سعود السنعوسي: ليكنْ بحرا، فكان بحرا
حين يحار المرء في تصنيف رواية، سندرك أننا أمام عمل يستحق قراءات عدة، لا من أجل تكريس تصنيف بعينه بقدر ما هو محاولة لتبيُّن حدود الجنس الكتابيّ الذي نسميه الرواية، أو لو شئنا الدقة، «لا حدود» هذا الجنس الذي فرض نفسه عالميًا منذ قرون، وعربيًا منذ عقود، بوصفه الجنس الأقدر على التقاط التفاصيل، وإيجاد الحيوات، وإعادة كتابة التاريخ. لن نحاول الدخول في الجدلية الدائمة بين الشعر والسرد، وأحقية أيٍّ منهما في أن يكون «ديوان العرب»، فلهذا النقاش مكان آخر، غير أن الرواية (بوصفها جنسًا سرديًا يحتمل تأويلات وتصنيفات متداخلة ومتناقضة في آن) بدأت تسحب البساط من تحت الشعر شيئًا فشيئًا، بخاصة في العقود الأربعة الأخيرة، وبخاصة في تلك الأعمال التي تنأى عن التصنيف من جهة، وتنأى عن القوالب الغربية للرواية من جهة أخرى. بمعنى آخر، تتكرس الرواية العربية بقدر عودتها إلى «جذورها» السردية، وبقدر نأيها عن المؤثرات الغربية؛ تتكرس الرواية حين تمسي رافدًا سرديًا مستعادًا ينهل من «غرائبيته» بكل ما تحمله كلمة «الغرائبية» من معان، إذ ليس للسرد العربي رافد تقليدي، سواء كان السرد عربيًا خالصًا (إن كان ثمة «نقاء» في الجذور الأدبية أصلًا)، أو كان سردًا متحدّرًا من جذور سردية شرقية أخرى، هندية كانت أم فارسية. وليس ثمة واقعية صرفة في الأدب العربي القديم، إذ كان دومًا مزيجًا فريدًا من اللعب الجميل بالأزمنة والأمكنة، وبالأساطير والحياة المعيشة، وبالذاكرة والأحلام وما بينهما من عوالم مذهلة.
لهذه المقدمة ضرورة كبرى لفهم سياقات وأهمية الثلاثية الروائية «أسفار مدينة الطين»، أحدث روايات الروائي الكويتي سعود السنعوسي، إذ صدر جزآن منها عن منشورات مولاف، وسيصدر الجزء الثالث (الأخير؟) بعد عدة أشهر. للمقدمة أهمية لإدراك موقع هذه الرواية ضمن أعمال السنعوسي نفسه، وضمن خارطة الرواية العربية عمومًا. ما من شك أن هذه الرواية أفضل أعمال السنعوسي، بل لعلها ستكون بداية ثانية بمعنى ما، تكرّس لكل ما سيأتي بعدها من أعمال. كل ما قبلها تمهيد لها (تمهيدات متفاوتة، بل متعثرة أحيانًا)، وكل ما بعدها سيكون منطلقًا من عالمها المتفرد. ليس للمرء التنبّؤ بمستقبل الأدب العربي حتمًا، سيما وأن الخيبات أكثر من أن تُعدّ، إلا أن هذه الرواية حفرت لها مكانًا مستحقًا. ثمة إغراء لمقارنتها بروايات مماثلة لغيره من الروائيين (أكان تماثلًا في الحجم أو في الأفق السردي واللغوي)، بيد أن لهذه المقارنة مقام آخر، ويعنينا هنا أنها بشير بما هو قادم لدى السنعوسي وللرواية العربية في آن، بخاصة في مسألة ضبابية التصنيف.
هذه الضبابية في ذاتها نقطة قوة، إذ على عكس الآراء السائدة في القراءة والنقد، ليس للأعمال التقليدية «الواقعية» (ما معنى الواقعية أصلًا؟) مكان عال في التصنيفات الأدبية. لا بد من عنصر «غريب»، لا بد من تصنيف «محيّر»، لا بد من عوالم متخيّلة حتى لو اكتفت القراءات الكسولة بما هو ظاهري. وتتكرّس جدلية القراءة في تبيان ما لا يكون كي ندرك ما يكون، بمعنى تبيان ما ليست عليه هذه الرواية؛ كي ندرك مفاتيحها الحقيقية، وندرك ما هي عليه حقًا.
أعمال السنعوسي مفعمة بالفِخاخ، وبالإيهامات التي يميل إليها الكاتب؛ كي يغوي قارئه بالغوص أكثر. وفي واقع الحال، تبدأ تلك الفخاخ هنا من هوية الكاتب نفسه، فالكاتب ليس الراوي بالضرورة، بل إن السنعوسي ورسومات مشاعل الفيصل موجودان في الغلاف فقط، بينما الرواية برسوماتها لكاتب آخر ولرسامة أخرى. بل ثمة غلاف ضمن غلاف، ورواية ضمن الرواية، وكاتب داخل الكاتب، وتصل حدة الإيهام أحيانًا إلى خروج الشخصيات من الصفحات إلى الحياة، إنْ كان لـ «الحياة» معنى أصلًا في هذه المتاهة؛ إذ ما الحقيقة وما الخيال؟ ما الواقع وما المتخيّل؟ وحتى الثلاثية الروائية ناقصة تنتظر جزءها الثالث الذي قد لا يصدر في الماضي (عام 1990 في زمن السرد)، وسيصدر في المستقبل (زمننا هذا). ولكن (لا بد من لكن هنا)، قد يختلف القراء في مدى تقبّلهم لهذه المتاهات وكثافتها، لا بمعنى الصعوبة، فالرواية – على عكس بعض الآراء والمراجعات – ليست صعبة، بل بمعنى الشطط في اللعب الذي قد تتّضح ضرورته في الجزء الثالث المنتظَر، أو هذا ما أتمناه، إذ لم أجد ضرورة سردية للمبالغة في خروج الشخصيات من الرواية إلى «الحياة». كان يمكن الاكتفاء بالرواية نفسها، أو بطبقة واحدة من طبقات الإيهام.
وكذلك، وبرغم وجود شخصيات تاريخية حقيقية، أكانت من الأسرة الحاكمة الكويتية ورجال القصر (الأمير سالم الصباح على الأخص)، وطبقة رجال الدين المتنورين (عبد العزيز الرشيد مثلًا)، أو الأجانب شبه المستشرقين شبه المقيمين شبه السياح (إلينور كالفرلي، الطبيبة والمبشّرة الأمريكية)، ليست ثلاثية «أسفار مدينة الطين» رواية تاريخية. ولعلنا لا نشطّ كثيرًا لو قلنا إن مصطلح «الرواية التاريخية» مصطلح ملتبس مساوئه أكثر من محاسنه؛ إذ لا معنى للمصطلح في واقع الحال، فالرواية عمل متخيّل بطبيعته بصرف النظر عن كمّ الشخصيات التاريخية الحقيقية، والأحداث التاريخية الفعلية؛ وفي الوقت ذاته، كل رواية هي رواية تاريخية من حيث الجوهر، إذ تسرد ماضيًا وتاريخًا لشخصياتها، بصرف النظر عن مدى واقعيتها. فما نراه في «أسفار مدينة الطين» هي كويت عام 1920، بمعاركها وحكّامها وأجانبها وسورها ومسلميها ومسيحييها ويهودها، وكويت عام 1990 قُبيل الغزو، بمعاركها الأخرى التي قد تبدو أصغر ظاهريًا، غير أن نتائجها اليوم فادحة، بخاصة في مسألة فرض الرقابة على الصحف، وتقلّص مساحة الحرية السياسية، وانكماش رحابة التنوّع. ولكنها، في الوقت ذاته، كويت متخيّلة، أو كويت موازية، لها بعض ملامح الكويت «الحقيقية» ولها ملامحها التي تخصها، وكأننا في غابة مرايا، أو كون مواز متخيّل، لا تبدو فيه فرضية أننا كلنا نعيش في كون مواز فرضية مستحيلة بالمطلق.
ما من ماض أو حاضر أو مستقبل في هذه الأسفار، بقدر ما هو زمن أوحد يشبه عجينة كونيّة تتمازج فيها الأزمنة، وكأننا ننظر إلى النجوم فنظنّها حاضرًا بينما هي في واقع الأمر ماضٍ تأخر في الوصول، ومستقبل ولد ومات في لحظة واحدة، بل لعلها ليست نجومًا حقًا. وليس من قبيل المصادفة أن زمن السرد الأول (1920) بدأ بالبحر، بالماء، مثل سفر تكوين لكويت لا تشبه الكويت، حيث لا نفط، ولا ثراء، ولا تزمّت، ولا رقابة على اختلاف معاني الرقابة. كلّ هذا سيأتي لاحقًا، وستتضاءل حصة البحر، وستتضاءل معها حصة الخيال، وحصة الكويت الموازية التي لا فضاء لها إلا السرد. وليس من قبيل المصادفة أيضًا أن زمن ما قبل النفط كان زمن الهوامش؛ جميع الشخصيات شخصيات ولدت في الهامش وتموت فيه، أكانت حكّامًا أم محكومين، رجالًا أم نساء، أهل بحر أم أهل صحراء، أساطير أم واقعًا، وإن كان الواقع – في حقيقة الأمر – أسطورة، والأسطورة واقعًا، حيث لا معنى لكل هذه الأزمنة والشخصيات والأمكنة إلا بالسرد الذي يبدأ منه كل شيء، وإليه ينتهي كل شيء.
السرد نقطة قوة «أسفار مدينة الطين» ونقطة ضعفها في آن. لم يكن لمثل هذه الرواية التي تمتد على مساحة سبعين عامًا أن تُكتَب إلا بطريقتين: طريقة تقليدية جافة كانت ستصيب الرواية في مقتل، وطريقة أمثل يتكسّر فيها السرد ويتنوّع بتنوّع الأصوات. ما من شك أن اللغة والسرد في «أسفار مدينة الطين» وصلا إلى مستوى عالٍ لا تماثله فيه أية رواية سابقة من روايات السنعوسي، بخاصة في الفصول التي تقترب من الشطح الصوفي (فصول سعدون على الأخص)، غير أن تعدّد طبقات الإيهام تسبَّب أحيانًا في تماثل بين صوت عبد العزيز الرشيد وصوت إلينور كالفرلي، وبين صوت صادق بو حدب وصوت سيف/غايب. كان تنويع الخط الطباعي لعبة ذكية، غير أن اختلاف الطباعة لم يتوافق دومًا مع اختلاف الصوت. صحيح أن الرواية نجت من فخ السرد الخطي الذي لم يكن ليُكتَب إلا ارتدادًا بين الزمنين السرديين، فكان الحل في أقواس سردية تنطلق من زمن وتوغل في دواخل الشخصيات، أو في دوائر تنطلق من زمن وتوغل في زمن آخر قبل أن تعود إلى صاحبها، إلا أن إصرار السنعوسي على الفصحى في الحوار كان خيارًا إشكاليًا أضعفَ مرونة السرد الذي لم تنقذه بضع كلمات محكية هنا أو هناك. ستبقى هذه المسألة إشكالية، غير أن الحل –في رأيي– هو تنويع مستويات المحكية لا مستويات الفصحى، إذ ليس على الكتّاب تخفيف العبء على القراء، وليس عليهم التضحية بطبقات السرد من أجل انتشار أكبر. لا يجد قارئ «أسفار مدينة الطين» رشاقة في الحوارات، ولذا سيلجأ إلى الخيال، إلى ترجمة سطور الفصحى إلى سطور محكية، إلى الغوص في عالم آخر مواز لعالم الفصحى، كما تغوص الرواية وشخصياتها في البحر، وفي أمواج الخيال. ليس خيارًا مخيّبًا في نهاية المطاف.