روبنسون كروزو المسلم: حين انبهر الغالب بالمغلوب
في أواخر القرن الخامس عشر الميلادي، كانت الهند حلما يستحوذ على وعي البرتغاليين وإغواء يلهب خيالاتهم فرادى وجماعات، ونبلاء وفقراء. لكن تلك الهند التي شغلت المخيلة البرتغالية كانت على الأغلب نتاجا لتصورات فانتازية، فهي عندهم الأرض التي تقع عند «أطراف الدنيا» وتجري بها «أودية من الألماس»، وبها «الأفاعي تحرس ثرواتٍ طائلة»، وبها «بشرٌ ذوو ذيول»، وهي أيضا «فردوس رائع الجمال يداعب الخيال» وتفيض بثروات لا تخطر ببال أحد في البرتغال.
في كتابه «روبنسون كروزو المسلم - سيرة فرناو لوبيز العجيبة» الذي صدرت ترجمته العربية عن دار الكرمة بالقاهرة، يستعيد المؤرخ والدكتور عبدالرحمن عزام، صاحب كتاب «صلاح الدين وإعادة إحياء المذهب السني»، جانبا مهما من الأجواء المحمومة التي استبقت الهجمة الاستعمارية الكبرى التي شنتها مملكة البرتغال على بلاد الشرق، مدفوعة تارة بالرغبة في احتكار تجارة الهند وثرواتها ثم نقلها إلى أوروبا، وتارة أخرى بالرغبة في إشباع روح صليبية كانت لا تزال حاضرة وقتها والثأر من المسلمين الذين امتد وجودهم قرونا في شبه الجزيرة الإيبيرية عبر مد النفوذ البرتغالي إلى عمق بلاد الإسلام.
ويمثل الكتاب الذي نقله إلى العربية أنور الشامي، ثمرة لجهد بحثي جديد استعان خلاله الدكتور عزام بالعديد من المصادر التاريخية البرتغالية وغير البرتغالية في مسعاه لإعادة بناء سيرة محارب برتغالي مغمور يُدعى «فرناو لوبيز» عاصر بدوره التحول الهائل الذي شهدته البرتغال من مملكة مغمورة في أقاصي الأرض إلى إمبراطورية بحرية مترامية سيطرت بمدافعها وسفنها على سواحل أفريقيا ثم سقطرى والساحل العماني وهرمز في مدخل الخليج العربي حتى وصلت إلى الهند لأول مرة بالدوران حول أفريقيا، وفي غضون ذلك يستعرض المؤلف نشأة البرتغال ويحلل أوضاعها الجيوسياسية التي أثَّرت في رحلة توسعها المذهلة فيما وراء البحار، والتي يرى الدكتور عزام الحاصل على الدكتوراة في التاريخ من جامعة أكسفورد بأنها كانت بمثابة «ملحمة لملوك طموحين وتجار جشعين ورجال دولة ورحَّالة وحُجاج مسيحيين» كانوا جميعا يبحثون عن فرص.
وحين يتحقق الحلم البرتغالي ويحين موعد اللقاء الأول بالهند حيث تأسست «دولة الهند البرتغالية»، تكشف ملامح الانطباعات الأولى لدى البرتغاليين عن مزيج من الانبهار والدهشة التي تصل في بعض جوانبها إلى حد الصدمة الحضارية إزاء ما شهدوه في سلطنات الهند الإسلامية والهندوسية من نعيم وثروات «تتجاوز أكثر الأحلام جموحا لدى أي تاجر لشبوني»، فيما أذهلهم ذلك الخليط البشري من التجار اليهود والمسلمين والهندوس، وغيرهم ممن جاؤوا من بلاد فارس وإيطاليا وشبه جزيرة العرب وبلاد الحبشة.
كما صاحب هذا اللقاء الأول قدر ليس هينا من الجهل وإساءة الفهم بالهند والكثير من التأثيم الديني، ما يكشف عن صرامة دينية وسمت ذهنية البرتغاليين في تلك الحقبة، حتى إن الكنيسة اعتبرت الرقص الديني الذي يمثل طقسا دينيا في المعابد الهندوسية «رقصا فاحشا يفتقر إلى الشرف» ورأت أنه تسبب في «ميوعة أخلاقية» لدى البرتغاليين. وفي السياق نفسه يصف المؤرخ البرتغالي الشهير جواو دي باروس، والذي تزامن وجوده في الهند مع وجود «لوبيز»، يصف الهند بأنها بلاد «آثمة ومليئة بالملذات»، وأن سكانها قد «استسلموا لشهواتهم».
وبينما رأى البرتغاليون في سلطنات الهند مباهج وملذات ما كانت أيديهم لتصل إليها أبدا في البرتغال، ورأوا الوافدين والمحاربين الأجانب يحظون فيها بفرص كبيرة للترقي الاجتماعي حين ينخرطون في الخدمة العسكرية أو الإدارة وينعمون بنمط عيش جديد، كانوا قد خلَّفوا وراءهم حاضرتهم «لشبونة» تتفشى بها الأوبئة وتجبر جميع ساكنيها على اعتناق المسيحية فيما تهيمن عليها طبقة متكلسة من النبلاء. ويستجلي الكتاب عموما مفارقة حضارية كبرى قامت ذات يوم بين ممالك الغرب ممثلة بالبرتغال التي هيمنت عليها حينئذ أجواء من التزمت الديني والأصولية الإقصائية وخضعت لفكر «أُخروي مسيحاني» يترقب قيام الساعة في كل ساعة ويُؤثِّم كل ملذات الدنيا، وبين ممالك الشرق ممثلة بسلطنات الهند الإسلامية الشهيرة التي جسدت وقتئذ نموذجا منفتحا على العالم ومقبلا على مباهج الدنيا ويجترح تعددية حضارية ويستوعب تنوعا ثقافيا وعرقيا هائلا أدهش المحاربين والتجار البرتغاليين، وهو ما ظهر جليا في سلطنة «بيجابور» المسلمة التي كانت تُدعى «فلورنسا الدكن».
وبينما كانت البرتغال قد انتهت لتوها من طرد المسلمين من أراضيها وتحويل اليهود قسريا إلى المسيحية الكاثوليكية، واجتثاث كل أثر للهويتين الإسلامية واليهودية في إطار ما عُرف بمحاكم التفتيش التي نشرت الرعب في القلوب، كانت سلطنات الهند الإسلامية تتبنى إسلاما روحانيا ومتسامحا أصبح يمثل لمعتنقيه حضارة وثقافة أكثر منه ديانة، ومن ثم يستوعب هويات شتى تشمل أقواما من الشركس والأوزبك والتتار والجورجيين والترك والخراسانيين والأحباش، ثم يصهرهم جميعا في بوتقة حضارية واحدة، بل ويفتح ذراعيه لمن عُرفوا في أوربا آنذاك بـ«المنشقين» وهم الأوربيون الذين انتقلوا إلى بلاد المسلمين واستقر بهم المقام فيها وأصبح بعضهم من ذوي الجاه والنفوذ.
ولذلك تحول برتغاليون كثيرون إلى الإسلام في الهند للتخلص من التراتبية الخانقة التي تصنفهم نبلاء وعامة، فيما يمنحهم التحول إلى الإسلام في الهند فرصا كبيرة للترقي المجتمعي ومساواة كانت في نظرهم فوق الخيال. «فحالما يصبح المرء مسلما، لا يلتفت أحدٌ إلى أصله».
ويروي الدكتور عزام عبر صفحات الكتاب سيرة «محارب» برتغالي شاب يبحر رفقة أسطول بلاده قاصدا الهند، ويواجه في سبيل ذلك أهوالا وأخطارا ليبلغ الهند في النهاية ممتلئا بأحلام الثروة ونيل ألقاب الشرف، بيد أنه هناك ينشق عن قوات بلاده ويعتنق الإسلام ويحارب في صفوف قوات مملكة بيجابور المسلمة ضد أبناء جلدته من الغزاة البرتغاليين. ثم ينتهي به المطاف ملوما محسورا وقد جُدع أنفه وقُطعت أُذناه وبُترت يمناه وقُطع إبهام يسراه بإحدى ساحات «جوا» الهندية جزاء الخيانة. وبعد سنوات، وفي طريق عودته إلى البرتغال، يغادر لوبيز السفينة التي كانت تحمله حين توقفت قبالة جزيرة مهجورة في المحيط الأطلسي للتزود بالماء العذب من جداولها ثم يتخفى عن أعين البحارة، ليصبح بذلك أول من يسكن جزيرة «سانت هيلانة» الموحشة آنذاك، ولكنه يأنس فيها بعزلة روحانية ويعيش عيشة النُسَّاك، بل ويرفض لاحقا عروضا بالعودة إلى لشبونة بالرغم من العفو الملكي.
ويُقسم المؤلف كتابه الغني بمادته التاريخية إلى رحلات أربعة ترسم كلٌ منها صورة حيَّة لملمح من حياة وعصر «روبنسون كروزو المسلم» كما يُسميه عنوان النسخة العربية من الكتاب أو «روبنسون كروزو البرتغالي» حسبما يُشير إليه عنوان أحد فصول الكتاب الذي يتقصى خلاله المؤلف احتمالية أن يكون الروائي الإنجليزي الشهير دانيال ديفو قد استلهم حكاية هذا المحارب البرتغالي حين راح يكتب روايته الأشهر «روبنسون كروزو» في القرن الثامن عشر، أو «فرناو لوبيز» كما تسميه المصادر التاريخية البرتغالية التي تأتي على ذكره.
تنطلق الرحلة الأولى من البرتغال حين كانت مجرد «مملكة في أقاصي الأرض» لا تطل إلا على بحر الظلمات، كما كان يُظن وقتها. وفي هذه الرحلة يتقصى المؤلف نشأة لوبيز وينقب في السجلات التاريخية الخاصة بتلك الحقبة في تاريخ البرتغال. نشأ فرناو لوبيز في «برتغال منشغلة بسؤالٍ مُلح وهو: لماذا لا تكون لشبونة هي العاصمة التجارية لأوروبا بدلا من البندقية أو جنوة؟» وأمضى سنوات شبابه الأولى في لشبونة في أواخر القرن الخامس عشر الميلادي، خلال ما سُمي بعصر البرتغال الذهبي، وهو أيضا عصر فاسكوداجاما الذي تمكن من الوصول إلى الهند عبر رأس الرجاء الصالح، وعصر بيدرو ألفاريس كابرال الذي اكتشف البرازيل (وإنْ عن طريق الصدفة)، وفي وصف بليغ لظروف نشأة الامبراطورية البرتغالية، يقول المؤلف «بدأت البرتغال إمبراطوريتها وكأنها علاقة غرام تحت تأثير الشراب، فجاءت مشوبة بالفوضى والنزق والعشوائية والقسوة».
وأما قبل ذلك، فقد كانت البرتغال «بلدا مفقَرا» وأمة من «الصيادين المعدمين الذين يعيشون على صيد السردين»، لكنهم تحولوا، مدفوعين بأحلام الثروة إلى بحارة جسورين وغزاة قساة أنشأوا مستعمرات ومراكز تجارية على امتداد الساحل الأفريقي وبحر العرب وساحل الخليج العربي ثم الهند وصولا إلى الملايو (ماليزيا الحالية).
وفي الرحلة الثانية، يأخذنا المؤلف إلى «الطرف الآخر من العالم» الذي وصلت إليه السفن البرتغالية حيث دارت رحى مواجهات ومعارك دامية نشبت حين تكشفت أطماع الجانب البرتغالي في سواحل الهند ورغبته في السيطرة على تجارتها، وقاد الجانب البرتغالي حينذاك نائب الملك «فرانسيسكو دي ألميدا» ثم خلفه «أفونسو دي ألبوكيرك» الذي اُشتهر بكراهيته الشديدة للمسلمين ومجازره الرهيبة التي نفذها بحق سكان مدن الساحل الإفريقي وبحر العرب، وكذلك بأطماعه وطموحاته الكبرى التي دفعته للتفكير في «تحويل مجرى النيل إلى البحر الأحمر..لإجداب أرض الترك الكبرى» ثم الوصول إلى مكة ونقل رفات النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) ثم حرقه أمام الملأ.
ثم يعود الكتاب في الرحلة الثالثة إلى سيرة لوبيز ومصيره بعد موت جلاده ومعذبه أفونسو دي ألبوكيرك أو قيصر الشرق كما سُمي في البرتغال، حيث أصبح لوبيز مخيرا بين البقاء في الهند أو العودة إلى البرتغال. وبالرغم من اختياره العودة، فإنه في الطريق يقرر خلاف ذلك ويترك السفينة التي توقفت أمام جزيرة سانت هيلانة، ليبدأ مرحلة جديدة في حياته.
وأما في الرحلة الرابعة، التي تختتم الكتاب، فيخصصها المؤلف للحديث عن مصير «لوبيز» وعودته إلى لشبونة التي لم يمكث فيها طويلا، وكذلك عن مصير جزيرة «سانت هيلانة» التي واجهت حظا عثرا وتحولت من «فردوس إلى صحراء» بفعل عوامل بيئية وأخرى بشرية.
أنور الشامي مترجم الكتاب للغة العربية