جومبا لاهيري تغادر منطقتها الآمنة
ترجمة: أحمد شافعي -
في الخريف الماضي قمت بأول زيارة إلى لندن منذ بداية الوباء. بدت هذه الرحلة الروتينية من أوروبا أشبه بمغامرة عظيمة الشأن، فما إن قفزت عابرا الأطواق البيروقراطية، حتى امتلأت إثارة بالوصول. لكن المدينة بدت مخيبة للآمال، فهي لم تزل على حالها بعد كل ما مرّ به العالم. لكن الشيء الوحيد الذي بهتني بحق هو شيء لم أكن أتوقعه: سماع الناس يتكلمون بالإنجليزية. بعد عامين بعيدا، لم أشعر قط بأثر مماثل لمقابلة لغتي.
سماع المرء لغته الأم أشبه بحصوله على حمام دافئ. لكن من الاكتشافات المزعجة أن دراسة اللغات الأجنبية يأتي بوعي بأن لغتك نفسها قد تكون شركا. فهي بتوفيرها لك مددا متصلا من الكلمات والأفكار الجاهزة، يسهل تماما أن تصبح أداتك الوحيدة للتفكير والإحساس هي أداتك لعدم التفكير، وعدم الإحساس، وحينما تتخلى مرغما عن تلك الكلمات والأفكار، تدرك كيف أن كثيرا من أفكارك المزعومة لا تعدو «كليشيهات» غرستها فيك اللغة التي نشأت في رحابها. وفي كتابها «مترجمةً نفسي وغيري» تتعقب الكاتبة الأمريكية الهندية جومبا لاهيري ارتحالها بعيدا عن آليات اللغة الإنجليزية.
حينما كانت في الخامسة والأربعين، قررتْ لاهيري أن تبدأ الكتابة بالإيطالية. فبدا خيارها هذا محيِّرا وغريبا: «لماذا الإيطالية بدلا من اللغة الهندية، أو لغة أقرب، وأشبه بك؟» غير أن الغاية بالطبع كانت أن تكون اللغة أقل شبها بها، وبالتالي أقل وقوعا في شرك عدم التفكير اللاواعي. كانت الإيطالية بالنسبة لها لغة مكتسبة تماما. «لم يأتني فيها شيء بصورة طبيعية، كان عليَّ أن أدفع ثمن كل شيء» حسبما تكتب.
حكت لاهيري بدايات رحلتها في كتاب نشر في عام 2015 بعنوان «In altre parole» أو «In Other Words» [أي: «بعبارة أخرى»] بحسب ترجمته الإنجليزية التي لم تقم هي بها. وأتبعت هذا الكتاب برواية انتهت إلى أن ترجمتها بنفسها (فأصبحت في الإنجليزية «Whereabouts» أو «الموضع»). وفي الوقت نفسه، بدافع من الروائي الإيطالي دومينيكو ستارنوني، أصبحت مترجمة لأعمال غيرها أيضا، فنشرت إلى الآن ترجمات لثلاث من روايات ستارنوني. والتنقل بين اللغات هو ثيمة كتابها الحديث.
بحماسة لغويٍّ صادق، تغوص لاهيري في المعاجم. تتذوّق الاشتقاقات غير المتوقعة. وتطرح قوائم بأشباه المترادفات. وتخصص مقالة كاملة لصيغ التمني في اليونانية القديمة. وتتجاوز الإيطالية إلى اللاتينية لتتأمل مشروعها الراهن لترجمة أوفيد. وتكتب عن مؤلفين إيطاليين منهم ستارنوني، وجرامشي، وكالفينو، وعلاقتهم باللغات، لغاتهم ولغات غيرهم.
في المقام الأكبر، تستوطن لاهيري غير القابل للاستيطان، تألف غير المألوف والخارق للمعتاد - والواقع على الحدود في ما بين اللغات. ويظهر بعض ذلك في ما بين ثقافات تفصلها هوات زمنية عن بعضها بعضا، وتستشهد لاهيري بمتخصص في الكلاسيكيات يقول إن «اسما واحدا فقط من كل عشرة أسماء في الصفحات القليلة الأولى من البيوطيقا هو الذي أجد له مقابلا دقيقا في الإنجليزية». لكن العجز عن العثور على المقابل لا يقتصر على اللغات العتيقة. فحتى ترجمة المرء لعمل قريب منه قرب عمل كتبه بنفسه «يرغمك على الشك في صلاحية كل كلمة في الصفحة» حسبما تكتب لاهيري.
قد يكون هذا مؤرّقا من الناحية السيكولوجية. فقضاء المرء وقتا طويلا غامسا رأسه في المعاجم يعني فهمه إلى أي مدى يتألف هذا الرأس أصلا من المعاجم. ولو أن لغتنا لا توفر لنا كلمة تحتويها لغة أخرى، فقد يعني هذا أننا لن نفكر أو نشعر بمثل ما يفعل الناطقون بلغات أخرى. وقد قال فتجنشتين إن «حدود لغتي تعني حدود عالمي».
أمر محبط بعض الشيء أن ندرك أن كل كلمة ننطقها أو نكتبها -وكل شيء نستعمله للتعبير عن كل شيء نحسه- ليست ملكنا إنما هي إرث ورثناه من أجيال غير مشهودة. في طفولتنا، نتلقى اللغة دونما وعي، لكن عند تعلم لغة أخرى، تصبح هذه العملية واعية. تكتب لاهيري أن «وهم الحرية الفنية هو كذلك فعلا: وهم. فما من كلمات يمكن القول إنها ’كلماتي’، وما أنا إلا معيدة ترتيبها على نحو معيّن».
بالنسبة لأبناء المهاجرين الذين يتكلمون لغة أخرى، تكون هذه العملية لا محالة أشد إنهاكا من أبناء أحاديي اللغة. وكم كانت لاهيري تتنقل بين لغة أبويها، البغالية، ولغة أمريكا التي نشأت فيها. فكان طبيعيا لها أن تتأمل في معنى هذه الأكوان اللغوية المختلفة، وطبيعيا أيضا أن تعتزم عبور الهوة الفاصلة. وقد توصف هذه العزيمة بالشرط العاطفي الأول اللازم لكل مترجم: «ولدت بمزاج مترجم، بمعنى أن الرغبة التي غلبت عليّ دائما كانت الرغبة في الوصل بين عوالم متباينة».
غير أنها لا تتطرق إلى ما قد أطلق عليها الجوانب السياسية أو ما بعد الكولونيالية في سيرة حياتها. ولا تثقل كتابتها بالورع المعهود أن يحيط بالكتابة عن الترجمة. بل إنها تكتب بدلا من ذلك أن «الفن ليس -ولا يجب أن يكون- أداة لتغيير أي شيء. والفن فور أن يقرن نفسه بأي غرض اجتماعي أو سياسي فإنه يفقد غرضه الحقيقي، وليس غرضه الحقيقي هو تغيير العالم وإنما اكتشاف ظاهرة التغيّر نفسها وعواقبها». وبدلا من ذلك، يتناول الكتاب عواقب عمل بسيط في ظاهره هو اختيار المرء كلماته.
تعرف لاهيري أنه ما من كلمات يمكن القول إنها «كلماتنا». وهي تتشكك في قدرتنا على الفرار من شرك التعبير الانعكاسي. غير أن كتابها يحتوي أملا في قوة اللغة التحررية. فلو أنه لزام علينا أن نستعمل كلمات غيرنا، فعلينا على الأقل ألا نضلل أنفسنا بحسبان أن هذه الكلمات كلماتنا. ولنحاول على الأقل أن نحيل عملية اللغة اللاإرادية إلى فعل مقصود.
نحن أفراد بقدر ما يمكننا التعبير عن أنفسنا داخل أنماط معينة، وبما يتوافق وضرورات وعلاقات محددة. واللغة شأن الظروف البيولوجية أو الاجتماعية هي أحد هذه الأنماط، ومثلما يعرف كل من حاول التخلص من لكنة أجنبية يستحيل على جميع الناس تقريبا الهرب من هذه الأنماط.
ولا يعني ذلك أن علينا أن نتوقف عن المحاولة. ففي ثنايا «مترجمة نفسي وغيري» مشروع شبه صوفي لخلق الذات إذ تكتب لاهيري أن «الترجمة هي نظرك في المرآة ورؤيتك شخصا غيرك». ما الذي يتبقى منا بعدما نتجرّد من كامل عدة التعبير الموروثة؟ لو أن مشروعها -شأن كل خطط خلق النفس المتطرفة- يبدو يائسا، فإن سعيها إلى الحرية، المنذور بالفشل، والبطولي في الآن نفسه، هو ما يمنح هذا الكتاب الحياة. هي تعلم أن وهم الحرية وهم. لكن سعيها إلى الإيطالية أكبر من أن يقتصر على المترادفات والمعاجم والأسماء. فدراسة هذه اللغة الأجنبية تمثل، أو قد تمثل، تحررا، ولاهيري تكتب قائلة «إنني أكتب بالإيطالية لأشعر بالحرية».
مترجم عن «نيويورك تايمز»