرب، كما يلفتنا حديث الكاتب عن ابن بطوطة صاحب كتاب الرحلة الشهير «تحفة النظار في غرائب الأمصار»، وأيضا حديث مطول عن ابن خلدون ومقدمته الشهيرة، في هذا الباب سنكتشف أن ابن خلدون وضع مقدمته الشهيرة ومجلداته اللاحقة، تحت صدمة هذا الطاعون الذي حصد والديه والعديد من أسرته: «لقد أتاحت له مشاهدات وقائع الموت الأسود المأساوية بامتدادها العالمي ومواجهاتها الشخصية في الوقت نفسه، إلى أن يبصر إمكانية نهاية الأشياء، وربما، بقيامه بهذا، أسلم نفسه لكتابة بداية، بداية ككل المقدمات معنية بالدرجة الأولى بكفيية البدء، بإمكانية الخلاص المتمثلة في السعي المتواصل للشروع في شيء جديد». حيث إن ابن خلدون يرى أن هذا الوباء جاء حين «بلغت الدول هرمها ومنتهاها، وبلوغ الغاية من مداها» وكأن الأوبئة -حسب ابن خلدون- تأتي عادة لتعيد بعث الحياة من جديد. وهي فراسة واضع علم الاجتماع، الذي قال عنه المؤرخ الإنجليزي أرنولد توينبي: مقدمة ابن خلدون هي أعظم عمل أنتجه عقل في أي زمان».
عبارات تأملية
يزخر كتاب «شهر في سيينا» بعبارات تأملية تنم عن تجربة كاتبها وخبرته ومراسه في الحياة وسعة اطلاعه وقراءاته الموسوعية الواسعة إلى جانب حذاقته الشخصية من هذه العبارات مثلا: أيا كان الدرع الذي نختاره، فإن جميع الأشياء لابد أن تفنى»، وعبارة: عندما يكون المرء وحده، يصبح الزمن غرفة بنافذتين»، وعبارة: المستقبل يتيح لنا فرصا لا نهائية لتوقعاتنا وأوهامنا»، وعبارة: «اللانهاية أفق خانق»، وعبارة «الجحيم الحقيقي ليس جحيم النار، بل جحيم ألا يعرفنا أولئك الأقرب إلينا».
ختامها لوحة وإن كانت معظم صفحات الكتاب تأملات للوحات كلاسيكية، حيث يزخر الكتاب كذلك برسومات عديدة ملونة حاولت تقريب الأفكار إلى عين القارئ، وهنا يكون القارئ أمام نوعين من القراءة أحدهما قراءة لوحات يترجمها الكاتب عبر تفسيراته الحاذقة، يختم هشام مطر أيضا كتابه بقراءة للوحة «الفردوس» للرسام الإيطالي «جيوفاني دي باولو» وهي لوحة تصور الفردوس على هيئة لقاء مع الأحبة الغائبين، تحيط بهم الأشجار والفواكه «لوحة مثقلة بالفاكهة»، «تصور اللوحة جمع الشمل في الآخرة، كل منهما يواجه الآخر ممسكا بيده، ينتظم الأزواج في هيئة رقصة فالس. كل ما في اللوحة ممثل بأبعاد متساوية، دون التزام بما يقتضيه المنظور الواقعي من تفاوت في الأحجام».