شهادة شخصية عن العمل في الإعلام الثقافي
عملتُ منذ نهاية عام 2015 في البرامج الثقافية في إذاعة سلطنة عمان العامة. لا شك بأن كثيرًا من الخبرة اكتسبتها خلال هذه السنوات، ليس في صناعة مادة إعلامية فحسب بل حتى على الصعيد المعرفي، وخلال هذه الفترة كنتُ قد تلقيتُ تدريبا وحرصا كبيرين من زملائي في المؤسسة، ليس أولهم الكاتب والإعلامي سليمان المعمري رئيس قسم البرامج الثقافية، والإعلامية القديرة نايلة البلوشي، التي رشحتني منذ البداية للعمل في المؤسسة وفي هذا النوع من البرامج تحديدًا. وعلى امتداد هذه التجربة كثيرًا ما كنتُ أتلقى ملاحظات من المثقفين في المشهد الثقافي، أتذكر جيدا حادثة صغيرة مطلع 2015 عندما قابلت الشاعر إبراهيم سعيد في البرنامج الثقافي «المشهد الثقافي» الذي قدمته آنذاك بالنيابة عن المعمري لظرف طارئ، لم أكن مستعدة جيدًا للقاء آنذاك، قال لي إبراهيم سعيد بكل صراحة: لا ينبغي أن تسألي أسئلة عامة كهذه، لابد من الاطلاع على الكتاب الذي نتحدث عنه، لقد أخذتُ هذه النصيحة على محمل الجد وقدرتُ في إبراهيم التفاتته هذه.
في عام 2018 قدمتُ أطروحتي في برنامج ماجستير الآداب بجامعة السلطان قابوس وتحديدًا في تخصص الإذاعة والتلفزيون بقسم الإعلام، وكان موضوعها الإعلام الثقافي في سلطنة عمان، والبرامج الثقافية في الإذاعة العامة على نحو خاص، كنتُ أريد الوقوف على طبيعة التجربة البرامجية في الإذاعة، خصوصاً وأننا وزملائي كنا نسمع عن أصداء البرامج الثقافية تحديداً ليس في عُمان فحسب بل حتى على مستوى دول الخليج العربية والوطن العربي وأظن بأنني وضعتُ يدي على بعض التحديات التي تحيط بالمناخ العام للعمل الثقافي عبر هذه المؤسسة.
يمكن القول: إن أهم هذه التحديات هي عدم وجود سياسة تحريرية مكتوبة وواضحة للعمل الإذاعي، وغياب هذه السياسة يعني الوقوع في أزمات عديدة، منها أولا الاستقرار على تعريف إجرائي للثقافة والبرامج الثقافية، الأمر الذي يعد معضلة في حد ذاته، لأن هذا التعريف يعني إما إقصاء مجالات مثل العلوم أو اعتبار برامج تقدمها الإذاعة بالفعل على أنها لا تنتمي للثقافة. وعموما وحسب أطروحتي في الماجستير فإننا في النشاط الثقافي في سلطنة عمان نميل إلى اعتبار الأدب، هو الثقافة كلها وإن لم نعترف بذلك صراحة. وهذا ما يتفق مع دراسة نشرها كل من أنور الرواس وطه عبدالعاطي مصطفى نجم بعنوان: «الصورة الذهنية للنادي الثقافي في المجتمع العماني: دراسة استطلاعية على اتجاهات عينة من المترددين على النادي». في مجلة العلوم التربوية بجامعة قطر - كلية التربية عام 2007 الذي اعتبر أن وجود وزارة التراث القومي، التي تغير اسمها في عام ٢٠٠٢ إلى وزارة التراث والثقافة يعد بداية للاهتمام الحكومي الرسمي بالثقافة في سلطنة عمان، واستمر نشاط المشهد الثقافي بعد ذلك عبر ظهور المؤسسات الثقافية الحكومية والمدنية. إلا أن بعض هذه المؤسسات تقاطع مع مؤسسات أخرى من حيث الأهداف والهياكل التنظيمية وطبيعة اتجاهات هذه المؤسسات. الأمر الذي أنتج عبر هذا التداخل بين هذه المؤسسات الثقافية المختلفة، النادي الثقافي والمنتدى الأدبي على سبيل المثال، حالة من التقاطع بين اهتمامات هذه المؤسسات وأنشطتها. فتم التركيز على الأدب وتجاهل جوانب الثقافة الأخرى سواءً الفكرية أو الاقتصادية وهو ما يتفق أيضًا مع نتائج دراسة سهيل بن سالم الشنفري «معالم الحركة الأدبية في مجلة الغدير العمانية (1977 ـ 1984) حول الأدب في مجلة الغدير وهي مجلة ثقافية عمانية صدرت عام 1977 حيث بلغ عدد المواد الأدبية منذ عام ١٩٧٧ – ١٩٨٤ م ٥١١ مادة أدبية، شكل الشعر منها النسبة الأعلى تضمنت ٢٣٩ مادة. مما قد يعتبر مؤشرًا على أن قطاعات عدة بما فيها الصحافة اهتمت بالجانب الأدبي أكثر من الجوانب الثقافية الأخرى. وهو ما أكدته نتائج أطروحتي أيضاً التي درست البرامج الثقافية عام 2017 إذ تفوقت الموضوعات الأدبية حيث شكلت ما نسبته ٢٧.٣٪ تليها الموضوعات الاجتماعية بنسبة ٢٢.٢٪ من موضوعات البرامج الثقافية. وكنت قد حاولت تفسير هذه النتيجة آنذاك بأن الإصدارات الثقافية على المستوى المحلي تشهد تفوقاً للمنتج الأدبي شعراً وقصة قصيرة ورواية، والملاحظ لأعداد الإصدارات التي تتقدم للحصول على دعم الكتاب السنوي من قبل النادي الثقافي وجمعية الكتاب والأدباء في آخر خمس سنوات، وتلك التي تتقدم لمسابقة أفضل إصدار، يمكنه أن يلمس وجود فارق بين أعداد المتقدمين في المجالات الأدبية وأعداد المتقدمين في المجالات الأخرى، ولأن البرامج الثقافية في إذاعة سلطنة عمان تتابع المشهد الثقافي في سلطنة عمان، فمن الطبيعي أن ينعكس الاهتمام العام بالموضوعات الأدبية على مضمون البرنامج أيضًا.
كما ذهبت نتيجة تحليل مضمون مصادر المعلومات في هذه البرامج في نفس الاتجاه، حيث تفوق الأدباء بنسبة ٤٧.٥٪ ويمكن تفسير ذلك في أن جميع القائمين على البرامج الثقافية في إذاعة سلطنة عمان العامة أدباء، فرئيس قسم البرامج الثقافية كاتب وروائي، وكذلك بالنسبة لمعدي ومقدمي البرامج الأخرى، وينعكس هذا على اتجاهات البرامج، وعلى المصادر في هذه البرامج، بحكم الدوائر التي ينتمي لها القائم بعملية الاتصال. قد تضمن السياسة التحريرية الوظائف التي تريد المؤسسة تحقيقها، في ضوء دراستي فإن وظيفة برامج إذاعة سلطنة عمان العامة الثقافية محل الدراسة تتمثل في التثقيف والترفيه كل منهما بنسبة ٣٢.٣٪ ومن ثم الوظيفة الإخبارية بنسبة ٢٧.٣٪ وتأتي وظيفتي الحفاظ على التراث والنقد في المرتبة الأخيرة بنسبة ٤٪.
يعد غياب السياسة التحريرية أيضًا، ارتهان العمل الثقافي والبرامجي على العمل الفردي والمستقل، هذا يعني أن غياب الأفراد العاملين على تكريس هذا النوع من البرامج قد يهدد استمرارية حضورها بنفس الأداء، ونحن نعرف جميعًا أن تقديم البرامج الثقافية لا يكتفي بالأداء التقني لشكل البرنامج، وإنما يحتاج لأشخاص لديهم اهتمام بهذا التخصص. فلنسأل مثلاً ماذا لو لم يعد سليمان المعمري موجوداً؟ والشاهد أن تفاعل إدارة المؤسسة اليوم وتحديداً المسؤولين في الإذاعة العامة، سالم الكثيري في إدارة الإذاعة العامة، وهلال المشيفري في إدارة البرامج جعل عمل البرامج الثقافية أكثر يسراً، إذ إن لديهم رؤية شخصية حول حضور هذه البرامج وشكلها وأهميتها، الأمر الذي يعني وقد شهدناه بالفعل كموظفين في هذه المؤسسة أن تعاقب إدارات مختلفة قد يعني تغييرًا في اتجاهات العمل الإذاعي وانشغالاته، الأمر الذي يمكن أن يكون أكثر تنظيما إذا ما تم تشريع سياسة تحريرية واضحة وتتفق مع المبادئ والأهداف الأساسية للمؤسسة.
منذ بداية عملي في إذاعة سلطنة عمان قدمت وأعددت البرامج التالية: «المشهد الثقافي، إصدارات عمانية، انطباعات سينمائية، اللقاء، فصائل الفضاءات، المكتبة كون بلا حدود، وأحسُ أحيانًا بأنني فعلتُ كل هذا بلا جدوى تذكر، ربما يعود الأمر لتهميش الثقافة عموما من الحياة العامة، ليس معنا فحسب بل في العالم أجمع، فأنا لستُ معروفة حتى في المؤسسة التي أعمل فيها بين زملائي المذيعين، وأكاد لا أذكر في المناسبات التي يترشح فيها زملائي في بقية القطاعات، كما أنني وخلال فترة طويلة واجهتُ مشكلة كبيرة مع اتهامي بالنخبوية في الوقت الذي أعمل فيه في مؤسسة تقدم خدمةً للعامة، لقد صارعتُ كثيراً في محاولة فهم حدود ما هو نخبوي وما هو شعبي، ولا شك بأن هذا التحدي مرتبط أيضاً بالسياسة التحريرية الغائبة تقريباً. وبفلسفة أؤمن بها لخلفيتي الأكاديمية، أن لا يوجد ما هو للعامة وعلى البرامج أن تكون متخصصة قدر المستطاع، وأن تفهم منذ البداية جماهيرها المستهدفة، وأنا لا أدعو بذلك لعزل البرامج والجماهير عن بعضها، ولكن إلى تحديد أطياف متقاطعة من الجماهير عند تحديد الفئة المستهدفة. في عام 2018 وبينما أغادر من عملي كمراسلة لبرنامج الجليس عبر إذاعة سلطنة عمان العامة من أرض معرض مسقط الدولي للكتاب آنذاك، قطع أحد السائقين إشارته الحمراء ليصدم سيارتي بقوة، أغمي عليّ في تلك الحادثة، ومع أنني لم أكن أملك أي أوراق ثبوتية إلا أن المسعف وهو يحاول إبقائي متيقظة في سيارة الإسعاف سألني عن اسمي، فأجبته، وسألني عن عملي، ولا زلت أتذكر دهشته حينها، قال لي بأنه يعرفني جيداً وحسب أنني أكبر سنا مما أنا عليه بالفعل، ثم بدأ يسرد لي عن علاقته ببرامجي وبرامج زملائي في الإذاعة، عن تحميله البرامج الثقافية قبل عودته أسبوعيا «للبلد» وسماع هذه البرامج طيلة الطريق للبيت، كان يتذكر لنا لازمات نحكيها كل الوقت لا موضوعات برامجنا فحسب. ربما يكون في ذلك آخر الأمر جدوى إذن؟
أمل السعيدي كاتبة ومعدة برامج ثقافية في إذاعة سلطنة عمان