ساحرة ومغوية.. صاخبة وقاسية: مدن الأدباء
بعض المدن تنادي كتّابها. تسحرهم بجمالها وصخبها وشوارعها ورائحتها وناسها وأشجارها ومبانيها. المدينة تشبه امرأة، قد يقع الكاتب في غرامها من أول نظرة، وقد يحتاج إلى شهور أو سنوات ليقيم علاقة معها. المدينة قد تكون حانية بالنسبة له، وغاضبة مثل إعصار بالنسبة لآخر. فاتنة أو دميمة، راقية أو تفتقر إلى الذوق واللياقة.
الكاتب يكبر في السن والمدينة تكبر معه. تتبدل ملامحه وملامحها، تصير لديه تحولاته وتصير لديها تحولاتها. يحاول أن يفهمها لكنها تفاجئه بتحولات أخرى فيصبح متأكداً أنها لم تعد المرأة التي عرفها منذ زمن. في هذا التحقيق يتحدث كتاب عن مدنهم، كيف عاشوها في الحياة؟ كيف انتهى صراعهم معها؟ وكذلك.. كيف نقلوها إلى أعمالهم؟
الكاتبة اليمنية بشرى المقطري تعتبر أن «المدينة هي مختبر يومي يصنع ذاكرتنا، تواريخنا الحقيقية والمتخيلة»، لذلك تظل المدينة بالنسبة لها مادة متجددة للكتابة. حركة الحياة من حولنا، حيوات الكائنات بمسراتها وأحزانها، حياة المدينة بتحولاتها وتغير معالمها، دورة متدفقة تخلق متواليات سردية تحاول بشرى المقطري القبض عليها، تثبيتها وإعادة خلقها.
ما أكثر مدينة ارتبطت بها؟ تقول إن لمدينة صنعاء سحرها الخاص بالنسبة لها، جمالها الحزين، ذاكرتها المتنوعة بتنوع ساكنيها، تواريخها المتعاقبة كطبقات أريكولوجية يمكنك لمسها، ما تتركه في روحك وذاكرتك اليومية، إذ أن المدينة التي بناها «سام بن نوح» بحسب سرديات الإخباريين هي أول مدينة بنُيت بعد الطوفان، لكنها وإن كانت مدينة تنجو من هزائمها، لكنها تحمل في ذاكرتها وصمة الغرق، لذلك تمنحك إحساساً بالدوار وعدم اليقين من اختفائها مرة أخرى، وهي أيضاً ليست صنعاء واحدة بل صنعاءات متعددة، صنعاء القديمة التي يمتد عمرها لقرابة ثلاثة آلاف عام، حيث للجمال معنى مختلف، بأبنيتها القديمة ومشربياتها وأزقتها وبساتينها وجوامعها وحماماتها وكأنها مدينة لا زالت تعيش عصورها الغابرة، إلى صنعاء الطبقة الثرية بشوارعها الواسعة، وفيلاتها، وساكنيها وسردية حياتهم التي لا تشبه حيواتنا، إلى صنعاء الطبقة الوسطى المندثرة بعمائرها الباهتة وسردية حيوات أهلها، إلى صنعاء الهامش، ببؤسها وشجارات أهلها وسردية حياتهم. تعلق: «لذلك بالنسبة لي صنعاء مدينة تحتشد فيها أزمنة وعوالم متعددة».
هل أثرت التحولات التي شَهدتها على رؤيتك لها؟ تجيب: «في الحرب، تختبر كإنسان أولاً ثم ككاتب التحولات التي تتعرض لها مدينتك من تغير ديموغرافيتها في موجات النزوح المتعاقبة وجموع المواطنين ومواجهات الهاربين إلى تغيير فضائها المديني ومعمارها واقتصادها، أي إعادة تشكيلها قسرياً، إذ لم يكن سقوط صنعاء بالنسبة لي مدخلاً للحرب الأهلية فقط وإنما سقوط الحياة وقسرية التقويض، استباحة صنعاء، نهب أراضيها، ومؤسسات الدولة، تجريف فضائها المديني كعاصمة للدولة الموحدة، إزاحة الانسان المدني للهامش، وتحويله إلى كائن لا مرئي، مسحوق. ضاعفت سنوات الحرب في تدمير صنعاء، من غارات الطيران التي قوضت أحياء بكاملها بساكنيها إلى وسائل السلطة المتغلبة التي تهدف لخلق صنعاء أخرى، وذلك بترييفها وتجريف التنوع المذهبي والديني الذي ميزها عن غيرها من المدن اليمنية، مقابل فرض اللون الواحد الطائفي على المواطنين، رغم كل هذه التحولات، ما زالت صنعاء لم تفقد سحرها بالنسبة لي، أكتب عن تحولاتها في زمن الحرب، ما بين الطارئ والحقيقي، وإن كان ما يدهشني أكثر في رمزية صنعاء التي تعاقبت عليها حروب الإباحة على امتداد تاريخها هو قدرتها على إعادة تذويب وصهر كل الجماعات المتغلبة ودمج الوافدين والعابرين لتبقى مدينة عصية على التدجين».
حين تجد نفسك في الزحام
الكاتب العماني هلال البادي يقول إنه بمقدار ما كان الناس حوله يرددون مقولات حول رغباتهم بالعودة إلى القرى البعيدة، وبأنهم لا يشعرون بالألفة أو الراحة أو الاطمئنان إلا بوجودهم في أحضان الأرياف أو الطبيعة أو الهدوء، بمقدار ما كان أكثر ميلاً لوجوده في الزحام، ذلك الذي تولده وتفرزه المدن الحقيقية، لا تلك المصطنعة أو العابرة أو التي شكلت نفسها من لا شيء وقد يأتي وقت وتنتهي فيه.
يستدرك: «لكن بمقدار تعلقي بالزحام فإنني لا أتوغل فيه، بل أشاهده من الخارج ولا أكون فيه، أتأمله وأشاهد تفاصيله البعيدة دون أن أنغمس في عمقه. كنت على الدوام في الخارج بمقدار ما كنت في الداخل، وهكذا اكتشفت عدم قدرتي على التماهي بشكل جيد مع ما يروج له الآخرون من كون المدن كائناً متوحشاً أو أنها مرهقة للروح. اكتشفت هذا في آخر رحلة لي لمدينة بانكوك الصاخبة بالحياة. كان ذلك قبل مدة من تفشي الجائحة، وكان المخطط الذهاب لمكان هادئ مملوء بالطبيعة، إلا أن الظروف حتمت أن أكون في بانكوك وحدها، وبعد مضي ثلاثة أيام فقط بعيداً عن مركز الصخب، وجدتني أنتقل للإقامة هناك. أحسست بالحيوية والحرية في آن، وكان الزحام وأبواق السيارات والأصوات العالية مصدر إلهام لي. كنت أتجول كل مساء أتأمل ذلك الصخب العالي، أتأمل صانعيه، فأشعر بالألفة، ألفة غير محدودة، ساعتها وأنا هناك، اكتشفت أنني لا أشعر بما يشعر به الآخرون تجاه المدن. ربما لأنني لم أذهب إلى البعيد في تلك العلاقة، وظللت أتأمل الحياة المدينية من علو بعيد. هكذا لم يكن أبناء تلك المدن في الغالب يشعرون بأنني غريب ومصطنع في تلك الأماكن، سيما في مدن كالقاهرة وبيروت والرباط وحتى ميامي التي أتذكر أن امرأة من أصول لاتينية لا تتحدث الإنجليزية غضبت عندما لم أتجاوب معها، وأرد على سؤال سألتني إياه. ظنت أنني متعجرف، ولم تدرك أنني جاهل لا أتقن لغتها».
لكن أكثر ما قد يجذب هلال في مدينة ما، فينساب فيها، كان ولا يزال إنسانها: «القاهرة على سبيل المثال لمن يحب الهدوء والأماكن المنظمة والمرتبة، قد لا تكون مدينة مثالية بالنسبة إليه، لأسباب عديدة، أقلها زحامها الهائل، إلا أنها بالنسبة لي كانت واحدة من أجمل المدن، ذلك الجمال السحري الذي شكلته قرون من الحياة والتمازج الإنساني العميق، يضاف إليه بطبيعة الحال إنسان هذه المدينة، ذلك الإنسان الذي يصعب قولبته في شكل أو وضع تصنيف حقيقي له. ظلت القاهرة مدينة ملهمة على الدوام، وقادرة على تغيير منظورك للحياة إجمالاً وليس للمدن وحدها وحسب».
يضيف: «أما مسقط التي أعيش فيها فإنها بحد ذاتها حكاية غامضة وملتبسة ومناسبة للاستلهام بل وملهمة من الطراز الرفيع. يكفي أنك عندما تقول مسقط فإنك غالباً لا تعبر عن مسقط القديمة أو الولاية، بل تعبر عن شيء أكثر شمولية ولكنه في الوقت ذاته يختص بمكان بحد ذاته. فساكن السيب وهي مدينة كبرى من مدن مسقط عندما يتحدث عن مسقط فإنه لا يتحدث عنها كلها بل يعبر عن السيب، وقد لا تكون السيب بحد ذاتها هي المقصودة بشكل عمومي، إذ قد يكون سوقها المطل على البحر وحده المقصود. الأمر ذاته عندما أقول أنا أسكن في مسقط بينما أنا أقصد العامرات أو بوشر أو مطرح، وكل من هذه الأسماء أسماء مدن بحد ذاتها تنصهر وتندمج في روح أعمق هي مسقط يصعب تحديد متى ولدت أو كيف أو من هم الذين شيدوها. لكنها بكل هذا التنوع وهذه الطرافة وهذا الغموض والالتباس تبدو ملهمة ومادة حكائية لم تكتب بعد».
أكثر من قاهرة
في أعمال الروائي المصري ياسر عبد اللطيف، تلعب المدينة دوراً مهماً، فهي الكتلة التي تُكسب أبطاله ملامحهم الوجودية. يقول: «لم تكن المدينة وعاءً للسرد فقط عندي، لكنها كانت «الشخصية» الأهم في كتابتي. تمنحنا شرايينها وأوردتها نتسكع فيها، نتغذى على خبراتنا اليومية في تلافيفها. وإذ أتكلم عن مدينة بألف ولام التعريف في مُعجمي الخاص فهي القاهرة كما عرفتها طوال خمسين سنة، ولا زلت على الرغم من غيابي عنها لفترات قد تطول، أتعرّف عليها».
يضيف: «تعددت القاهرة فلم تعد مدينة نجيب محفوظ المشطورة إلى قسميها الإسلامي والخديوي؛ أو القاهرة القديمة والأخرى الحديثة، تلك كانت قاهرة القرن العشرين الأليفة، حيث كان التضاد واضحًا في المقابلة بين عالمين تولد الحكاية من اصطدامهما. صرنا بصدد «قاهرات». ومع بداية القرن الواحد والعشرين ظهر مصطلح «القاهرة الجديدة» ليدلّ على التجمعات السكنية الفاخرة الناشئة حول محيطها الشرقي. كما امتدت تخوم الجيزة غرباً حتى طريق الواحات البحرية (6 أكتوبر وزايد) وطريق الفيوم (حدائق الأهرام). فضلاً عن حزام العشوائيات الذي التف حولها من كل الجوانب».
بات من الصعب إذن، بحسب ياسر، حديث عن مدينة واحدة تُسمَّى القاهرة بشكل يختزلها في تصوّر. فوفق وجودك على نقطة معينة من رقعتها الشاسعة، والمقسمة إدارياً ووظيفياً وطبقياً، ستُدرك مدينة مختلفة. لم تعد مدينةً ذات مركز، وإن ظلّت المركزية عماد الدولة وفي القلب منها عاصمتها. هذا الجدل بين تشتتها الجديد وتصوراتنا الموروثة أو المعاشة عن انسجام عمراني ما، يصنع الدراما الجديدة المُعاشة والمكتوبة. ويطرح ياسر في نهاية حديثه سؤالاً: «هل ستشكِّل المدينة الجديدة التي تبزغ في الظهير الصحراوي، كتلةً تواجه قاهرة القرن العشرين في صراع قيمي، كذلك الذي أنتج لنا «زقاق المدق» مثلًا منذ نحو ثمانين عاماً؟ سنرى».
أغنية البراءة
الكاتبة السورية أنيسة عبود نشأت في الريف «حيث البراري المفتوحة كنص بلا قيود»، و«حيث البراءة كأغنية عشق عفوية». لم تنتبه إلى المدينة ولم تجرؤ على السير في مداخلها الموحشة، لذلك غرفت دهشة الريف وعذاباته وتحولاته في روايتها «النعنع البري»، لكن أبطالها كانوا يزورون المدينة كذلك. ظهروا وهم يشعرون بالغربة والوحشة حين ينزلون للتسوق أو الدراسة فيها، وهم يهرولون في الشوارع المرصوفة ويشمون روائح المطاعم المزدانة بنساء غير نساء القرية وبعطور غير عطر النعنع البري وأشجار الصفصاف الغافية فوق جداول الماء.
لكن أنيسة لم تصمد طويلاً في الريف. جذبتها المدينة إلى عوالمها المغرية الشاسعة والمعقدة، وأخذتها إلى ضجيجها وتعقيداتها وغموضها: «وجدت فيها ضالتي من خلال تنوع حالاتها وتنوع وتعدد ثقافاتها. المدينة هي ما يجعل الكاتب أكثر قدرة على العثور على أبطاله، ليكونوا أداة لنص مختلف، تشتبكُ فيه المدينة مع التاريخ والسياسة والزمن. فكان أن كتبت رواية «باب الحيرة» التي تقبض على عدة مدن منها نيويورك، ودمشق والقاهرة. بالتأكيد هناك مدن كثيرة تعلقت بها كالقاهرة، لكني لم أستطع تأطيرها في عمل روائي، فهي عصية على التأطير لشدة تنوعها وتحولاتها وتغيرها. كذلك دمشق. هي أيضاً عصية ولم أستطع لملمتها في نص كامل، فأخذت منها نتفاً صغيرة».
ترى أنيسة أن «المدن مثل الأحبَّة. بعضها يفقد ألقه فنفقد اندهاشنا بها، وبالتالي تتحول إلى نص باهت، وبعضها يحافظ على الدهشة الأولى. فتظل مثل سر جميل نحاول اكتشافه من خلال نص لا ينغلق ولا تكون له نهاية مؤكدة. المدن الساحرة مثل النصوص الساحرة. قد تفقد سحرها نتيجة التحولات الكبيرة التي حصلت في العقود الأخيرة، فيفقد الكاتب حساسيته تجاهها. بعض المدن تدلنا عليها رواية. فنحبها، كما فعل نجيب محفوظ معنا كقراء من خارج مصر. وكما فعل ماركيز. وأنا أتذكر قولاً للدكتور جابر عصفور حين قال لي في زيارة أولى إلى اللاذقية: أنا أعرف اللاذقية جيداً قبل أن أزورها، من خلال روايات الكاتب الكبير حنة مينة». تعلق: «لذلك تعلق المدن بقلوبنا، فنخبئها في نصوصنا كي يعشقها القراء مثلنا».
الخرطوم تسكن القصائد
الخرطوم هي أحب مدينة إلى قلب الكاتب السوداني بشير أبوسن. يقول إن اللغويين لم يتفقوا على معنى كلمة الخرطوم، شرّقوا بها وغرّبوا، أو من أي لغة جاءت الكلمة، ولكن الشعراء سمّوها «طفلة المدائن»، ذلك لأنها مدينة حديثة، لم تكن سوى قرية صغيرة يوم وصول جيش محمد علي إلى السودان، فوجدوا فيها سحراً لا يُصدُّ، واختاروها عاصمة للدولة الجديدة، وبعد ذلك صارت ذات شأن في العالم، أشرقت الشمس فيها وغابت للأبد عن مدينة «سنار».
لا يتذكر بشير متى فُتن بها أول مرة، لكنه لا يستطيع إلى الآن إلّا أن يفتتن بها: «أحياناً أخرج من سكني ولا هدف لي إلّاها، أستظل بأشجارها وأتسكع في شوارعها، وأتأمل عمرانها، وفي كل ذلك أشياء تذكر دائماً بأن شعوباً مختلفة حطت الرحال هنا، إنها كتاب تاريخ مفتوح، يكفي أن تنتقل من شارع إلى آخر حتى تجد أنك رجعت أو تقدمت أعواماً، ولهذا وغيره تسكن في قصائدي، مثلما يرقد القمح في ثنايا الخبز. كل شيء فيها هو الشعر، جئتها طالباً جامعياً يدرس الهندسة، فإذا بها تجعلني شخصاً مجذوباً إلى الشعر والأدب، واضطرتني لاحقاً أن أخرج من معامل الهندسة إلى مكتبات كليات الآداب، فدخلت حلقات الشعر وصحبت الشعراء حتى ارتكبتُ إثم القصائد».
ويضيف: «الطغاة ببنادقهم يريدونها وديعة كحمامة ميتة، والشعراء يريدونها حافلة بالعشاق، رفيقةً بهم، ابنةً شرعية لملتقى النيلين، وهذا هو الصراع الشرس الذي يجعلها يوماً بعد يوم تفتقد البهجة والسلام. لقد سببت لي هذه المدينة أوجاعاً كثيرة، وأحياناً قلقاً ذا مخالب، وأصنافاً من اليأس أحايين أخرى، وذلك لأن الخرطوم رغم سحرها، إلا أنها صريحة حد الفظاظة، لا تستطيع أن تخفي تفكيرها، وحين تُجرح تريك نزيفها، فيصيبك من ألمها الأنينُ الأعظم. انظر إليها اليوم لن تجدها مدينة عصرية كما يليق بمدن إنسان القرن الحادي والعشرين، أو على الأقل كما تركها الإنجليز. تجدها مظلمة وغير منظمة، تريك التردي العمراني والفقر وفشل الساسة على مر العقود، لن تختار لو خُيّرت العيش فيها وإنجاب الأبناء، ولكنك ستفعل لو كنت من محبّيها الذين يثورون على كل ذلك، ويختلط دمهم بترابها، وترابها خصب كما تعلم. لا أفخر بشيء فخري بانتمائي إليها، إنها عالم من الشعر الخام، شيء فيها لا أجده في سواها، ثمة ذكريات لا يستطيع المرء فراقها، ونصيبي من هذه الذكريات هناك، «في الشاطئ عند الملتقى» كما يغني أحمد المصطفى، هناك في تلك المحاريب أتلو قصائدي لها، وتدعوني لعناقها».
سنوات المراهقة
كل المدن التي عاش فيها الكاتب اليمني علي المقري أو كتب عنها لم تكن جاذبة له بشكل مطلق، أو مُلبية لكل رغباته. في اليمن عاش سنوات مراهقته الأولى في مدينة تعز حيث الانفتاح الثقافي النسبي، لوجود دور السينما والمكتبات، وبعدها قرّر العيش في صنعاء بسبب طقسها المعتدل أغلب شهور السنة، إضافة إلى تعدد أنشطتها الثقافية، وكانت في المقابل تبهره مدينة عدن، بعلاقاتها الاجتماعية المنفتحة، فحرص على زيارتها بين وقت وآخر، إلاّ أن كل تلك العلاقات بهذه المدن كانت تضيق يوماً بعد يوم، بسبب الحدود المرسومة للحرّيات الشخصية والعامة، إذ سادت فيها العلاقات المحافظة، فأُغلقت عشرات دور السينما في هذه المدن الثلاث، بل لم تعد هناك أي دار للسينما فيها، وهو حال ليس نتيجة للحرب الأخيرة وإنما حدث قبلها.
يحكي: «حين انتقلتُ للعيش في باريس، بعد أن مكثتُ لأشهر في مدن عربية أخرى، اكتشفت أنني أعيش في مدينة لأوّل مرّة في حياتي، بسبب وجود العلاقات الاجتماعية الحرّة والمنفتحة فيها، إضافة إلى الاستقرار النسبي، والشعور بالأمان، وعدم وجود محاسبة على تفكيرك أو تعبيرك، أو نوع أكلك وشربك وملابسك. لقد فقدت طقس صنعاء المعتدل الذي كان محفزاً مهماً للكتابة، ولكنني في المقابل شعرتُ أنني صرت أعيش في متحف كبير متجدد يومياً».
بالرغم من سفره بعيداً عن وطنه، لم يستقر المقري في الكتابة مجدداً، أو يستعيد مشاريعه السابقة فيها، سوى بعد أن ابتعد عن صخب باريس واستقر في مدينة بالقرب منها أكثر هدوءاً هي «ليموج». يقول: «أظن أن هناك مدينتين تلازمان حياتي، مدينة أعيش فيها ومدينة أكتب عنها، ويبدو لي أن العيش في مدينة ما ولو لأشهر يساعد الكاتب على اكتشاف جوانب مخفية، أو ملفتة منها، كما حدث معي حين ذهبت إلى عدن لأراجع فيها روايتي «بخور عدني» التي كتبتها في صنعاء، فقد صارت الرواية ممتلئة بروح هذه المدينة وعبقها».
طقس غاضب
يعتبر الكاتب المصري أحمد القرملاوي أن عبارة «وُلدتُ في القاهرة»، هي أكثر ما يمكن أن يدل عليه، أو يُعبِّر عنه، فالقاهرة مدينة ليس كمثلها شيء، مترامية الأطراف، شديدة التنوع في تبديل الوجوه، تلتقيك أحيانًا بالغيطان الخضراء، أحيانًا بالعشوائيات الشائهة، بالصحاري القفراء، بحوادث الطريق وتذاكر الدخول، كأنما ما تعِد به يستحق المقابل.
يقول: «قضيتُ طفولتي في حي مصر الجديدة في الثمانينيات، حيث الحدائق ترسم مربعات من البراح بين البيوت، وزقزقة العصافير تصنع خلفية الشروق والغروب. ثم سافرت إلى الكويت مع أسرتي لألتقي الوجه المقابل للحياة، مدينة صغيرة شديدة التنظيم، ذات طقس غاضب وشاطئ لا يعِد بما اعتدتُ عليه من مباهج، يعيش سكانها حبيسين في المباني الأنيقة مكيفة الهواء، يُطالعون الشوارع النظيفة عبر الواجهات الزجاجية».
يعتبر القرملاوي أن هذا التناقض هو ما شكَّل وعيه بالمدينة، وبالعالم كنتيجة حتمية، خاصة وأن المدينتين، القاهرة والكويت، قد شهِدتا تحولات جذرية في تلك الفترة بين الثمانينيات والتسعينيات، حيث عايشَ الكويت حرب الخليج بما خلَّفتْها من نتائج لا يمكن محوها، فانشغلتْ بعد الحرب بتشييد العمائر والمتنزهات والمولات الضخمة والفارهة، كأنما لتمحو آثار الغزو، أما القاهرة فقد عاد إليها في منتصف التسعينيات ليجدها أكثر شراسة من ذي قبل، محاطة بالعشوائيات، محكومة بالميكروباصات، مقفولة الحدائق بالبوابات الحديدية والجنازير، وكان طريقه اليومي بين مصر الجديدة، ثم لاحقًا مدينة نصر، وميدان التحرير، يعرِّضه لوجوه المدينة المختلفة وقد راحت تتنوع وتزداد غضبًا مع توالي السنوات.
يعلق: «لا أشك في أن هذه العلاقة غير الودية مع المدينة قد انعكست في كتابتي، في صورة شعورٍ بالاغتراب يسكن العديد من شخصياتي، وبحث متواصل عن مستقَر أكثر أُلفة ورحمة بها، ها هو يوسف في روايتي «أمطار صيفية» يهرب من قسوة الشوارع إلى الحب تارة وإلى داخل الوكالة الأثرية كل يوم. هاني في «نداء أخير للركاب» يسافر بين ثلاث مدن في ثلاث قارات بحثًا عن وعد أبيه بالأُلفة والأمان. أحمد في «ورثة آل الشيخ» يخطط للهجرة إلى أستراليا. جميعهم مغتربون، يعيشون محبوسين داخل ذواتهم القلِقة، في مواجهة يومية مع وجوه المدينة المتربصة».
التحولات المخيفة
بحسب الكاتب المصري أشرف الصباغ من الصعب أن نفصل بين المكان وسياقاته الاجتماعية والتاريخية، بل والمعمارية أيضاً، والمكان في الأدب هو كائن حي وخلية متحركة وفي تحولات مستمرة.
يقول: «إذا كانت هذه المدينة (القاهرة) ذات المستويات المركبة والمعقدة، وذات التنوعات والتحولات المخيفة قد أثرت على غالبية إنتاجي، فإن حركتي بين مدن أخرى في الريف أو في الصحراء من جهة، ونحو البحر من جهة أخرى، منحتني إمكانية النظر بهدوء وعقلانية، وخلَّصتني من الشوفينية والنظرة الأحادية والصور الذهنية الكاذبة والخادعة. وعندما امتدت الحركة إلى موسكو وطالت فترة الإقامة والتفاعل الحي معها وفيها لعشرات السنين، ثم الانتقال إلى عواصم ومدن أخرى في آسيا الوسطى وأوروبا، انتبهت إلى أهمية القاهرة كعاصمة متفردة، تشكل في كتاباتي مركزاً حيوياً يجمع بين كل المتناقضات، ويزاوج بين الجغرافي والتاريخي، وبين الإنساني والاجتماعي، وبين الجمالي العام والمفردات الجمالية الخاصة بمكان بعينه بكل مكوناته الإنسانية والسحرية، بل والغيبية».
ويضيف: «لا يمكنني الكتابة عن موسكو أو أثينا أو كييف أو طشقند أو روما، إلا من خلال مروري عبر حواري وأزقة وأضرحة وكنائس وجوامع وجبانات القاهرة والإسكندرية وتاريخ كل منها وتفاعل التاريخ مع الجغرافيا فيها، ومع الإنسان الذي يعتبر المركز الرئيسي لكل هذه التحولات. والإنسان بهذا المفهوم حتى إذا كان مصرياً أو أوزبكياً أو إيطالياً أو يونانياً أو روسياً أو أوكرانياً، هو الأساس والمرتجى والمؤجل. فهو يتحول هنا إلى مساحة للدراسة والبحث والتأمل، وإلى ذلك الهم الأكبر والفكرة الجمالية الأرقى اللذين تدور حولهما واحدة من أهم وأعمق غايات الإبداع عموماً، ألا وهي «وحدة المصير الإنساني» في ظل كل التحولات التي تجري من جيل إنساني إلى جيل آخر، ومن مرحلة تاريخية واجتماعية إلى أخرى».
مذاق ثمرة المانجو
الكاتب العماني مازن حبيب يقول: «ولدتُ في «مدينة» العَين، وهي في كل الأحوال ليست بقرية، ثم عشت طفولتي في «ولاية» البريمي الحدودية، وكانتا معاً تشكلان توأماً يُكمل أحدهما الآخر. واليوم أصبحت البريمي ضمن محافظة تحمل ذات الاسم. في سنوات الطفولة الأولى -عدا نحو عامين عشتهما كاملين في قرية مجز الصغرى، أحمل منها حنينًا جارحًا إلى رائحة خبز رخال أمي المُغمس في الشاي بالحليب، ومذاق ثمرة المانجو التي زرع أبي (وأنا ممتن له) شجرتها لي، وصوت هدير البحر الذي يخترق نوافذ بيتنا القريب منه في الليل الطويل الموحش- كانت الحارة في البريمي تتشكل لتصبح في طورها ما تشبه المدينة بالمعنى الذي يجعلها مختلفة عن أي قرية عرفناها، المدينة التي تأوينا مؤقتاً ويأتي أهلنا إليها للإقامة فيها، ويستقرون فيها لزمن سيكون مؤقتاً مهما طال، ويعملون في مدن أخرى قريبة منها، والقرية التي نعود إليها دائماً ولو بعد حين في الأعياد والأصياف ونعاود الاستقرار إليها. إلا أن الحارة تلك لم تكن المدينة التي سأعرف شعور الحياة فيها حينما انتقلت إلى أمريكا».
ارتبط مازن بالمدينة وبمفرداتها وعوالمها وذاكرتها في أول عام قضاه بأمريكا في مدينة أوستن، ومن ثم في مدينة أخرى تدعى توسان خلال أربع سنوات لاحقة. يعلق: «قد تتفاجأ حينما أقول بأن أول مرة أستقل فيها الطائرة -قبل نحو خمسة وعشرين عاماً- كانت الرحلة من مسقط إلى واشنطون (بما فيها من توقفات مُدوخة للرأس ومضنية للجسم!)، ويا لها من مفاجأة لذلك الشاب الذي اعتاد ركوب الحافلات معتقدًا أنها منتهى مظاهر المدنية حينها! بل إن أول كتابتي القصصية «قصة الشارع الطويل»، وما تلاها من كتابات تشكلت واستلّت من مظاهر الحياة الملونة فيها. أقول الملونة تندرًا، لأني وجدت نفسي، بعد أسابيع قليلة من إقامتي في أمريكا، محتاجاً إلى ارتداء نظارة، وبها أصبحت رؤية الأشياء واضحة، وغدت الألوان مشبعة بعد ارتدائها، شعور يعرفه من يرتدي نظارة للمرة الأولى، فتبدو الأشياء، وكأنك لم تكن تشاهدها إلا مشوهة من قبل».
هناك إذن اكتملت عناصر المدينة المدهشة على نحو ناضج بالنسبة لمازن، متمثلة في مشاهدة أفواج البشر من شتى الجنسيات والعرقيات، وفي الاستماع إلى اللغات المتداخلة والمتنافرة، والتعلم من الثقافات المتمازجة والمتضادة، والتعرف إلى الموسيقى الصاخبة في الشوارع والاحتفالات والأنغام الهادئة في المناسبات، في البحيرات والأنهار، في الصحراء، وفي الثلج الذي يعلو تلال الجبال. يقول: «المظاهر المدنية المتباينة هذه قدمت لعيني المتأملة ذلك التصور وتلك الرؤية للمدن التي نقرأ عنها في الأدب، ونشاهدها في الأفلام، ولم نعش تجربة العيش فيها واقعياً، ومنحتني فرصة لابتكار مدن في قصصي، قابلة للتصديق، قابلة للعيش فيها، والسرد عنها، من عناصر متشابهة، مرتبطة بالتجربة التي عايشتها».
لون التراب والماء والسماء
تجربة القاص المغربي عبد العزيز الراشدي في الكتابة تعتمد، عموماً، على الصورة. كل الكتب التي نشرها، إلى الآن، تحاول أن تجسّد الصور عبر الكلمات، إذ يعشق الصور والأمكنة، ويكتب عنها دون هوادة.. وفي كتاب نشره قبل سنوات بعنوان «سندباد الصحراء» حديث عن المدن التي سبق له أن زارها وربط معها بعضَ أُلفة.
يقول: «كتبت ما كانت تهجس لي به هذه المدن وما يهجس به أناسها. اكتشفت في نفسي منذ زمن موهبة التقاط الصور والإشارات بسهولة فائقة، لا أبذل مجهوداً كبيراً حين أكتب عن الأمكنة بل أكتفي بالتداعي، ولعل ذلك راجع إلى العين التي أرى بها الأشياء والأمكنة: لقد ظلت هذه العين نظيفة لوقت طويل لا ترى إلا الامتداد الذي تشكّله الصحراء، ولا ترى سوى لون التراب والماء والسماء والنخيل، لذلك تستمتع هذه العين بالألوان والوجوه حين تراها وتنظر إليها بغرابة. الكتابة، ليست فقط حروفاً تعبّرُ عن واقع أو خيال، إنها، في صورتها الحديثة، الاشتغال على الصورة واللون والموسيقى، خصوصاً حين نكتب عن المكان، لأن المكان، امتداد صريح لأجسادنا، لذلك حاولت أثناء كتابة هذه النصوص صياغة الأمكنة وإعادة تشكيلها باللون والموسيقى. مع مرور الوقت، يفقد الإنسان، بفعل العادة، تلك الشعلة، وذلك الوهج، وتلك البراءة التي ينظر بها إلى الأشياء، خصوصاً بعد أن يستقر بالمدينة ويلطّخه «صمغها الأسود»، لذلك تكون الكتابة هي البديل الوحيد، والعزاء الفريد الذي يذكِّرنا بالطفولة والبراءة والصدق».
يرى الراشدي أن «أجمل المدن أغادير». أمضى بها أجمل أيامه، وعاش بها خسارات كثيرة. يعرف دروبها وشوارعها وناسها. كما أحب في زياراته لبلجيكا مدينة «أنتويرب» لصغرها ونظافتها ورهافتها وعمقها الفني وأحب شيكاغو لأنها تذكره بالجاز والليل، وكتب عن المدينتين، أنتويرب وشياغو، نصين طويلين. ويختم حديثه قائلاً: «في كل زيارة، في كل عاصمة، أجدني مدفوعاً إلى المقارنة بين الفضاء الجديد وبين الصحراء التي تسكن ذاكرتي في كل حين».
الطريق إلى بيروت
لأنها ابنة الريف أباً عن جد، ترى الكاتبة اللبنانية بسمة الخطيب أنه من المستحيل أن تُسأل عن المدينة من دون أن تتذكّر الطريق إليها. تقول: «يقال إنّ الطريق إلى مكان أجمل من المكان نفسه. ليس الأمر كذلك مع بيروت. لا شيء أبدًا، لا الطريق ولا الرحلة، أجمل من بيروت نفسها. كي تصل بنات البلدات الصغرى والقرى إلى العاصمة وتجدن مكاناً لهنّ، سيكون عليهنّ أن يقطعن الطريق المحفوف بالاختبارات والأخطار والحُفر والتضليل. في الطريق إليها تلوح لك وتلهمك وتحفّزك على تقديم ما عندك وسط منافسة شديدة لا تخلو من لمسة ترحاب ودودة. فالكاتب والفنان الذي يقصد المدينة باحثاً عن جمهور نوعي، وفي الطريق إلى هدفه سيعرف أن المدينة نفسها هي جمهوره الأهمّ، إلى جانب كونها ملهمته».
قصدت بسمة الخطيب المدينة أول مرة للالتحاق بالجامعة، ثم نشر كتاباتها الإبداعية والعمل في الصحافة، وكان من أوائل القصص الصحافية التي عملت عليها، المأزق المالي لمجلة الآداب والحديث عن إقفالها. أتى هذا بعد انطفاء مجلة شعر وانكفاء الكثير من المشاريع الثقافية التي كانت نواة حراك ثقافي متميّز في العالم العربي. تعلق: «تلك الفترة بدأت تهوي أحلام كثيرة أمام عينيّ بشكل حرفي وليس مجازاً أو مبالغة، وبتنا كصحافيين نرتزق من عناوين مثل «أفول وانهيار ورحيل وإقفال» من مؤسسات صحافية كبرى وصولاً إلى مقاهٍ كانت جزءاً من المشهد الثقافي. لم تكن الحرب قد انتهت كما توهّمنا. لكن المذهل أن بيروت، وهي تنهار، وتفشل في التعافي من آلام الحروب القريبة وندوب تلك البعيدة، كانت قادرة على إفساح مكان لأحلامنا، وفي اللحظة المناسبة كانت تشجّعنا لنذروها أبعد ما في استطاعتنا، إنها عكس أهلها -الطارئين والمقيمين- تملك ذاكرة قوية، ذاتية التجدّد، تغذّي نفسها بنفسها، أما غالبية أهلها، فيصرّون أن يبقوا مكانهم متكئين على مقولة «التاريخ يعيد نفسه»، وتصرّ هي أن تدفعهم حولها ومنها وإليها. لذا أعتقد اليوم، أنّ بيروت أطلقتني في الهواء بعد أن علّمتني الطيران وحركات الملاحة. قبل سفري الذي سيدوم 15 عاماً، كان أدونيس يلقي محاضرة في بيروت ويعنّفها بقسوة، ويرميها بالتهم، ويلقي على أهلها اللوم في عرقلة مسيرة الحداثة وما بعدها.. ردّ عليه في اليوم التالي عباس بيضون بمقال حفر عميقاً في عقلي عنوانه: لو أنّه فهمهم أكثر. فقد انخرط الجمهور البيروتي واللبناني الموجود بالتصفيق الحار لأدونيس، ثمّ تدافعوا بلهفة لأخذ توقيعه».
تشعر بسمة دائماً بأنّ المدن العريقة والراسخة في التاريخ تدسّ لقاصديها مفتاحها تحت أصيص قرب بابها، ذلك المفتاح الذي سيسعفها لاحقًا في اختراع أشباه له أو نسخ عنه لولوج بوابات كثيرة.. كان «القصص». ترى أن أقصر مسافة بين شخصين، وبين أمّتين، وبين مدينتين، وبين شخص ومدينة هي قصة. لذا كانت دائماً تكتب لبيروت وعنها القصص، بإيحاء وإلهام منها. تقول: «في الصحافة، حين تراسل صحيفة ما خارج بلدك، وترسل مادّتك لا بدّ من أن يسبق اسمك اسم المدينة التي ترسل منها. بيروت - بسمة الخطيب. ما زالت للعبارة الرهبة نفسها. اسمك المتواضع يجاور اسم مدينة كبيروت، ويحمل رسالتها! من بيروت أقلعت بأفكاري وقصصي التي صمدت من بيتي وقريتي والجوار ومن الماضي وتاريخ أسرتي وإرثهم الشفوي والحرفي واليدوي.. وبعكس التصوّرات الرومانتيكية، تصادمت الحمولة القادمة مع الروافع والمنصات الموجودة، وفي النهاية لا مفرّ ولا بديل عن «الصراع»، إنّه في الأساس صلب مهنتنا ككتّاب وصحافيين، إنه صلب البناء القصصي، القالب الذي نقدّم عبره أفكارنا وتصوّراتنا ومخاوفنا. وهو درس طوّرته في ذهني المدن التي عشت فيها. ببساطة، أنا من الكتّاب الذين يكتبون بمداد المدن. من يتسلل إيقاعها إلى إيقاع نصوصهم، ويستلهمون أهلَها لبناء شخصياتهم الأدبية، ويستعيرون مذاقاتها لأطعمتهم، ويروون بأمطارها أشجار رواياتهم ونباتها وترابها. وتظهر في كتاباتنا طباع تلك المدينة، كرمها، تقبلها للغريب، احتضانها للمنبوذ -والعكس- ويظهر كما أحببناها وأحبّتنا وكم ندمنا على تركنا لها. بينما هي، في الرواية الكبرى، التي تعيش فيها أسوأ أزمنتها تكرّر إنّ من يفهمها ولو بمقدار بسيط سيعرف أنها ستنجو».
أنفاس البحر
الكاتب السوداني أمير تاج السر من الذين يهتمون بالمدن وتفاصيلها، ويمكن أن ترد معالم المدينة التي يكتب نصه داخلها بكثافة أو اقتضاب بحسب النص، وقد ذكر في عدد من الروايات مدناً أعجبته ولم يٌرد إفلات ملامحها، مثل مدينة كوالالمبور الماليزية التي وردت في رواية «طقس»، ومدينة لوقانو السويسرية «سيرة مختصرة للظلام»، ويمكنه أيضاً اختراع مدن من الخيال حين يكتب نصوصاً فانتازية، أو أسطورية، فالمدينة هي المكان الذي لا بد أن تدور داخله الأحداث، وما دامت هناك أحداث تدور، فهي لن تدور في لا مكان.
يعلق: «المتتبع لتجربتي ولديه معرفة حتى ولو بسيطة بالسودان، يعثر على ملامح مدينة بورتسودان التي نشأت فيها، يعثر عليها قديماً في روايات رصدت فترات من تاريخها، يعثر على جغرافيا الأحياء، وأنفاس البحر، وتنوع القبائل التي تسكنها، وحتى على العشوائيات التي لا بد أن توجد في كل مدينة، ولكنَّ لها في بورتسودان طابعاً مميزاً، إنها إذن مدينتي التي رصدتها رصداً تاماً في روايات متعددة مثل «العطر الفرنسي»، و«٣٦٦» و«صائد اليرقات» و«قلم زينب» و«تاكيكارديا»، و«طقس»، إن ملامحها ترد إلى الذهن بمجرد أن أجلس لأكتب رواية معاصرة، أي عن زمن قريب أو هذا الزمن الحاضر».
ويضيف: «لأن التغيرات طالت الدنيا كلها، فقد تغيرت بورتسودان أيضاً، كثير من الأماكن التي قد تجدها في رواية مثل «منتجع الساحرات» المكتوبة عن فترة بداية التسعينيات من القرن الماضي، أو «٣٦٦» المكتوبة عن نهاية السبعينيات، لم تعد موجودة، مثل السينما، وبيوت الممرضين المقابلة للمستشفى، وحتى بيوتنا التي كنا نسكنها في وسط المدينة، كل ذلك تمت إزالته بغرض الاستثمار، لذلك أعتبر رواياتي توثيقاً للمدينة القديمة التي لن تعثر عليها الأجيال الجديدة».
ابنة العزلة
بالرغم من أن الشاعرة السورية رشا عمران تنحدر بيولوجياً من قرية جبلية في الساحل السوري، إلا أن علاقتها بالريف هي علاقة سياحية قصيرة، في أوقات الإجازات فقط، ذلك أن عائلتها انتقلت باكراً إلى المدينة الصغيرة طرطوس ثم لاحقاً إلى العاصمة دمشق التي كبرتْ وتعلمتْ فيها: «أنا ابنة مدينة لا ابنة ريف، ابنة ثقافة المدينة، وعلاقاتها الاجتماعية، ابنة المساحة الشخصية التي تهبها المدينة لسكانها وابنة العزلة التي تفضحها زحمة المدينة، لهذا أحاول السكن دائماً في وسط المدينة، في قلبها الضاج والمزدحم فهناك أجد مساحتي وأكتشف كينونتي وسط تراكم الكينونات وتعددها وتنوعها، لطالما شعرت أنني أكثر حرية في المدينة مما أنا عليه في قريتي، حرة لا أقصد فقط اجتماعياً، على أهمية ذلك، بل حرة على المستوى النفسي، في قدرتي على التأقلم والتغير والتطور والتجاوز، وحرة في قدرتي على فهم مكانتي ككاتبة بعيداً عن الأوهام التي نصنعها حول أنفسنا بوصفنا كتاب أقاليم».
ربما مركزية علاقتها مع القاهرة هي في هذه النقطة بالتحديد، في أنها العاصمة العربية الوحيدة، بحسب ما تقول، التي تنطبق عليها صفة المدينة والمدينية لا بسبب اتساعها وكثافتها السكانية وزحمتها فقط، بل بسبب الثقافة المجتمعية التي تفرضها على سكانها وبسبب قدرتها على طحنهم في مطحنتها اليومية وإيقاعها السريع دون أن تمنع عنهم مساحتهم وحقهم في ممارسة ما يرغبونه من عزلتهم، لكن أساسها المديني أكثر تجذراً من الترييف الطارئ عليها: «أعيش في القاهرة مند عشر سنوات، ومع مرور كل سنة جديدة أزداد يقيناً أن القاهرة هي مدينتي لا دمشق وأنني لو اضطررت لمغادرتها فسوف يكون ذلك نحو مدينة توازيها مساحة واتساعاً وتزيدها في الحرية الاجتماعية، ويمكنها أن تلهمني على كشف المزيد من خفايا اللاوعي، لأتجدد وتتجدد لغتي الشعرية، أو لغتي في الكتابة بشكل عام».
درع تتكسر عليه الرماح
ويبدأ الكاتب العراقي علي خيون كلامه من مقولة للفيلسوف الفرنسي غوستاف باشلار في كتابه «جماليات المكان» وهي أن «المدينة بوصفها مكاناً إنما تعبر عن تجربة إنسانية كاملة»، ليخلص إلى أن المدينة في كل أعماله تعكس تجربة إنسانية بالفعل، وتجسِّد معاناة الشخصيات وأفكارها ورؤيتها للمكان وتثير خيال المتلقي فيستحضره بوصفه مكاناً خاصاً مميزاً.
ويقول: «بغداد مدينة الطفولة واللعب واللهو والجد والدراسة والعمل والأهل والأقارب والأصدقاء والذكريات، مدينة تعني لي حياة عشتها وعكستها في مرايا أعمالي، وإذا عدت بالذاكرة إلى كل رواية كتبتها، تجد بغداد المكان والمعنى والرمز حاضرة بكل بهائها أو مأساتها على حد سواء، رمزها في ذهني أنها درع تتكسر عليه الرماح والنبال، ذلك أنها تختصر حضارة شامخة وتاريخاً مجيداً، قل: بغداد، وستمر صور الحكايات والقصص والأحاديث والخلفاء والكتب والترجمة كلها في لحظة واحدة، ولأنني أحب من تاريخ بغداد هيأتها النظيفة الطرية الأمينة في السبعينيات يوم كنت فتى، فقد خصصت روايتي «العزف في مكان صاخب» لتكون مهادها في أجمل معالمها: شارع الرشيد، وشارع السعدون، وشارع عمر بن عبد العزيز، وكأنني أربط كل اسم بتاريخ يمثل وجهاً من وجوه بغداد التي أحب».
ويتساءل: «أيعني هذا أنني لا أحب سوى بغداد ولم أتخذ مدناً أخرى ميداناً لأعمالي؟»، ويجيب: «استغرقت القاهرة المكان في روايتي الأخيرة «كأنها معي»، فجعلت النيل شاهداً على حب رومانسي كبير، جاء ذلك انعكاساً لما يجري في عقلي الباطن من حب للقاهرة التي لا أنام حين أزورها لكي لا يفوتني منها شيء أحبه. وشغلت عمّان فضاء روايتي «ألقِ عصاكَ» كله، لأن ذكريات خاصة حركت مشاعر جميلة في أعماقي عنها، وخصصت رواية «في مديح الحب الأول» لدمشق، كأن روحي تعكس مثل لوح حساس حياة مدن زرتها وأحببتها، أما التحولات التي جرت فقد حظيت بها بغداد وحدها تلك المدينة التي شهدت حرباً كبيرة واحتلالاً أجنبياً فكانت متغيرات ما حصل فيها هو موضوع روايتي «بين قلبين»، وهكذا تجد أن المدينة عندي تعكس معاناتي ربما ومعها معاناة شخصياتي في مآلات ونهايات يلتقطها الأدب توثيقاً وتحليلاً ورؤى».
حر في مدينة محتلة
أما الشاعر الفلسطيني ماجد أبو غوش فيبدأ كلامه بتعريف يخصه للمدينة: «هي هذه المساحة الممتدة والمتنوعة، لوناً ولهجة وفكراً، هي الشوارع الواسعة والمسارح ومكتبات ودور السينما، والمقاهي والمراكز الثقافية المتنوعة والكثيفة، هي الصباحات والمساءات المختلفة ذات المذاق الخاص. المدينة هي هذا المكان الذي لا يطلب منك إثبات شخصية. المدينة هي أن تكون أنت كما تحب أن تكون».
يحكي: «عندما تم تهجيرنا من قريتنا عمواس في حرب 1967 وتدميرها، لجأنا إلى أقرب مدينة، أقصد رام الله، وصادفنا لاجئين مثلنا من نكبة 1948، وكان الأمر سريالياً، لاجئين يستقبلون لاجئين. طبعاً أصبحت هذه المدينة التي كانت محتلة حتى 1995 بيتي، وجزءاً أساسياً من بناء شخصيتي»، ويتساءل: «عشت حراً، لكن كيف تكون حراً في مدينة محتلة؟!» ويجيب: «عندما تدافع عن هذه المدينة المختلطة، عندما تعرف الشوارع والأزقة وساكنيها، عندما تعبر مخيمات اللاجئين في المدينة آمنا مطمئناً. وكلما توسعت هذه المدينة واتسعت.. اتسعت الرؤيا. لم أجد أية صعوبة في اللجوء إلى أي منزل خلال الانتفاضة الأولى عام 1987 عندما أصبحت مطارِداً لقوات الاحتلال الإسرائيلي ومطارَداً منها، هذه المدينة (رام الله) كانت ملجأي وسكني، كانت ولا تزال فضائي في حرية الكتابة والرقص والغناء».
ويضيف: «مثل أي لاجئ أحنُّ لمدن السواحل، يافا، حيفا، عكا، لكن رام الله تظل ملكة المدائن. ومثل أي كاتب أحب السفر، وقد ولعت بمدن كثيرة، كالقاهرة وبغداد والشام وعمان، لكن رام الله كانت طاغية. فهي مصدر إلهامي ومهد صباي، فيها عشت الحرية ومناكفة الاحتلال والاعتقالات، مدارس الأونروا ومطعامها المجانية. كانوا يرفعون أصواتهم هاتفين: يا أهل رام الله ممنوع التجول، وكان هذا يفرحنا لأننا نعلم وقتها أن الاحتلال قد أسقط في يده».
مدينة الصفح الجميل
الكاتبة العمانية حِصّة البادي تصف علاقتها بالأماكن عموماً وبالمدن خصوصًا بـ«الملتبسة المحببة»، فلا يمكنها إلا أن تحب المدن التي مرت بها وعبرت بأرضها، أما المدن التي سكنتها فلها حكايات لا يجد النسيانُ إليها سبيلاً. تقول: «أعجب مما أسمع من بعض الناس، إذ يعلن كراهيته لمكان أو نفوره من مدينة، لا أظن أبداً بأن المدن مُحايدة فلا تُحَب أو تُبغض، بل أجزم بأنها تُحب وحسب، ولا علاقة لها بمواقف مرت بنا، أو خبرات سلبية أو تجارب سيئة تقاطعت معها أو فيها. يسكنني إيمان عميقٌ راسخٌ بأن للمدن روحا تُحبُّ وتحِنّ، تأسى وتُسْتَعتب، تألفُ وتحنو، وقد تغضبُ فتقسو. للمدن ذاكرةٌ لا تشيخ ولا تبلى، وإني أعتقد يقيناً بأنها تتلبس أهلها أو فلنقل يتلبسون هم بها، بل إني أكاد أجزم بأننا نشبه المدن التي نسكن، ونرث عنها صفاتها الأصيلة من كل لون وفي كل موسم».
وحين تهم حصة بالكتابة عن مدينة في الذاكرة فلا يمكنها تجاوز مدينتها الوادعة، الواحة الطيبة التي تحولت عبر الزمن إلى مدينة، وهي البريمي: «أكتب عن البريمي فتمر بذاكرتي طفولة ملأى بالكثير من زوايا وتفاصيل حواريها حين كانتْ أقرب للقرية منها للمدينة، كما يمر عمر كامل كانت البريمي وما زالت أماناً أترقبه مهما تنقلتُ وحيثما كنت».
بحسب حصة كانت البريمي وما زالت عصيّة على الفهم رغم بساطتها، وأبيَّةً على التأويل حتى في تحولاتها، تشبه ناسها حتى في طبيعتها الغامضة الواضحة بداية من مطلعها الجبلي الذي يوحي للعابر البعيد بالقسوة، أو بالصلابة حتى الاستغراق في الوصول لقلبها المغدق على سكانها وحتى عابريها. تضيف «مرت حقبٌ طويلة تبدلت فيها أدوارها بين واحات سخية لأهلها والمحيطين وحتى البعيدين، ومدينة حدودية ذاقت تحديات الموقع وتقلباته كما خبرت خيراته وسخاءه، فلم يتبدل ودها ولم تخفت جذوتها. تشبه البريمي نخلها المعطاء الأشم في قدرتها على الصفح وتجاوزها عن الضغائن فلا تَظْلِمُ وإن ظُلمتْ، ولا تحقدُ وإن رُجمت بالنكران والجحود، تعطي بسخاء دون انتظار مقابل حتى للعاقين من أبنائها أمّاً حنوناً وواحة نبيلةً تحتويك على صغرها رغم تبدل مواسمك ومواسمها تماماً كنخلها الخيّر الطيب. إن تحدثت عن ملامح هذه الرائعة وتفاصيلها فلن أتوقف، لذلك سأهمس لها بما تعرف هي يقيناً عني من حبٍّ قد لا أبوح به لكنه يُرى ويسمع ويتمثل عاطفةً صادقةً لا تقبل شكّا أو مِراءً».
حكاية الحب الأول
الكاتب المصري محمود الورداني يقول إنه ابن مدينة. وُلد وعاش سنوات عمره التي تجاوزت السبعين في المدينة نفسها، القاهرة، بل في أحد أحيائها وهو حي شبرا، بامتداداته المختلفة القريبة في «ساحل الغلال» و«روض الفرج» و«جزيرة بدران» و«المظلات». وعندما انتقل إلى الامتدادات الأبعد وسكن في أحياء مثل «الهرم» ومدينة «6 أكتوبر» و«الشيخ زايد»، ظل مرتبطاً بوسط المدينة، سواء بحكم العمل في المدارس أو الصحف أو أماكن تجمعات ولقاءات الأدباء والفنانين.
المدينة إذن لم تكن بالنسبة له حدثاً عارضاً، بل هي الحياة وأماكن الطفولة وشقاوتها ثم انفجارات المراهقة وحكايات العشق و«الحب الأول» ثم عاش، كما يقول، «أوهام الناصرية في حواري وشوارع واسعة نظيفة، حتى هُزمنا جميعاً تلك الهزيمة التي لم نفق منها منذ عام 67، وتبدلت الحواري والميادين على مدى عقود وترهلت وشاخت». يعلق: «أنا أكتب عن مكان عشت فيه وبه ومنه ولم أعرف سواه. لا أملك إلا أن أكتب عن القاهرة. وحتى عندما خرج الراوي في روايتي «موسيقى المول» ونزل من القطار في مدينة مجهولة، استحضرتُ القاهرة، أما عندما كتبتُ رواية «بيت النار»، فقد صرّحت بوضوح بأسماء شوارع وحوارٍ بعينها، وبيوت السادة فيها، ممن كنت أحمل لهم ألواح الثلج إلى الأدوار العليا. في لظى الصيف، وأنا بعدُ في صبياً الثانية عشرة من عمري. القاهرة على هذا النحو هي أنا، وأنا هي».