رواية «السرعة القصوى صفر» .. السياسة خدعة والسعادة وهم
مع عنوان الرواية الجديدة للكاتب المصري أشرف العشماوي «السرعة القصوى صفر» هناك «عنوان تابع»، أو «شارح» يقول إنَّها «مستوحاة من بعض أحداث حقيقية»، وأول شيء يطالعُك بعد اجتياز الغلاف تنبيهٌ بأن «جميع مقاطع الراديو التي تتصدَّر بدايات الفصول منقولة من النص الأصلي الذي أُذيعت به دون أي تدخُّل من المؤلف»، وبالتالي وضع العشماوي لنفسه نوعا من التحدي الخاص. فهل تلك الرواية تنتمي إلى أعمال السيرة الذاتية؟ أو سرود التاريخ؟ وإن كان قد استدعى شخصيات حقيقية بشحمها ولحمها فهل أبقى عليها في سياقها المعروف كأنه «ناقل معلومات وحكايات» أم أنه مدَّ يده إلى حقبةٍ أو حقبٍ تاريخية، وانتقى منها أحداثا وشخصياتٍ ووضعها في قالب فني صارم يرفع اعتبارات الفن فوق اعتبارات التسويق؟ وهل كان ذلك العنوان الشارح، الذي يقول إن «الرواية مأخوذة عن أحداث حقيقية» مجرد نوعٍ من البهارات - بتعبير عزت القمحاوي - يضعه المؤلف في طبخته ليمنحها طعما خاصا ومزاجا استثنائيا؟ أم أن الأمر لا يعدو مجرد لافتة مُغرية تَعِدُ بنوعٍ من النميمة داخل العمل؟
العشماوي ذهب إلى التاريخ، أو عاد إلى الماضي، من ثقب صغير للغاية، يخصُّ أسرة أرستقراطية تعيش في ضاحية «جاردن سيتي» منذ أيام الملكية وحتى قيام الجمهورية. وقد اختار هذه العائلة تحديدا دون غيرها (من عائلات تضم وزراء وسادة ورجال أعمال ينعمون بالثراء وبعطف الملكية ووجاهة الأرستقراطية) لأن هذه العائلة صارت جزءا من الحراك في مصر خلال فترتي الملكية وثورة يوليو وما بعدها، بل إنها كانت مشاركة في هذا الحراك، وقريبة من مطبخ السياسة حيث تُطهى المؤامرات وتُحاك الدسائس وتُرسم مصائر الناس دون أن يكون لهم الحق في الاختيار.
اختار العشماوي هذا الثقب الصغير ونفذ منه، وبعد أن استقر به المقام داخل سراي بيت الجد (بيت الأمة) فتح لنا – نحن القراء – الباب لندخل، ونستقر بالقرب منه، نستمع إلى تعليقات الجدة حول كل شيء، ومعزوفات الأم، ونرى صراع الطفلين (التوأم شكري وفهمي) اللذين صارا صبييْن فشابيْن فكهليْن، منذ أن كانا يتصارعان على الألعاب ثم على قلب فتاة (أمينة سعادة) ثم بعدما تحول صراعهما إلى عالم السياسة، إذ صار كل منهما يسعى إلى إقناع الآخر بخطأ موقفه. لكنَّ العشماوي لم يتحول إلى قصَّاص أثرٍ، ولا مؤرخٍ ينقلُ الأحداث ويعلِّق عليها، بل كان موسيقارا يحرِّك فرقته أو فريقه أو أبطاله من خلال (نوتة) لا بارتجال وعشوائية، وكان كذلك مغنيا يعرف أن هناك طبقة لا بد أن يرتقيها، ولا يخرجُ عنها إلا بفهمٍ ومعْلمة كما يفعل المطربون الكبار، وقد أمسك العشماوي بطبقة الرواية أو نغمتها، وحافظ عليها ونوَّع فيها، وقدَّم دروسا في كيفية الاستفادة من محطات التاريخ والسِيَر الشخصية لمشاهير السياسة وأرشيف الأحداث الكبرى لكتابة عمل فني ناضج ومتكامل..
فما هي تلك النغمة التي أمسك بها وكيف شكَّل من عجينة السياسة الصعبة تلك الشخصيات الفنية التي تنطق بالحياة؟
لجأ العشماوي إلى تقنية الأصوات. منح حق الحديث لشكري تاج الدين وحبيبته التي صارت زوجته (أمينة سعادة) وشقيقه فهمي تاج الدين، وكذلك القبطي فايز حبشي، وبالتالي قصر الأصوات على أربعة أشخاص فلم يسمح بتسرُّب كثيرٍ من الزوائد إلى قماشة الرواية، كما أنه - بذكاء كبير - لم يقع في فخ تكرار التفاصيل، ففي رواية الأصوات غالبا تُعيد الشخصية سرد نفس الحدث أو مجموعة الأحداث من وجهة نظرها، وبالتالي يشوب تلك الأعمال نوع من البطء ربما يؤدي في أفضل الأحوال إلى قليل من الملل، لكنَّ أبطال العشماوي الأربعة بدوا كأنهم رواةٌ في فرقة أو جوقة واحدة، متعاونون في سرد الأحداث، كل منهم يبدأ من حيث انتهى الآخر، فهل هذا يعني أنه لم تكن هناك تقاطعات أو تفاصيل مشتركة؟ لقد كانت التقاطعات حاضرة لكن يتم عبورها بسرعة كأن العشماوي يقول لنفسه: تذكَّر أن هناك قارئا لا يجب أن يشعر بالملل أبدا، وكأن رواته الأربعة يتسابقون على لقب (الراوي الرئيسي) أو (الراوي الأكبر)، مع لمسةِ تشويقٍ يتركُها كل منهم في نهاية فصله ليجعل القارئ متلهفا إليه هو بالذات، ويريد أن يعود إليه في أسرع وقت ممكن.
منح العشماوي كذلك دور البطولة للراديو، لأنه كان الوسيلة الأساسية التي يمكن الوصول من خلالها إلى الجماهير وتحريكها، أو إلهائها، أو السيطرة عليها، أو خداعها وتنويمها. بدأت فصول الرواية كلها بمقاطع من الراديو وضعها العشماوي كما هي دون أي تدخل منه، فمنحتنا شعورا بعتاقة الزمن الذي نقلتْنا إليه، زمن الملك فاروق والإقطاعيين ثم الضباط الأحرار، وقد بدت لي تلك المقاطع في بدايات الفصول كأنها أشبه بمؤشر الراديو، إذ يستقر على محطة معينة، محطة هذا البطل أو ذاك، فتبدأ الاستماع إلى صوته الخاص المميز: صوت شكري، الذي وصل إلى الحياة أولا قبل توأمه فهمي بدقائق. شكري الذي لا يرضى بالهزيمة أبدا، المعتد برأيه وأفكاره، الطامح إلى السلطة، ضابط البوليس الذي باع نفسه للإخوان، لأنه رآهم أسهل طريقة للوصول إلى السُلطة والتحكم في الناس. شاهد شكري كيف وصل حسن البنا إلى تأسيس جماعته فردا فردا، ثم عمل من بعده مع المستشار الهضيبي وشاهد الفرق الشاسع بينه وبين المؤسس الأول (البنا) في الإدارة والتعامل وطريقة الكلام، وترقَّى من دائرةٍ إلى دائرةٍ في حرس الملك فاروق حتى صار على مرمى أمتار منه، يتعامل مع ضيوفه من السياسيين الرفيعين وقد يمنح أحدهم ربطة عنقه، مثلما منحها لرئيس الوزراء البريطاني تشرشل الذي وجد نفسه في ورطة بعد أن استيقظ الملك ذات يوم وقبل لقائه به في مصيفه قرر أن يكون اللقاء بالملابس الرسمية. وقد أُتيح لشكري كذلك ملامسة ضيق وتبرُّم الملك فاروق بالسياسة والسياسيين وتصرفه كمن يُقدِم على الانتحار سياسيا. كما فاز شكري بقلب الحبيبة المشتركة (أمينة سعادة) وحوَّلها من امرأة متحررة ترتاد دور السينما وتهوى الرقص والرسم إلى امرأة تساعد الأخوات في الجماعة. كما كان شكري رجلا يرى أن الحياة كلها تأتمر بأمره، ولا يعمل حسابا للمستقبل، ولا لصورة العائلة، ولا لشكل أبنائه بعد أن يكبروا ويعرفوا سيرة أبيهم.
ثم يطالعُنا صوت فهمي رجل النيابة الأمين الذي رضي بالهزيمة وأقرَّ بخسارة حبيبته لصالح شقيقه، لكنَّ قلبه - على ما يبدو - ظل متعلقا بها، وحين أحبَّ من جديد اختار فتاة تشبهها رغم أنها تنتمي إلى جنسية أخرى هي الفرنسية. كان فهمي يتتبع بحكم عمله ما يجري في البلد من حوادث عنف غامضة ربما يقوم بها الإخوان ورغم بطانة الملك وربما الإنجليز لكنَّ يدا أخرى تتدخل في آخر لحظة لتمحو الآثار التي يلاحقها، هي يد أخيه شكري، وفي كل مرة يكونُ لدى فهمي شكٌ كبيٌر، أو فلنقل بشكل أدق: يقين بأن شكري هو من يقف وراء كل شيء، حتى حينما تأكدت شكوكه لم يرض أبدا بأن يبيع شقيقه ودفع الثمن بدلا منه.
ثم يأتي صوت أمينة سعادة، ابنة التاجر الشهير، كالهمس. إنها المرأة التي انحازت بقلبها إلى شكري رغم معرفتها بأن الخطَّ الموجود في خطابات الحب التي تصلُها هو خط فهمي. باعت تلك المرأة عمرها لأجل الحب، وتوقفت عن أحلامها للحفاظ على أسرتها، لكنها اضطرت في النهاية للتضحية بنصف أبنائها لتنجو بالنصف الآخر، واستفاقت متأخرا جدا. ثم يأتي صوت فايز حبشي، وهو واحد من أهم الأصوات في العمل، حيث له علاقة مباشرة بفكرة سيطرة الراديو على الأحداث، فهو فني يفهم في محطات الإذاعة، ومتخصص في إنشائها بموجاتها القصيرة والطويلة. يستطيع حبشي أن يصل إلى الناس، ويمنح خدماته لمن يدفع، لنساء يرأسن عصابات، أو لجماعة الإخوان التي ترغب في إزاحة الملك والاستيلاء على عرشه، ثم للضباط الأحرار الذين ظهروا فجأة في الصورة وبدأوا يتطورون مع تطور الأحداث، ثم دانت لهم السيطرة بفضل دهاء وحنكة جمال عبد الناصر.
بخلاف هؤلاء الأربعة تمتلئ الرواية بالشخصيات، كل منها تتعرض لهزَّةٍ متوقَّعة من الهزَّات التي تتبعُ الأحداث الكبرى غالبا، مثل ثورة يوليو 1952. وكلُّ شخصية تواجه تلك الهزة بطريقتها، وبقدرتها على التحمل، وبموقعها من الأحداث، والرواية - بهذه المناسبة - لا تعرف الشخصيات الثانوية، فما تعريف الشخصية الثانوية؟ هل هي التي تحصل على دورٍ محدود أم أنها الأقل تأثيرا في الأحداث؟ فهل الملك فاروق بظهوره القصير المزلزِل وتواريه في قصر رأس التين أو خلف حاشيته أثناء الاحتفالات المختلفة أو حتى في خلواته الغريبة الطفولية وهربه من الحرس ولهوه بقيادة السيارة هل يمكن اعتباره شخصية ثانوية؟ وهل يمكن اعتبار جمال عبد الناصر الذي تحيطه هالة من الغموض والسرية وترتبط به القرارات المفاجئة الصادمة شخصية ثانوية؟ وهل يمكن اعتبار المشاهد التي جمعته بالهضيبي وشكري وفهمي على قصرها مشاهد ثانوية أم أنها مشاهد شديدة الأهمية ترتبط بواحد من أخطر رجال العصر، أقصد جمال عبد الناصر الذي حرك كل هذه الأحداث؟ وهل يمكن اعتبار الأم (أم شكري وفهمي) شخصية ثانوية وهي المرأة التي منحت العالم القاسي نسمة الهواء العليل، بحرصها الدائم على ممارسة هوايتها بعزف الموسيقى غير ملتفتة إلى الصراعات الصغيرة والكبيرة حولها؟ ألم تمنح العالم موسيقاه التصويرية؟
وهل يمكن اعتبار الجدة التي يلجأ الجميع إلى صدرها في لحظات الأزمات شخصا عابرا وقد عاشت عصورا مختلفة وتقلبات سياسية عاصفة وبركانية بثبات حتى حطَّ عليها الزمن وأكل ذاكرتها وأصبحت - ربما لحسن الحظ - لا تدري بما يدور حولها، ولا تعرف أن الامتيازات سُحبت من عائلتها وأنها لو رفعت صوتها بغضب في فلاح ممن يعملون في أراضي العائلة فسيرد لها الصاع صاعين ويطلب منها أن تعامله كما يليق برجل ينتمي إلى عهد الثورة؟
وهل يمكن اعتبار الأب الصامت دائما الذي أنقذ ابنيه كثيرا بفضل قربه من دوائر السياسة الكبيرة، ثم اقتناعه بأنَّ الحياة تغيَّرت وأنه لا سبيل أمامه إلا بالعودة إلى الصمت شخصية ثانوية؟ وهل يمكن اعتبار عبد الرحمن السندي رجل الإخوان القوي الذي كان مقرَّبا من مرشدها الأول ثم أصبح لصيقا بالمستشار الهضيبي ثم باع الإخوان ومنح كل أسمائهم الحركية وتحركاتهم ومواقعهم للثوار مقابل وظيفة حكومية كبرى شخصية ثانوية؟ لا أظن أن أحدهم سيرضى بتصنيفه كشخصيةٍ صغيرةٍ عابرةٍ، ولا أظن أصلا أن أحدهم يرضى بغير أن يكون بطلا لهذا العمل.
لقد نجح أشرف العشماوي في رسم ملامح كل شخصية، ليس بوصفٍ عابرٍ سريعٍ ومباشرٍ، ولكن أولا بعدم نسيان أي شخصية من شخصياته، وبالعودة إليها مرارا وتكرارا، وثانيا بالصبر على مراكمة التفاصيل، تفصيلة فوق أخرى، حتى صارت الشخصيات مجسَّدة أمامنا تنطق بالألم والغضب ولا تعيش سوى لحظات قصيرة من السعادة تعقبها الكارثة، وتعترف لنفسها أخيرا بأنها كانت تعيش وهما كبيرا، وهم أنها تعدو في مضمار لكنها تفيق على حقيقة أنها ثابتة أو مثبَّتة - بتعبير أدق - في أماكنها، وكأن سرعتها القصوى صفر.
لقد نجح أشرف العشماوي في إعادتنا إلى الماضي دون أن نشعر بأنه أعادنا إلى أرشيف، وجعلنا نشاهد أبطاله كأننا نعيش معهم، ونشارك في مؤامراتهم داخل الغرف المغلقة، ونحبس أنفاسنا لنعرف كيف سيتصرف الآخرون بعد كل مؤامرة أو دسيسة. في هذا العالم نفهم أن الشر أقوى من الخير، وأن من ينتصر هو الأكثر قدرة والأكثر سرعة في التنفيذ وفي التحكم بالجماهير وفي تصدير صورة حماسية ومثالية لنفسه، فليس المهم ما نخبئه تحت جلودنا ولكن ما نرتديه من أقنعة ومسوح فوق وجوهنا. إنها رواية عما تصنعه السياسة بالأرواح، أرواح الجميع، سواء المشتغلون بها، أو البسطاء الذين يتصورون أنهم يعيشون الحلم بغدٍ سعيد، بينما هم لا يعيشون سوى حياة يتم رسمها لهم في اجتماعات مخنوقة بدخان السجائر ورائحة العرق وشياط المؤامرات الذي يزكم الأنوف.
حسن عبد الموجود قاص وصحفي مصري