سيرة الشاعر باعتبارها ملهما إبداعيا: سليمان النبهاني أنموذجا
إذا كان المنجز الشعري يمثل قيمة من قيم الخلود للشاعر بعد رحيله وفنائه جسدا، فإن سيرة الشاعر هي الأخرى لا تقل شأنا عن شعره في كثير من الأحيان، وهي تشكل موردا خصبا ومحرضا إبداعيا ملهما للفنون الأخرى. فكم ألهمت سير الشعراء صناع السينما والدراما والرسامين والموسيقيين والروائيين، الذين قدموا للإنسانية روائع إبداعية بقيت خالدة بخلود الشعر وحضوره الأبدي.
إن نظرة واحدة على فضاء السينما والدراما تكشف لنا مدى استلهام هذه الفنون لسير الشعراء أمثال امرئ القيس وعنترة بن شداد والمتنبي وابن زيدون وولادة بنت المستكفي وجبران خليل جبران والجواهري ونزار قباني ومحمود درويش وأحمد شوقي والفرنسي آرثر رامبو والإنجليزي شكسبير والتشيلي بابلو نيرودا والأمريكي آلتان جينسبيرج والأسباني لوركا والهندي طاغور وغيرهم الكثير.
في هذه المقالة سنتوقف عند تجربة شعرية عمانية كان لسيرتها أثر بالغ في تحريك المخيال وإلهام الكتاب والباحثين والمبدعين، وهو الشاعر السلطان سليمان بن سليمان بن مظفر النبهاني، وهو أحد ملوك النباهنة الذين حكموا عمان أكثر من خمس مائة عام، ويشكل عصرهم محطة هامة من محطات الإبداع الشعري. وتعد هذه الحقبة من أكثر فترات التاريخ العماني التباسا وغموضا نظرا لندرة ما كتب عنها. ورغم شح المصادر وتغافل التاريخ المكتوب لهذه الحقبة، لأسباب وغايات سياسية ودينية متعددة، فإن سطوة الشعر وهيمنته اللافتة بقيت شاهدة على المستوى الحضاري والثقافي الذي بلغته عمان خلال تلك الحقبة. وقد حفظ لنا التاريخ أسماء أربعة من الشعراء المخضرمين لتلك المرحلة وهم سليمان النبهاني، واللواح الخروصي، والكيذاوي، والستالي.
وقد تقاطعت فترة حكم النباهنة لعمان مع الفترتين الفاطمية والعثمانية، حيث شهد الشعر العربي تراجعا كبيرا وجمودا واضحا، فيما كان مشهد الشعر العماني يضج بالحيوية والعطاء الخلاق من خلال شعراء كبار تركوا إرثا شعريا عظيما، حتى أن الشاعرة الدكتورة سعيدة بنت خاطر الفارسي عدت هذا العصر هو العصر الذهبي للشعر العماني ، وقد ألفت كتابا، طرحت فيه الأسئلة حول ضياع نتاج هذا العصر والإهمال الذي تعرض له. تقول الدكتورة سعيدة خاطر: «مما لا شك فيه أن هذا العصر زاخر بالنتاج الشعري والثقافي عامة وأن ما وصلنا من هذا العصر هو أقل القليل، وأن جلَّ هذا التراث تعرض للإهمال والطمس كما تعرض العصر بمجمله. والسؤال لماذا؟ وأين دور المؤرخين العمانيين في حفظ تراثهم الذي يعتبر هذا العصر جزء لا يتجزأ منه؟»
ونحن نكتفي في هذا السياق بالإشارة إلى مسألة التهميش وإهمال المؤرخ لهذه الحقبة المهمة من التاريخ العماني، إذ أننا لسنا بصدد مناقشة المسألة التاريخية، وإنما الذي يهمنا هو موقع الشاعر في هذه التجاذبات. الروائية العمانية زوينة الكلباني تقدم في روايتها الأخيرة (فتنة العروش) مقاربة إبداعية لسد هذه الثغرات التاريخية وكشف المسكوت عنه من خلال استنطاق سيرة السلطان الشاعر سليمان النبهاني، في تجربة تمثل انحياز السرد للشعر وتضافر الاثنين معا من أجل إضاءة الزوايا المعتمة وإبراز الحقيقة الغائبة أو المغيبة. الرواية تتخذ من سيرة هذا الشاعر الفذ نموذجا بطوليا ملهما لتفتح من خلاله دهاليز الأزمنة.
يقول الدكتور البشير ضيف الله: «لعل ما يميز هذا النص اشتغاله التاريخي على جملة من الأحداث المعروفة والمحددة زمنيا بكثير من الحريرية، لغة، حيزا، فضاءات، لتشكل في النهاية معمارا سرديا بديعا، معمارا يتقاطع فيه السردي بالشعري، والشعري بالسردي، فقد مثل هذا العمل فتنة سردية مزجت بين الحقيقة والتخييل مستعيرة من «شهرزاد» تشويقها، وإمساكها بخيوط الحكي من جهة، ومرتكزة على المروي التاريخي الأقرب إلى الحقيقة، فكأنها تعيد ترتيب الأحداث التي انحرفت عن مسارها.»
لقد عاش سليمان النبهاني حياة صاخبة مكتظة بالأحداث والتحولات والصراعات والحب والمنفى، وجرّب الانتصارات والهزائم، الأمر الذي أغنى تجربته الشعرية وأعطاها عمقا مختلفا. يقول في إحدى قصائده واصفا نفسه:
أنا ابنُ أندى الملوكِ كفاً
جواداً إذا خفتِ الغيومُ
أنـا المكنىَّ أبا عليٍّ
إذا توارى الفتى الكريمُ
يقول عنه الخصيبي في كتابه (شقائق النعماين) : «ممن قال الشعر من أهل عمان من الملوك في القرن التاسع من الهجرة السلطان سليمان بن سليمان بن مظفر النبهاني. شعره في غاية من الجودة وجزالة اللفظ ورشاقة المعنى، قد استخدم الألفاظ الغريبة والمعاني المبتكرة. لا ترى في شعره حشوا ولا تعقيدا، فهو يزاحم امرئ القيس وأضرابه، وله دیوان جامع لشعره منتشر في البلاد».
ولم يتأثر شعر سليمان النبهاني، كما أشرنا، بالموجة السائدة في الشعر العربي في عصره باستخدام الزخارف والمحسنات اللغوية والبديعية. «فقد سخر البديع لخدمة شعره ولم يسخر شعره لخدمة البديع كما كان الحال مع معظم شعراء عصره الذين اندفعوا في ذلك الوقت اندفاعا إلى أنواع البديع المختلفة، وجعلوه السمة البارزة لشعر ذلك العصر، مما أبعد الشعر عن عمق المعاني وقوة التأثير، وجعله مجرد ألوان زاهية، كجسد بلا حركة ولا روح فيه» .
ومن ثم كان شعراء هذا العصر، كما تؤكد سعيدة بنت خاطر، في طليعة من قام بحركة الإحياء والبعث لمتانة اللغة والمحافظة على جودتها، ولهذا يستحق العصر النبهاني أن يدرج ضمن عصور الإحياء والبعث والمحافظة على ديباجة القصيدة العربية في تأريخ الأدب العربي عامة».
وقد عُرف عن النبهاني حبه للشعراء وإكرامه لهم وتقريبهم لهم في مجلسه، وقد ذكر ذلك في أكثر من قصيدة، كما عرف باعتداده بذاته وبذله وسخائه وفخره بذلك في شعره: ومثل ذلك في قوله:
ولرُبَّ ذي شـِـعرٍ أتانيَ راجلاً
ثم انثنى بملابسٍ وصواهلِ
أنا كعبة ُالشعراءِ بل أنا ثروةُ
الفقراءِ، بل أنا موردٌ للناهل
ويقول أيضا:
أجودُ بما أحويهِ والدهرُ عابس
ولم يثْنِني عن بذلِ ما حزتُ رادعُ
بضائعُ أهلِ الشعرِ عندي نَوافقٌ
إذا كسدتْ في الخافِقين البضائعُ
وإني حُسامٌ لم يُفَلَّ غِراره
وشهمُ جَنانٍ لم ترعْه الرَّوائع
تقترح الرواية، في سعيها لبناء سرديتها الخاصة، اكتشافا مذهلا من شأنه أن ينفض الغبار عن الحقيقة الغائبة ويقدم الدليل الناصع في صورته الواقعية المحسوسة على طريقة الأركيولوجيين، وذلك من خلال اكتشاف مخطوط لطروس السلطان سليمان النبهاني كتبها بخط يده، وقد عثرت عليه بعثة أثرية محفوظا في صندوق مخبأ في تجويف جدار في حصن أسود ببلدة مقنيات بعبري. وتذهب الرواية إلى أن الأشعار التي تضمنتها هذه الوثيقة هي ذاتها الأشعار التي وردت في الديوان المنشور للشاعر.
و«تشتغلُ الروايةُ على رسم شخصية سليمان النبهاني مرة أخرى معتمدةً على فكرة التخيّل لها بقراءة نصوص التاريخ والأحداث الواردة إلينا رغم قلتها، وتقوم بنسجِ أحداثها بناءً على مخطوطة عُثِرَ عليها تتناول فترة حكم النباهنة، لتصبح هذه المخطوطة مدخلا مهمًا لسرد الأحداث وبسطها للقارئ وانتقالها زمانا ومكانا لإعادة تحريك الرواية التاريخية وإثارة الأسئلة حولها».
تلك السيرة الخصبة للشاعر الملك كانت رافدا عميقا لتشكيل عمل إبداعي يمتزج فيه الشعري بالسردي بالمتخيل. كما أن ديوان الشاعر وقصائده العصماء كانت موردا آخر تستقي منه الكاتبة وتستلهم منه مضامينها الدلالية والإبداعية. وقدمت الرواية صورة مغايرة للسلطان الشاعر غير تلك التي رسمتها المصادر التاريخية التقليدية، إذ أظهرت الروائية زوينة الكلباني بسالة منقطعة النظير في رسم صورة مثالية لبطل روايتها، حتى أن البعض ذهب إلى أنها وصلت إلى حد «تلميع» الشخصية، من خلال إسباغ نعوت التمجيد ووصفها بالبطولة والعدالة والشجاعة والكرم، بل وتبرير الكثير من الممارسات التي تنسب لهذه الشخصية. ومن أمثلة ذلك ما ورد في شعر النبهاني من التعبير عن نزواته وولعه بالنساء وكثرة معشوقاته. يقول الدكتور شكري بركات: «تعددت صاحبات الشاعر اللائي تحدث عنهن في ديوانه، وقد ذكر بعضهن صراحة وأغفل ذكر البعض الآخر. ومن اللائي ذكرهن راية وموذية ورباب وسكينة ومكتومة وعمرة وخولة وهند وضمان وصفوة وأم شائق وبرارة. بل إن الشاعر كان يذكر أحيانا أكثر من صاحبة له في القصيدة الواحدة كقوله في إحدى قصائده:
صرفت بالا عن سكينة هاجرا وسلوت هندا
ولويت عن أم الرباب سوالفا بدلن صدا
والحق أن الروائية حين تقدم هذه التبريات وتلتمس المسوغات أو التفسيرات المغايرة فهي إنما تستند إلى وعي خاص وقراءة متأنية للشخصية وما كتب عنها من قبل الباحثين والنقاد. فها هي الدكتورة سعيدة بنت خاطر الفارسي تنقل لنا قول نزار العاني الذي يرى في كتابه (النبهاني بين الاتباع والابتداع) أن «خصائص الشعر العذري نجدها بحذافيرها داخل شعر النبهاني، مما يسمح بإضفاء سمة العذرية على شعره وعليه». وحينما نراه متأرجحا بين هذا وذاك، فإن هذا مردّه إلى «إن الشاعر يضع قدما في عالم العذرية، وينقل قدمه الأخرى إلى أرض العلاقات المحسوسة مندفعا وراء أمانيه بالوصال».
ومن الأحداث البارزة التي استلهمت منها الكاتبة مضامينها، سعيا لإعادة تفسيرها وطرح المسوغات المنطقية لها، صراع النبهاني مع أخيه حسام (أبو ناصر) الذي رثاه في ما بعد بقصائد تضج بالألم والحسرة، وتنضح بحرارة الفقد. يقول النبهاني متفجعا:
أأخي أَذَلْتَ مَصونَ دمعي فانبرى
يطأُ الخدودَ إذا يجود ويَهْمَعُ
أوحدتني وذهبتَ ثم تركتني
أبكي لفقدكَ كلَّ قبرٍ يوضعُ
ونحن حين نمعن في سياقات التاريخ الواقعي وما دار بين سليمان النبهاني وأخيه حسام من صراع على الملك، نستطيع أن نتلمس حجة الرواية في صدق المشاعر الأخوية التي سردها سليمان النبهاني في قصائده الرثائية العصماء، فهو قبل كل شيء شقيقه مهما كان الخلاف بينهما، ولكن الظاهر من سياقات الأحداث أنه لجأ إلى الحرب مضطرا. وقد انقضت حياة سليمان النبهاني، ولكن بقيت سيرته الملهمة وشعره الخالد شاهدا على حياة بذلها صاحبها في سبيل المجد واكتساب المحامد.
وها هو الملك الشاعر سليمان النبهاني ينهض مجددا بعد 6 قرون على رحيله، ليطلق صوته عاليا، ويعيد ترتيب الأوراق، مطلا عبر عمل إبداعي جديد، عمل يستند إلى سيرة الشاعر ويستنطق قصائده الخالدة، من أجل ترميم الذاكرة وسد الثقوب والثغرات التي غفلها التاريخ. وتظل سيرة الشاعر نهرا عظيما يغترف منه الناس، عبر القرون، كؤوس الجمال والحب والحكمة والحقيقة الناصعة.
حسن المطروشي شاعر وصحفي عماني