No Image
عمان الثقافي

سِن لك بر طفيلون

30 أكتوبر 2024
30 أكتوبر 2024

«من خرج من صلبي سيخرج معي» قال بر طفيلون.

والتفت إلى أبنائه واحدا واحدا، فلم يرفع أحد بصره عن هاتفه، ولم يرفع أحدهم من عزيمة أبيه..

سكت ثم التفت إلى زوجته واستعار نظرة من اللامبالاة، ورمقها بها.

«وأنتِ؟»

«كما ترى، سألازم البيت مع بنتك النفساء».

نهض من جلسته بإزار بين السرة والركبة، وجسد مصبوغ بالنيلة الداكنة، وخرقة كانت ذات لون نيلي في بكارتها، ثم غشاها السواد، وخنجر على الجانب الأيمن للسرة. وحبل من الجلد كفت به الشعر المجعد عن مداعبة الريح، وسيف هندي يرافق العصا في مواضع الاستواء على المناكب.

اتجه إلى معطن الإبل، نادى على جمله الأسحم. «هط هط هط هط هط». فخرج من القطيع ومد رأسه إلى أحضانه.

قال بر طفيلون في نفسه:

«أعرفهم سيتخلون عني جميعا»

امتطى الجمل (تيغون)، وترنم بالحدا وحث الإبل على السير نحو الوِهاد الخضيرة التي تتنفس عبق التربة الرطب الممسوح بقبلات السحب وستر الضباب.

انتظم القطيع في الطريق المؤدي إلى (شعبون) ينظمه الجمل (تيغون) المُدرب على إعادة الهوامل إلى القطيع، وعلى ظهره بر طفيلون في آخر الركب، يفلي الذكريات التي تعيدها الأمكنة إلى المشهد حين تظهر أمامه شقاوة الشباب وتنافسهم على حذق آيات الرعاة المنزوين في ظلال الفقدان أو المقيدين بسطوة العجز والاستسلام، فمنهم من غادر الدنيا ومنهم من أقعده العُمر عن ممارسة الطقوس الخالدة في حياة الرعاة الإبليين.

ولّى وجهه نحو المغيب حاملا وصية جده، بألا يواجه الشمس عند الرحيل؛ لأن مواجهتها تكابد الإنسان شقاءً وبخسًا في الصحة.

«املُك ما لا يملكك ولا يؤلمك». كانت تلك وصية جده الملقب بعزيمة النمر، الذي انتقل مع نوقه في البوادي والصحاري والجبال دون كلل أو ملل. تزوج مرة واحدة وأنجب والد بر طفيلون، وحينما طلبت زوجته منه الاستقرار، طلّقها وارتحل مع نوقه.

«الاستقرار موت أيتها المرأة»

قالها وترك المرأة مع أهلها ولديها ما يعينها على إيجاد القوت.

واستعاد الوصية المغروسة في ذهنه كالوشم:

«إذا ثبتّ في مكانك ينهشك الموت بتلذذ، أما في الانتقال وتبديل المنامات فلن يعثر عليك بسهولة، وإذا وجدك فإنه سيبلغك وهو خائر القوى ومنهك. أعد نفسك لمواجهة الهرم أقسى الأعداء وأشدهم بأسا، واثبت أمامه وجها لوجه كإنسان اختار نهايته بكل يقين».

هكذا كان عزيمة النمر، في حله وترحاله، يبيت بلا بيت، ينتقل كالهارب من قدره بين الأودية والسهوب وأعالي المرتفعات، لا يترك خلفه إلا الرماد والذكريات.

أما حفيده بر طفيلون فقد كابد ما كابده دون أن يرف له طرف، حتى لوم نفسه الأخير، لام نفسه على إذعانه للناس واستماعه لنصيحتهم وموافقته على دخول أولاده إلى الكتاتيب. ورغم نصيحة (بر منينوت) له، فإنه لم يبال بها. كانت تلك المرة الوحيدة، التي لم يستمع فيها لصديقه وشريكه في الرعي والترحال على تواقيت المواسم.

(بر منينوت) راعي إبل أيضا، ومنذ استقلاله بقطيعه وهو في انتقال دؤوب لم يتزوج ولم يستقر في مكان لأكثر من شهر.

قال بر منينوت لبر طفيلون:

«إذا أردت تجربة لحظة التخلي فأدخِل أولادك إلى الكتاتيب، سيتعلمون العجز قبل كل شيء وبعدها لن يقدروا على التنقل».

وأضاف:

«المدارس خُلقت لتقييدنا ومنعنا من الانتقال، المستقرون الجدد سيحاولون إحالتنا إلى العجز أو إماتتنا. سيخربون الأبناء الذين يفترض بهم مواصلة حياتنا، وسيحبسونهم في المدارس والاستقرار والوظائف والمكوث في المدن. كل تلك المغريات ستحول الأجيال إلى أسرى الجدران والإذعان».

قال بر طفيلون:

«لن أمنع الزمن أن يفعل فعلته، دعهم يتعلمون».

«ماذا سيتعلمون؟!»

قال بر منينوت، وأضاف:

«لن يتعلموا شيئا من عندنا، لن يأخذوا عنا كما أخذنا ممن سبقنا، سيتعلمون ما لدى الغرباء، أما نحن فسيعرضوننا للسخرية والاستهزاء بما نفعل».

«لنر ما سيحصل» قال بر طفيلون.

رد بر منينوت

«حسنا، لكنك بعد الرؤية ستكون بلا حيلة ولا حول لتصحيح المسار».

حين أناخ بر طفيلون قطيعه عند انحسار العرق الجبلي (آطيق) في شعب (شعبون)، وأطل عليه الضياء من خلف قمة (مِصير)، نكش جمرات من بين ركام الرماد، وقص أظافره ودفنها تحت (المووشب) أحجار عتبة المبيت،

فقد وجد في الوصية أن الأظافر والشعر سر الإنسان لذا يتوجب إخفاء السر عن المتربصين والحساد.

بعد أن حلب بر طفيلون ناقته (ديركان)، وترك ضرعين لابنها، أيقظ الجمل (تيغون) النوق من المبرك وحثهن على الخروج إلى المراعي البكر في العروق المخضرة بأشجار (السغوت) و(الخفوت) و(الشقوف) وما دنا من شجيرات (الشبحيط) و(المخلي).

تلبس الجمل (تيغون) روح الراعي عزيمة النمر، فتيغون لا ينشغل بالأبكار التي يراودنه ويحمن حوله، حتى وإن بلغ الذروة في الغلمة إلا أنه لا يستسلم لنزواته إلا بعد التأكد من وجود كل النوق والحور في القطيع، يتفقدها ثلاث مرات في اليوم، مرة حين خروج القطيع من المبرك، ومرة في وسط النهار، ومرة ثالثة عند الإياب إلى المعطن.

الترحال طقس الرعاة السرمدي مثل الكون لو بقي الكون ثابتا لفسد كل شيء، لا الشمس مرغوبة على الدوام ولا القمر كذلك. في التنقل يجد الراعي طهارته حين يتخفف من سطوة النفس على التملك، أما الاستقرار فهو مفتاح الأنانية والتفكير في الاستحواذ واستغلال الآخرين.

هكذا يفكر بر طفيلون المتحالف مع أهل السر. يوزع عليهم من حليب نوقه وما توفر من الطعام قبل أن يأكل أو يشرب. وذات ليلة زارته الحمى ونسي أن يضع القليل من الحليب، وأن يتمتم بكلماته المعهودة:

«تركت لكم عن رضا وقناعة ما لدي، وتقاسمت معكم ما ظهر وما خفي، يزداد لكم ولا يتناقص».

فلما جن الليل أيقظته امرأة تهدهد طفلها الباكي، وقالت:

«ما بك بر طفيلون، هذه ليست عاداتك، تركت طفلي يبكي منذ الغبش».

فقام من نومه، حمل الوعاء وأيقظ الناقة (سمهور) الباركة حول الموقد وقطع اجترارها، مسد الضرع، رفع ركبته وثناها تحت (القُعلاء) وبدأ الشخب في ترتيل الهطول إلى الوعاء.

فرق الحليب يمنة ويسرة، وغسل يديه وعاد للنوم وفي الصباح قام كأنه لم يكن محموما بالأمس.

تصالح بر طفيلون مع أهل الخفاء منذ أن بلغ الحلم، كان يبحث عن ناقة داهمها المخاض، وحل عليه الليل، وحين نزل بوادي (طيشيشون)، رأى الغنم تعود إلى حظائرها وسمع أصواتا من الكهف، ونزل عندهم، وجد امرأة وطفلها. شعر بالقشعريرة حينما آوته المرأة تحت (الفيدات) مهد طفلها، وقالت:

«عليك الأمان، وعليك الحذر من الكلمات المنهي عنها»

ففهم أنه حل بسكن أهل الخفاء.

رجع الزوج ومعه رجال آخرون مستنكرين.

«من أين تنبعث رائحة الإنس النتنة؟!»

فقالت لهم المرأة: «من تتأففون منه في حمايتي»

قدموا له الحليب، رآه في البدء بلون الدم ثم تحول إلى لونه المعتاد فشرب منه، وقضى ليلته عندهم.

أخبرته المرأة بأنهم يختفون في الصباح، وأنه عند قيامه من النوم سيجد حليبا في الإناء، يشرب منه ما يكفيه ثم يدعه في مكانه.

في الصباح اختفى الناس والأغنام وكأن لم يكن بالأمس قوم وحيوانات وآثار في المكان، وجد بر طفيلون عند الأثافي الباركة على الرماد المطمور، وعاءً من الحليب. شرب منه على دفعات وحينما، مسح الرغوة من شفتيه، رأى ثعلبين أمامه ينتظران فراغه من الشرب لاسترجاع الإناء، ترك لهما (القعلاء) ومضى يبحث عن ناقته.

محمد الشحري قاص وروائي عماني