ذكور مَرَدة
ترجمة صالح الفلاحي -
توجه أفراد من مجموعة شمبانزي في حديقة جومبي الوطنية بتنزانيا وكانوا عازمون على أمر، حدث ذلك بعد الزوال من يوم السابع من يناير من سنة 1974، ولم تتوقف المجموعة عند حدود أراضيها بل قطعت الحدود مخترقة أرض مجموعة تجاورها، وبدل الرد على صرخات النداء التي أصدرتها المجموعة المجاورة أسرعت المجموعة المغيرة الخطى متوغلة في أراضي الجوار بصمت، كان أحد ذكور مجموعة الجوار يأكل منعزلا عن مجموعته وهو في العشرينات من عمره، أُطلق عليه اسم «جودي»، هاجمت المجموعة المغيرة «جودي» بعنف وحماس يصحبه ضجيج، ونتيجة لتلك الغارة مات «جودي» متأثرا بجراحه.
كان الهجوم على «جودي» هو حالة القتل الأولى المسجلة في غارة تحدث بين مجموعات الشمبانزي ويشهدها مراقبو الشمبانزي من علماء الحيوان، وهي بكل تأكيد ليست الغارة الأولى لمجموعات الشمبانزي على أراضي المجموعات المجاورة ولكنها المرة الأولى التي راقبها البشر فكانت عزفا على وتر شديد الحساسية وبالغ الأهمية لفهم نوعنا البشري.
لم يفترض العلماء قبلها حدوث شيء من هذا القبيل بين الحيوانات الأخرى غير البشر حتى وثّقوا الهجوم على «جودي»، فقد اعتبروا عنف البشر الاستثنائي أمرا يتفرد به نوعنا. نعلم بلا شك أن العديد من أنواع الحيوانات تقتل مستهدفة أنواعا أخرى، كالفرائس. كذلك يتقاتل أفراد من الحيوانات مع أفراد آخرين من نفس النوع، وغالبا يحدث ذلك بين الذكور المتنافسة جنسيا؛ إلا أن صراعا كهذا ينتهي حالما يستسلم فيه أحد المتنافسين. ظن العلماء لفترة أن البشر وحدهم من يسعى عن عمد لقتل أفراد من نفس نوعهم.
برعت أذهاننا في حجب العنف الذي يمارسه نوعنا وراء حجاب الثقافة والعقل، وهما صفتان مميزتان للبشر، وهكذا تساءلنا: أي خطيئة أولى لطّختنا بسلوك مغاير كهذا؟ حتى اكتشفنا بغتة هذه الحادثة في عالم النّسانات. ما يكشفه الهجوم على «جودي» هو أن الشمبانزي قد يكون النوع الثاني الذي يقتل أفرادا من نوعه عمدًا. وكم هو غريب أن يكون النوع الثاني هو الشمبانزي لا غيره! إذ لا نوع غيره أكثر صلة تطورية بنا منه. ما الذي يعنيه ذلك؟ هل تومئ معاناة «جودي» إلى عوالق مشتركة من ماضينا التطوري؟ هل يعني ذلك أن القتل البشري متجذر في تاريخ يسبق البشر؟
هناك ثلاثة اكتشافات حديثة تتناول العلاقة بين الشمبانزي والبشر، وتقود نتائجها إلى ذات الاتجاه: إلى الماضي، حين لم يكن ممكنا التمييز بين أسلاف الشمبانزي وأسلاف البشر أي قبل حوالي خمسة ملايين سنة.
أولها ما تشير إليه الحفريات التي تم اكتشافها مؤخرًا في إثيوبيا، فقد مشى سلف البشر على رجلين عبر أراضي أفريقيا قبل 4.5 مليون سنة وكان رأسه يشبه رأس الشمبانزي على نحو لافت. وثانيها ما أظهرته المختبرات في أرجاء العالم على مدى العقود الماضية بأن الشمبانزي أقرب إلينا جينيا حتى من قرابته للغوريلا، على الرغم من التشابه الجسدي الوثيق بين الشمبانزي والغوريلا. أما ثالثها فيبدو جليا في حقول الدراسة كما يظهر في المختبرات على حد سواء، ذلك أن سلوك الشمبانزي يظهر تطابقا واضحا مع السلوك البشري وهو ما يتأكد يوما بعد يوم. لا يقتصر الأمر على أن تلك النسانات تربت على أيدي بعضها لإظهار المودة، أو تقبل بعضها بعضا أو أن إناثها تشهد انقطاعا في الطمث، أو أنها تبني صداقات تمتد طوال عمرها وتحزن على أطفالها الموتى، وإنما يتأكد في الحقائق المتعلقة بطبيعة سلوكها الاجتماعي الأبوي الخاضع للذكور، تماما كالمجتمعات البشرية، بعكس نوع آخر من النسانات وهو البونوبو إذ فقد ذكور البونوبو الهيمنة على المجموعة من خلال سلوك تعاوني بين إناث البونوبو مكنهن من بناء تحالفات تضمن توازن الهيمنة بينهن وبين الذكور، ما جعل مجتمعات البونوبو تتصف بسلوك يهيمن عليه ضبط النفس، والبعد عن العنف.
طبيعتنا كأنواع تشبه دمية روسية، حيث تكشف كل طبقة من الأسئلة التي نجيب عليها عن طبقة أخرى تلتمس إجابة. لماذا يشكل الشمبانزي والبشر عصابات متحيزة بينما تعيش رئيسيات أخرى كالغوريلا في بيئة اجتماعية مستقرة؟ ولماذا نتصف بخضوع للذكور بينما كان يمكن أن يكون خضوعا للإناث أو لكليهما، أو لا هذا ولا ذاك؟
لتناول أولا مسألة العصابات المتحيزة، وهي أسلوب متميز في السلوك الاجتماعي يبدو قابلا للتفسير من خلال نظرية «تكلفة التجمّع». تنص هذه النظرية على أن مجموعات الرئيسيات قد تنمو في الحجم بشكل لا نهائي، لولا ما تفرضه التكلفة البيئية من قيود. وفي الموائل التي تتفاوت فيها التكلفة البيئية موسميا، يختلف حجم الجماعة تبعا لذلك. يؤيد الفكرة ما نعرفه عن أنواع العصابات المتحيزة، إذ تصبح الجماعات على اختلافها أكبر عندما أو حيثما يتاح مزيد من الطعام. نرى هذا النمط كل عام بين الشمبانزي في غابة كيبالي. يتفاوت عدد الأشجار المثمرة هناك على نحو متقطع ليشكل نسبة من صفر إلى ثمانية بالمائة من الأشجار. ويرتبط تضخم حجم جماعات الشمبانزي بوفرة الأشجار المثمرة، فإن توفرت فهي مواسم غبطة للشمبانزي ولمن يراقبها على حد سواء. إذ يفضي الطعام الوفير إلى جماعات أكبر يسهل العثور عليها ومشاهدتها ومتابعتها والتعلم منها. والواقع أن هذا النمط البسيط هو قاعدة ثابتة لجميع الأنواع التي تشكل عصابات متحيزة، سواء كانت شمبانزي، أو بشرا، أو ضباعا مرقطة، أو آخرين، فطعام أوفر ينتج جماعات أكبر.
من المرجح أن أنماط العصابات المتحيزة للشمبانزي والبشر إنما نتجت من كوننا بارعين بتذوق الأطعمة الطيبة والتي تكون نادرة جدًا في الغالب بحيث لا تمكّن الأصدقاء أو الحلفاء من البحث عن الطعام سويا وبانتظام دون تضوّر بعضهم أو كلهم جوعا. عدا إذا كنا مثل الغوريلا، وأن نتربع مثلها على مرج الجبل نأكل أوراق الشجر طوال اليوم، لكن أنظمتنا الهضمية لم تتطور لتهضم الأوراق النهار بطوله، وهكذا بينما نتحرك في جماعات قدر المستطاع -بهدف الحماية والمزايا ومتعة التواصل الاجتماعي- فإننا لا ننفك نجني ونصطاد تلك الأطعمة الشهية، ولكنها نادرة لدرجة أن مجرد معال إضافي واحد في جماعتنا قد يخفّض ما يحصل عليه الآخرون على نحو واضح، وهكذا فبدلا من الجوع معا، يكون الانقسام أخيَر لتجمع كل مجموعة الطعام وهي منفردة.
أما لماذا يكون الجيران العدوانيون المغيرون من الذكور دوماً، فذلك لإن الذكور قبل كل شيء أكبر قليلا وعضلاتهم أشد من النساء، ثم أنه هناك مسألة «تكلفة التجمع» وهي التي تدفع النسّانات تجاه نظام اجتماعي خاضع للذكور. إذ يمشي الذكور البالغون على نحو أسرع ولا يتعبون بسرعة مقارنة بالإناث البالغات اللاتي يرتبطن بالرضّع لأن الذكور لا يحملون الأطفال. يتجلى ذلك المبدأ بشكل أوضح في رحلات الشمبانزي الطويلة إلى أماكن الطعام المفضلة. قد تبدأ مجموعة مختلطة الجنس بالرحلة معا، لكن الأمهات اللائي يحملن ذريتهن غالبًا ما ينتهي بهن الأمر إلى استراحة في منتصف الطريق لأعلى التل أو التأخر بعيدًا في الخلف، وفي رحلة تستغرق عشرين دقيقة مشياً تصل الإناث إلى موقع الطعام متأخرات خمس دقائق عن الذكور، وهذا عائق أمام الإناث منعهن من الاعتماد على بعضهن لتشكيل تحالفات ما جعلهن أضعف أمام الذكور.
هناك عامل الانتخاب الجنسي أيضا، والذي تكمن في فهمه كثير من الإجابات. إذ يمكن للمقاتلين الأكثر شدة من الذكور منع غيرهم من الذكور من التزاوج، بينما يتزاوجون هم بنجاح. وهكذا ينجب أشد المقاتلون عريكة المزيد من الأطفال على الأغلب. هذا هو المنطق الأناني البسيط وراء الانتقاء الجنسي.
يقال إن الحيوانات تقاتل بقلبها بينما يقاتل الإنسان بعقله، ويرى المؤرخ مايكل هوارد أن الحروب البشرية تنبعث من وعي وقرارات منطقية متأسسة على حسابات مقدرة يقوم بها الطرفان تشير إلى أن ما سيحققانه من الحرب أكثر مما سيحققانه من بقائهما في حالة السلم، وهكذا يبدو أن لدينا نظامين فهل يمكن تفسير عنف ينطلق من وعي وقرارات منطقية وفق قوى تطورية دافعها الانتخاب الجنسي؟
يبدو التساؤل معقولا، لكنه يعتمد على تفكير يبالغ في التبسيط، لأنه يتأسس على تمييز خاطئ بين حيوانات تتصرف وفق المشاعر (أو الغريزة) وبشر يتصرفون وفق المنطق. ذلك لأن سلوك الحيوان لا تتحكم به المشاعر وحسب. كما أن صنع القرار البشري ليس عقلانيا بحتا. وإنما يكون التصرف في كلتا الحالتين، وفق مزيج بين الأمرين. وتشير أدلة جديدة إلى أنه وعلى الرغم من أن تفكيرنا كبشر أكثر بمراحل (من تحليل سياق الماضي والحاضر، والنظر في إمكانات المستقبل، وما إلى ذلك) من الحيوانات غير البشرية، غير أن عملية اتخاذ القرار لدينا لا زالت تعتمد على المشاعر.
اكتسبنا كنوع بشري إرثا من أسلافنا من النسانات، حددته قوى الانتقاء الطبيعي وكتبته الكيمياء الجزيئية في حمضنا النووي. وهو إرث رائع في أغلبه، غير أن إحدى حوافه الصغيرة تتضمن عناصر مدمرة؛ والآن وبعد أن امتلكنا أسلحة الدمار الشامل، فإن تلك الحافة تعزز احتمال زوالنا.
تعاظم تعقيد الحيوانات وذكائها بشكل مطرد في الأربعة مليارات سنة من تاريخ الحياة. كانت الأنواع الأكثر ذكاءً قبل مليار سنة مجرد كائن مجهري ضئيل لزج. وربما غدت سمكة قبل مئة مليون سنة، أو إحدى الثدييات المبكرة. ثم غدت نسّانا أو دلفينا قبل عشرة ملايين سنة، وقبل مليون سنة ربما أضحت الأنواع البشرية الأولى على عتبة استخدام بعض أشكال اللغة البسيطة.
يبدو الارتباط بين قوة الدماغ العظيمة والمارد الذكوري الغريزي صدفة مأساوية لسلاسل سببية مستقلة؛ ولكن العلاقة بينهما أعمق، فالعقول الذكية مسؤولة عن أشكال جديدة من العدوان لا علاقة لها بالحيوانات التي تفتقد الذكريات الفعّالة والعلاقات الاجتماعية طويلة الأمد. والعنف في العلاقات ليس هو النتيجة الوحيدة للعقول الماردة ذات الدماغ الكبير. فالتعقيد السياسي يخلق تحالفات، والتي يمكن بدورها أن تؤدي إلى اختلالات هائلة في موازين القوى التي تعزز العنف. تخدم العبقرية المارد الغريزي الآن بأسلحة وتكتيكات جديدة، وأنواع جديدة من الخدائع في اللعبة المستمرة لتصعيد النزاعات، ولا يكمن الخطر الأكبر المتعلق بنا في أن الذكور يحكمون، بل يتجلى في اندماج ماردهم الغريزي بالذكاء المتوقد ما يؤدي إلى إمكانية غير مسبوقة في البناء والتدمير.
إن الدماغ البشري بعظمته هو النتاج الأكثر رعبا في الطبيعة. وهو في الوقت ذاته خير هبة من الطبيعة وخير مكمن للأمل. وإذا حكمت علينا الغرائز بمزاج ذكوري مَريد وبإمكانات مكيافلية للكشف عنه، فإننا نتمتع كذلك بذكاء يمكنه أن يدفعنا بعيدا عن العيب الغريزي الذي حملناه طوال خمسة ملايين سنة من ماضينا كنسّانات وذلك عن طريق اكتساب الحكمة. الذكاء أمر مألوف لدينا، يشبه كتابا قديما، أو صديقا حميما. ولكن ما هي الحكمة؟ إذا كان الذكاء هو القدرة على الكلام، ستتجلى الحكمة في القدرة على الاستماع. وإذا كان الذكاء هو القدرة على الرؤية فالحكمة هي أمكانية إبصار البعيد. إذا كان الذكاء عين، فإن الحكمة مرصد. تمثل الحكمة قدرة على مغادرة جزيرة ذواتنا لنمخر عباب المحيط. فنرى ذواتنا كما يراها الآخرون، ونرى الآخرين من خلال الأبعاد المعتادة أو السياق ومما وراء ذلك من زمان ومكان ووجود. فالحكمة بتعبير آخر هي المنظور.
وإذ تبين لنا استعداداتنا الغريزية ما ينبغي علينا الاهتمام به. يساعدنا الذكاء على توليد الخيارات. فالحكمة تدفعنا إلى التفكير في النتائج على نحو مستقل، لخير أنفسنا وأطفالنا وأحفادنا. . . وربما حتى لخير العقول الكامنة في الغابة.
من كتاب) (Demonic Males, Apes and the origins of human violence تأليف عالم الأنثروبولوجيا التطورية والأستاذ في جامعة هارفارد ريتشارد رانجام، والكاتب المتخصص في التاريخ الطبيعي ديل بيترسون.