خلف تلك التلال
حين نزلت من سيارة الشيخ الجبلي الذي قام بتوصيلي سألني مستفسرا عن سبب نزولي في ذلك الركن النائي، فأخبرته بمرادي، فابتسم ابتسامة لم أفهم مغزاها، وقال بعد أن نظر إلى الكيس والسكين الضخم اللذين جلبتهما معي: «يبدو أنك لا تخشى المخاطر». قبل أن أودعه طلبت منه أن يدلني على موضع معين سمعت أنه في المنطقة التي تطأها قدامي الآن، فأشار إلى مجموعة من الهضاب قائلا: خلف تلك التلال.
ـ خلف تلك التلال؟
ـ بالتأكيد.
بعد أن شكرته تحرك بمركبته المتهالكة. كان اللون الأخضر على امتداد البصر ولم يكن يعكر استواء الأرض غير تلك التلال.
كان الوادي السحيق الذي أشار إليه الكهل الريفي يقع بعد الهضبات بمسافة قصيرة، كان هبوطي إليه شاقا بعض الشيء، لم أعثر على طريق ضيقة عبدتها الأقدام والأظلاف.
في القاع ذحيت بنفسي وسط بقعة مخضرَّة مورقة زاهية، كوسها يهبُّ نديا جالبا معه رائحة التين البري، لكم «فغتني» تلك الرائحة، أي مكان هذا الذي اسودَّت فيه الخُضرة هكذا؟ أي مكان هذا الذي تغوص السيقان في أعشابه الريَّانة هكذا؟ أي مكان هذا الذي مياهه تصل بها حصاها صليل الحلي في أيدي الغواني هكذا؟
الغدق الرقراق، سر الحياة وسر انتعاشي ساعة أن بللت وجهي به واستقبلت نفحات النسيم العليل، لم يعكر راحتي هاهنا سوى هاجس حيَّرني فكنت أتساءل: أين الرعاة؟ أين الماشية؟ كنت أحسب أني سألقى هنا شويهات تقفز في حبور من صخرة إلى صخرة، أو بقرة رقطاء تجرجر من ذلك الجدول العريض، أو مجموعة من قاطني تلك الجبال فيدعونني إلى قدح من لبن نوقهم طريا دافئا.
انتابني شعور بالوحشة وأوجست خيفة من هذا المكان المجهول، فأخذت الوساوس تنعق في أذني: ألم تخبرك جدتك بأنه حيث يوجد الماء يوجدون وحيث يكثر يتكاثرون؟
حاولت أن أبعد عني تلك الوساوس، فأنَّى لي أن أرجع إلى الدار خالي الوفاض؟ هل ستذهب كل المسافة التي قطعتها سدى؟
أخذت أجول ببصري باحثا عن بغيتي فلمحت حجلا يركض مندفعا صوب أجمة متشابكة غصونها، عدوت وراءه علَّني أظفر به، من بين تلك الشجيرات طار سرب من الحجل من تحتي ومن حولي، ظللت مكاني أضحك على محاولتي الفاشلة، سرت وأنا أبعد الأغصان بيداي حتى خرجت من هناك، ثم فوجئت ببركة مياه هائلة على مقربة مني، لقد بدت عميقة جدا، فاستيقظت الوساوس وهي تنعق: حيث يكون الماء يكونون حيث يكثر الماء يتكاثرون.
أبصرت أكواما من الطين الأحمر في الضفة الأخرى للبركة، أسرعت إليها وأنا أشعر باقترابي من هدفي، اضطررت أن أدخل آجاما كي أصل إلى الأكوام الحمراء، لكني عندما توغلت في ذلك الدغل تسمرت في بقعتي، فقد شاهدت مجموعة كبيرة من ذوات القبعات الصينية غصَّ بها المكان، شعرت بسعاة غامرة سرعان ما تلاشت حين عادت الوساوس لتحط على كتفاي وشرعت تزعق في أذناي: إنه شَرَك، طيور الحجل، وهذه الجحافل من ذوات القبعات الصينية لإغوائك أيها الساذج، سيستدرجونك لحتفك، أنفذ بجلدك الآن.. الآن .. الآ آ آ آ آ آ آ آ ن.
اندفعت مسابقا الريح.. غير قادر على الالتفات حولي أو النظر خلفي.. رأيت في تسلق الصخور القريبة اختصارا في الوقت بدلا من ذلك الطريق الملتوي الذي سلكته لأصل إلى بطن الوادي.
بلغت القمة وأنا ألهث، نظرت إلى الأسفل حيث الغَدَق الرقراق، سر الحياة وسر فراري بعيدا عن تلك الجنة الغنَّاء، نظرت إلى الكيس الذي كنت آمل أن أعيده إلى البيت منتفخًا وأعود أنا ممتلئا بالزهو.
عبر الأثير انساب إلى مسامعي صوتٌ جماعي رخيم، نغم شجي، هرولت صوب أعلى الهضاب، وقفت على رأسها، رأيت العشرات من الصبايا الجَبليات يسرن باتجاه الشِّعْب وهن يحملن جحالا فارغة ويغنين «النانا»، اقتربت منهن، أبهرتني ملاحتهن، كنَّ يختلسن النظر إلىَّ ويتهامسن، هممت بالدنو منهن لأسألهن إن كن يعرفن أمكنة أجد فيها ما أتيت من أجله، أي مكان غير تلك البقعة التي هربت منها.
توقفت بمطرحي حين عادت الوساوس وهي تقول هامسة: ما مغزى أن تقصد صبايا مكانا موحشا مثل الذي كنت فيه والشمس أوشكت على الغروب؟ لماذا لا يستسقين من أي عين ماء قريبة من مساكنهن؟
راقبتهن برهة وأنا متردد، ثم عدوت باتجاه الطريق العمومي المُعَبَّد بالقار حتى أتعلق بأي مركبة تكون المدينة وجهتها.
خلف واحدة من تلك التلال عثرت على قبور قديمة، لطمتني الوساوس لطمة قوية وهي تصرخ: هاك دليلًا آخر لا يرقى إليه شك، هاهي «أصبيحتا» أمامك، هاهي قبورهم شاخصة قدَّام ناظريك.
اندفعت بكل طاقتي أركض نحو الطريق العام لأوقف المارة غير مهتم هذه المرة أين تكون وجهة من سأرافقه.
أصبيحتا، هكذا كان يسميها أصحاب الجبل، يقال إن جبليَّا أعياه المشي ذات يوم فنام في الخلاء فمر على قدمه حيوان صغير، فنهض فزِعا وقتل ذلك المخلوق الضئيل الذي كان متشكلا في غير هيئته الحقيقية، فقد كان واحدا من أولئك الذين يكثرون حول الماء، فقام رهطه ليثأروا لمقتله، وهنا أتى قبيل آخر هم أصدقاء الرجل الجبلي كي يذودوا عنه، فنشبت معركة، فكان الجبليُّ يسمع الوغى من قعقعة سلاح وصراخ وصياح لكنه لا يرى أحدا.
في الصباح الباكر ظهرت هذه القبور لتكون شاهدا على معركة غير مرئية دُفِنَ قتلاها في مكان الاقتتال، ولأنها ظهرت فجأة في الصباح سُميت «أصبيحتا»، أي القبور الصَّباحية.
وصلت الشارع وأنا ألهث من شدة الإجهاد، كنت أجري دون توقف، كان الشفق الأحمر يؤذن بقدوم الليل، شاهدت سيارة قادمة، قفزت إلى قارعة الطريق، لوحت بيديَّ، توقف السائق ثم قال: خير يا فتى. ماذا بك؟ قلت له: لاشيء! سوى أني خفت أن أبات في العراء فأقلق أهلي عليَّ.
في الطريق أخذ يسألني العديد من الأسئلة، ثم أنهاها بسؤالي: ماذا كنت تفعل هناك؟
ـ كنت أبحث عن ذوات القبعات الصينية.
ذوات القبعات الصينية؟
ـ آسف! قصدت الفطر، فقد رغبت بجلب بعض منه لأهلي، أنا وأصدقائي أطلقنا على الفطر «ذوات القبعات الصينية» من باب الدعابة ليس إلا.
ساد الصمت قليلا، ثم عاد الجبلي يسألني: هل نزلت الوادي؟
ـ نعم
ألم تجنِ شيئا من تلك «القبعات»؟
ـ لم يسعفنِ الوقت لذلك، فقد أوشك أن يحل الظلام.
ـ أتعرف ماذا كانت جدتي ـ رحمها الله ـ تقول لي؟
لم اتنبه لسؤاله ـ فقد كنت لحظتها أراقب التلال التي كانت تتباعد وتصغر شيئا فشيئا لتختفي بعد ذلك ـ فاضطر أن يعيده بصوت أعلى: هيه، أنت أتعرف ماذا تقول جدتي؟
ـ سامحني! كنت مشغولا بوداع الطبيعة الخلابة... أخبرني بما قالته جدتك.
ـ كانت تردد على مسامعي هذه العبارة: «حيث يوجد الماء يوجدون.. حيث يكثر الماء يكثرون».
قال ذلك وقهقه قهقهة عالية سرت على إثرها رعشة في جسدي، نظرت إليه مرتابا، تفرست مليا في ملامح وجهه، بعد ذلك نظرت إلى قدميه، ثم حمدت المولى الرحيم أنهما قدمان بشريتان وليستا حافري حمار أو ظلفي ماعز.
تنفست الصعداء ثم اتكأت في مقعدي مريحا جثتي المنهكة مغمضا عيناي.
كانت السيَّارة تنطلق بنا سريعا كأنها مشتاقة إلى الخروج من نهار الريف للولوج في ليل المدينة.
سعيد بن عبدالله الدارودي قاص وباحث عماني