ذاكرة «الكراسي» أو النور الذي يشع من الكلمات
عند البحث في أصول مسرح اللامعقول أو اختبار نظرية الزمان والمكان حول «العبث»، والاستسلام بعجز اللغة عن توصيل المعنى، وعند تنامي الشعور بالفراغ وقوة الموت بسبب العالم الصناعي والتقنية، وعند البحث عن الفروقات الترسيمية ما بين التراث الكلاسيكي لمسرح اللامعقول وما بعده، لا بد من الوقوف عن تجربة مسرحية تأثيثية مهمّة، هي تجربة المسرحي الروماني (أوجين يونسكو 1909-1994م) ومسرحيتيه «المغنية الصلعاء والكراسي».
والناظر إلى تجربة هذا المسرحي بالاستناد إلى المراجع التالية: معجم المصطلحات المسرحية لأحمد بلخيري، ومن الأعمال المختارة بجزأيها ترجمة وتقديم حمادة إبراهيم ومراجعة د. سيد عطية أبو النجا، ودراسة للمؤلف كلود ابستادو ترجمة قيس خضور، ليس بمقدور القارئ إلّا احترام تراث مسرح اللامعقول.
ليس من المناسب ألا نبحث عن جذور هذا المسرح، لأنّ انطلاقة أساسية ترى أن ما هو كلاسيكي تراثي قد استقر أو أُلقي به في مُتحف للتاريخ أكلَ الدّهر عليه وشرب، بات تراث لا يُعول عليه! فيقولون: ما الجدوى اليوم، من إعادة قراءة «المغنية الصلعاء»، أو «الكراسي» أو «الخرتيت»؟...إلخ، وجميعها أشكال فنية أو خطوط لفلسفة عميقة كانت تدل على مرحلة ثقافيّة لم يعد لها وجود؟ لكن هذا المنعوت «اللاوجود - له» ما يلبث أن يجد ضالته بين الكتّاب المبتدئين في المسرح أو المخضرمين! فهناك على -سطح المكتب- عدد من مسودات لمسرحيات تدور في فلك اللامعقول، لكنها كأفكار تعجز عن تحديد مسارها الفكري أو الاجتماعي، بسبب من قوة الثقافة المهيمنة في المجتمعات الاستهلاكية. ما يدعو إلى الشك في مقدار المعلومات التي تلقنها الكليات والجامعات على مدرجاتها للأجيال بعيدا عن التفكير بإنتاج المعرفة التي تؤدي إلى طريق الحكمة!
جاء في تقديم (من الأعمال المختارة) ما يطرح هذا التساؤل البسيط: هل دخل أوجين يونبسكو إلى المسرح عن طريق الأحلام أو بسبب فشل العلاقة مع سلطة الأب أو عن طريق القصة؟ ولماذا اختار التعبير عن الوجود والإبداع بواسطة المسرح لا سواه؟ وما الرؤية التي أراد أن يقولها للمتفرجين في مسرحية (الكراسي 1951م) عن الوجود والإنسان والنصّ؟ يمكننا، باختصار القول: إن أسباب اختيار يونبسكو التعبير عن قناعاته وأفكاره الشخصيّة والثقافية بواسطة المسرح لأن ما يقوله الخطاب المسرحي لا تقوله خطابات الأجناس الأدبية الأخرى. أمّا عن الطاقة اللامتناهية للأحلام وفشل علاقته العائلية مع الأب وسلطته، وما زرعته في نفسه من يأس وفشل فهي مُركبات أقرب ما تكون إلى حلقات البصل المتعالقة بتعبير جوليا كرستيفا، وهذه المركبات يصعب فصلها عن بعضها، لكن يمكن للمحلل النفسي التصدي لها والاشتباك معها بهدف المعرفة، ولعلّ هذا أحد أسباب كتابة يونبسكو لعنوان ثانوي للمسرحية هو «تهريج مأساوي»، فكأن أجواء المسرحية تتطلع إلى حوار لامتناهي تختلط فيه الأصوات القادمة من الطفولة والذاهبة إلى منطقة الوعي.
يذكر مترجم (من الأعمال المختارة) إعجاب وتأثر صديقنا المسرحي يونبسكو بقصة (قلب بسيط / أو قلب طاهر1877م كما في ترجمة حسين كيلو- ثلاث حكايات-) للروائي جوستاف فلوبير. لقد وجد يونيسكو فيها كما يقول: «النور الذي يشع من الكلمات»، وربما كان المقصود بالنور هو صورة أمه الفقيرة التي أعتقدُ أن يونبسكو قد تماهت إنسانيتها وشخصيتها مع الخادمة (فيليسيتيه) بطلة القصة. لكن هذه الشخصية من حيث البناء الفني في المسرح، ستذوب ملامحها حدّ الاختفاء لتكتسب معاني أخرى لمسرح اللامعقول.
إحدى خصائص مسرح اللامعقول كما جاءت في (معجم المصطلحات المسرحية) لأحمد بلخيري، أن إنسان هذا المسرح كائن «مجرّد، وغير خاضع للزمان. كما أنه عاجز عن إيجاد ولو أبسط شيء يساعده في بحثه بشغف عن معنى يمزقه باستمرار. إن فعله يفقد كلّ معنى. ثم إن الحكاية في معظم الأحيان تكون دائرية، ولا تكون موجهة بفعل درامي، وإنما ببحث ولعب بالكلمات»، وسيجد يونبسكو نور الكلمات المشع بواسطة البحث والدوران واللعب الصادم في مسرحية «الكراسي».
يذكر (كلود ابستادو) أن أوجين يونيسكو كان يكتب مسرحياته في أثناء اشتغال المخرجين بترتيب مسرحية له للعرض. هكذا كتب «ضحايا الواجب»، في أثناء تجهيز «الكراسي» للعرض، كما كتب «الدرس» في فترة كتابته «جاك أو الامتثال»، وفي أثناء عروض «المغنية الصلعاء» كان يكتب مسرحية «الدرس». يمنح هذا الانهمام بالمسرح لدى يونيسكو سعيه لبلورة فرضية معرفية إزاء اللغة المسرحية، فالواقع مزيف ومتناقض، والنور المشع يمكن أن يترك في المشهد ظله. هكذا يمكن لنا قراءة «الكراسي».
أجمع الراسخون في النقد على أن المسرحية تعكس أحد وجوه غربة الإنسان ووحشته وتناقضه وعزلته في عالم محموم يعيشه كبار السّن. فمن خلال العجوزين سميراميس وزوجها، والضيوف المدعوين الوهميين يؤثث يونيسكو ثوابت ما كان قد بدأها في المغنية الصلعاء- ثوابت مسرح اللامعقول واتجاهاته الفكرية والبنى الدرامية- وتتلخص فكرة «الكراسي» حول قرار العجوز دعوة- «كل الشخصيات المرموقة وكل الملاّك والعلماء والحراس والأساقفة والكيميائيين والنحاسين والعازفين والمفوضين والرؤساء ورجال الشرطة والتجار والمباني والصبغيات ومستخدمي البريد وأصحاب الفنادق والفنانين والصيارفة والبروليتاريين والموظفين والعسكريين والثوريين والرجعيين وأطباء المجانين ومجانينهم...إلخ»- إلى حفل بهدف أن يلقي أمامهم رسالة سيوجهها لأجل الإنسانية، لكنه يعاني من صعوبة كبرى في التعبير فيقرر استئجار خطيب محترف ليتحدث باسمه، وبهذه الآلية سيمتلئ المسرح بعدد كبير من الكراسي، ولأن الضيوف يتخلّقون في الوّهم، فلن يظهروا على الخشبة، حتى تنتهي المسرحية بإلقاء الزوجة والزوج كلٌّ منهما بنفسه من نافذته!
لم يحاول يونيسكو الإفلات من فكرة اغتراب اللغة. فما تقوله «كراسي» المدعوين إلى الحفل يتمظّهر في اللامعنى، فكيف يمكن للمرء أن يدعو كل أولئك البشر إلى «مكان يمثل حجرة جرداء»! فهل الحجرة هي العالم بأسره خال من التراجيديا! أم محيط صغير يسبح فيه المجانين وأطباء النفس؟ أم أنها قرية وادعة في الريف تصلح لعاشقين قرار هجرة الحياة؟ أم لعبة مع الرمز والتضليل والخداع؟
يقول أوجين لتوضيح اكتشاف جوهر مسرحه حول «الكراسي»: في الكراسي لجأت إلى نوع من التوضيح. الأشياء نفسها أصبحت لغة. كنت أريد أن أصل إلى لغة مرئية؛ لغة للمسرح أكثر صراحة، وأشد عنفًا، وأقوى من لغة الكلمات. إن الفنان نادرًا ما يستطيع أن يجدد موضوعاته الأدبية. فالموضوعات الجديدة قليلة. ما يستطيع الفنان أن يفعله هو أن يجدّد اللغة».
بدت مسرحية (الكراسي) رؤية متجددة لدى أوجين لتأكيد رؤيته الطليعية لِما يُعرف بـ«ضد النصّ»؛ وهذا العنوان القصير -ضد النصّ- وضعه يونيسكو تاليا لعنوان «المغنية الصلعاء». هذه الضدية تدفعني إلى تخيّل أن أوجين يونيسكو قد أدخل رأسه في محاولة غير يائسة لتأثيل الكلمات/ أو اللغة، وهو ما يذكر بالإقامة في درجة الصفر.
لقد تعددت صور الكرسي في المسرح واتسعت دلالاته، منذ الإغريقيين وصولا إلى كرسي المتفرج في فضاء مسرح (ميتافيرس)، وقد عرّفنا التاريخ الحضاري للمسرح على جدلية الصراعات الحاصلة ما بين الكرسي إذا كان في سدة الحُكم، أو في حديقة عامة. ومن محدودية كرسي الحُكم تتناسل كراس كثيرة مختلفة، بأنواع متباينة للسلطة، لكن ستظل «كراسي» أوجين يونيسكو هي الأكثر دهشة وجنونًا وغير صالحة إلا لجمهور قرر أن يُحرر فكره قبل أن يتم سلخه من معتقدات الآخرين، ولكي ينجو المتفرج المعاصر من مآل العجوزين ما عليه سوى الاعتقاد أن الكراسي في المسرح لا يمكن أن تحتفظ بالأسرار، لذا وجب تحطيمها.
آمنة الربيع كاتبة وناقدة مسرحية عمانية