جسور الفلسفة الإسلامية بين الشرق والغرب
يأتي ترتيب الفيلسوف العربي ابن رشد في نهاية فصول كتاب «تاريخ الفلسفة في الإسلام» من تأليف المستشرق الهولندي ت.ج. دي بور (T.J. De Boer)، وترجمة محمد عبد الهادي أبو ريدة. ويتموضع الفصل الخاص بابن رشد عقب من يسميهم المؤلف فلاسفة المغرب، مثل ابن باجة وابن طفيل. وذلك بطبيعة الحال بعد تتبع أسماء الفلاسفة العرب والمسلمين البارزين مثل الكندي والفارابي وابن سينا وابن الهيثم وابن مسكويه والغزالي وغيرهم بمن فيهم علماء الكلام والأدب.
وللوهلة الأولى، كقارئ، شعرت بنوع من الغبن لمجيء ذكر ابن رشد في هذا الموضع المتأخر من الكتاب الصادر عن المجلس القومي للترجمة بالقاهرة، ربما لعلمي بأهمية الدور الذي لعبه ابن رشد في الثقافتين العربية والغربية على السواء بالرغم ما واجهه تراثه من محاولات النفي والحذف والمحو والتهميش.
لكن المؤرخ والمستشرق مؤلف الكتاب المشار إليه (صدر بالعربية لأول مرة عام 1938) كان قد قصد إلى تقديم سيرة مكثفة لتاريخ الفلسفة الإسلامية التي بدأت تقريبا مع نشأة علم الكلام والمتكلمين، وازدهرت مع حركة الترجمة النشطة في العصر العباسي، واستمرت روافدها حتى الأندلس وصولا إلى زمن الموحدين الذين عاصرهم ابن رشد.
والحقيقة أن الوعي بدور ابن رشد ينبني على أنه لم يكتف بالمسائل العقلية المجردة التي شاعت من خلال شروحه المطولة لأفكار وكتب أرسطو، وقراءته النقدية لأفكار أبرز الفلاسفة المسلمين مثل الكندي والفارابي وابن سينا، بل ولما أضافه خلال تلك الشروح من أفكار تخص المجتمع الذي عاش فيه أيضا. والتي بدا فيها مخلصا للعقل وبشكل صارم وبضمير بحثي وخلقي لا تعوزه الصرامة.
أفكار حديثة سبقت زمنها
وعلى سبيل المثال فمن بين مآثره الفكرية ما يورده دي بور قائلا:
«كثيرا ما انتهز ابن رشد الفرصة لمهاجمة الحكام الجاهلين والمتكلمين المعاديين للثقافة في عصره، ولكن الحياة في ظل دولة أفضل من حياة التوحد، وهو يشكر خصومه لأشياء كثيرة استفادها منهم وهذه محمدة في أخلاقه. يرى ابن رشد أن حياة التوحد لا تثمر صناعات ولا علوما وأن الإنسان يتمتع فيها بأكثر مما اكتسب من قبل، وقد يستطيع أن يصلحه قليلا، ولكن يجب على كل فرد أن يأخذ بنصيب في إسعاد المجموع، بل يجب على النساء أن يقمن بخدمة المجتمع والدولة وقيام الرجال.
وفيلسوفنا في هذا يتابع أفلاطون (وهو لم يعرف سياسة أرسطو)، ويلاحظ بمنتهى سداد الرأي أن الكثير من فقر عصره وبؤسه يرجع إلى أن الرجل يمسك المرأة لنفسه كأنها نبات أو حيوان أليف، لمجرد متاع فانٍ، يمكن أن توجه إليه جميع المطاعن، بدلا من أن يمكنها من المشاركة في إنتاج الثروة المادية والعقلية وفي إنتاج الثروة المادية والعقلية وفي حفظها.
أما في الأخلاق فإن فيلسوفنا يحمل حملة قاسية على مذهب الفقهاء الذين يقولون إن الخير خير لأن الله أمر به، وإن الشر شر لأن الله نهى عنه، فيحالفهم ويقول: إن العمل يكون خيرا أو شرا لذاتهن أو بحكم العقل. والعمل الخلقي هو الذي يصدر فيه الإنسان عن معرفة عقلية وينبغي بالطبع ألا يكون مرجعنا الأخير إلى عقل الفرد بل إلى ما تمليه مصلحة الدولة».
ومن المدهش أن نجد أن ما نادى به فيلسوف الأندلس أو الشارح الأكبر قبل ما يزيد عن ألف عام تقريبا لا زال موضعا للمطالبات به في عصرنا الراهن، خصوصا فيما يتعلق بوضع المرأة في المجتمع والأفكار المتعلقة بالإصلاح الديني.
ولكن أيضا يمكننا أن نفهم سبب اندثار مثل هذا الفكر المتقدم من سيرة ابن رشد الذي أحرقت كتبه، ودفنت أفكاره، وكادت أن تندثر لولا ما ترجم منها إلى العبرية واللاتينية وانتشرت بفضلها في أوروبا العصور الوسطى التي تحققت النهضة بها تدريجيا بفضل الكثير من أفكار ابن رشد.
يرى دي بور أن ابن رشد كان فصل الختام في كتاب فلاسفة المسلمين، وفي عصر النهضة الفلسفية والعقلانية العربية، ولعل هذا ما يجعل ترتيب كتابه منطقيا أيضا. وعلى الرغم من أنه يصفه بأنه لم يكن مبتكرا في أفكاره، لأنه قنع بالفلسفة النظرية وكان له بحكم عصره ومذهبه أن يوفق بين مذهبه وبين الدين والشرع، لكنه بوصف ديبور، مفكر جرئ، منطقي، لا اضطراب في تفكيره.
هموم فكرية لعصر ابن رشد
ولعل ما يشير إليه ديبور يذكرنا بأن ابن رشد وجه الكثير من النقد لعلم الكلام، ووضعه في ثنايا شرحه على أرسطو، إذ هو يستطرد لدمج نقده لعلم الكلام الأشعري داخل نصه الشارح لأرسطو. وهو وإن بدا خروجا عن الموضوع الأصلي وهو شرح أرسطو، لكنه في جوهره تعبير عن اهتمامات ابن رشد بالهموم الفكرية لعصره، ولعلها هي التي وجهته لشرح أرسطو من الأساس.
وفي تقديري إن استعادة ابن رشد في الثقافة العربية بعد قرون أمر على أهميته، له دلالات كبيرة، في الكيفية التي تشق الأفكار التي تبحث عن النور طريقها من العتمة التي قد تتعرض لها بفعل القتل أو الوأد لكي تعود للضوء من جديد، ومن ثم تؤدي دورها الرئيس في تنوير العقل والفكر.
لكن ابن رشد لم يكن قد تعرض للتجاهل أو الاستنكار في الثقافة العربية فقط، بل وفي الثقافة الغربية أيضا، خصوصا خلال فترة العصور الوسطى على يد توما الإكويني، والكنيسة، وهو ما كان له أثره في أن يذكره الشاعر الإيطالي الكبير دانتي في مؤلفه الشهير «الكوميديا الآلهية» واضعا إياه في فئة سكان الجحيم.
لكن تأثير أفكاره التي تخص مقاربته بين الفلسفة والعقيدة من ناحية، وتلك التي نثرها بين سطور شروحه لأفكار أرسطو، امتد إلى الكثير من الفلاسفة والمفكرين ممن كان لهم تأثير كبير في بدء الانتقال من العصور الوسطى الأوروبية الظلامية إلى أنوار النهضة الأوروبية.
ابن رشد في مرايا الفلسفة الغربية
وبين أبرز أساتذة الفلاسفة المعاصرين من الأجيال الجديدة ممن اهتموا بتتبع أثر ابن رشد في مرايا الفلسفة الغربية الحديثة، الدكتور أشرف منصور في كتابه المهم «ابن رشد في مرايا الفلسفة الغربية الحديثة» الصادر عن مؤسسة «مؤمنون بلا حدود للنشر والتوزيع».
وينطلق من توضيح عام عن تأثير ابن رشد (1126- 1198) الذي أثرت فلسفته تأثيرا متواصلا في الفكر الأوروبي منذ بداية القرن الثالث عشر حتى نهاية عصر النهضة أواخر القرن السادس عشر. وكانت الرشدية اللاتينية ورشدية عصر النهضة من مكونات الفكر الأوروبي الأصيلة، وساهمتا في نشأة العقلانية الحديثة. وقد كانت هذه الحقيقة المتعارف عليها منذ كتاب رينان (ابن رشد والرشدية) الذي صدر عام 1852.
في هذه الدراسة الضخمة والمهمة ينطلق الباحث أشرف منصور من تساؤل مؤداه: إذا كانت الرشدية من أهم التيارات الفلسفية المسيطرة في الفكر الأوروبي طول أربعة قرون (من الثالث عشر إلى السادس عشر) فهل من المعقول أن يختفي هذا الأثر تماما بعد هذه الفترة الطويلة؟ لقد كانت الرشدية ملء السمع والبصر في أوربا الوسيطة والنهضوية ومحل مراقبة شديدة وإدانة من السلطات الكنسية طوال تلك الفترة، من تحريمات أسقف باريس إتيين تومبيه للأفكار الرشدية سنة 1277م، ومرورا بقرارات المجمع الكنسي اللاتيراني بقيادة البابا ليو العاشر 1513م، وانتهاء بمصادرة الكنيسة لمؤلفات سيزار الكريمونيني (1550- 1631)؛ أحد أواخر رشديي عصر النهضة.
يحاول أشرف منصور خلال هذه الدراسة الموسعة المهمة اكتشاف أسباب انتهاء «الرشدية» فجأة في القرن السابع عشر بالرغم من الاهتمام الشديد بالرشدية التي تعد أحد مكونات الفكر الأوروبي.
لهذا يقوم بدراسة أفكار كل من سبينوزا (1632- 1677)، ديكارت (1596-1650) ليبنتز (1646-1716)، بيير بابل (1647- 1706) وكانط (1724- 1804) بالإضافة لكل من سليمان ميمون (1753- 1800)، وأخيرا لودفيغ فويرباخ(1804-1782). وسوف يتتبع كل منهم ليس وفق منهج ترتيب زمني، بل وفق الموضوعات والقضايا.
والمنهج الأساسي أو هذه المقارنات كلها من أجل تأكيد ما توصل إليه كسبب رئيس لاختفاء ابن رشد فجأة في القرن السابع عشر، والذي يرى أنه لم يكن يعني أن الفلاسفة الغربيين المحدثين قد كفوا فجأة عن الاهتمام بأفكار ابن رشد، بل كانوا يتعاملون معه بشكل غير معلن، خصوصا وأن أهمهم، وفقا لمنصور، كان رشديا تماما ، وهو سبينوزا.
ولعل أهم مميزات هذا الكتاب المتخصص أنه يقدم تحليلا لتاريخ الفكر الفلسفي الذي أسس عصر النهضة على خلفية فهم وشرح علماء الفلاسفة المسلمين لعلم الكلام ثم لفلسفة أرسطو، وخصوصا الفارابي وابن سينا ثم ابن رشد بشكل بارز.
وبالتالي فهو يتضمن أهم أفكار ابن رشد ليس بشكل تاريخي، ولكن وفق توافق وتعارض أفكار الفلاسفة الغربيين الذين تضمنهم الدراسة، والذين أشرت إليهم فيما سبق. ولذلك يمكن فهم الكثير من أفكار ابن رشد من خلال هذا الكتاب، وخصوصا موقفه النقدي من المتكلمين من جهة، ونظريته حول العقل التي تعد بين الأفكار البارزة للجدل لدى كل ما اهتم بالمدرسة الرشدية.
سبينوزا وإخفاء أثر ابن رشد
حين يقوم منصور بقراءة تحليلية لأفكار الفلاسفة الغربيين لا يقدم مقارنة بين أصول تلك الأفكار لدى ابن رشد فقط، بل وفي أفكار ابن سينا أيضا والفارابي في بعض الأحيان، وهو ما يجعل منه مرجعا مهما في تقصي أثر الفلاسفة المسلمين على الفلسفة الغربية وبالتالي على الفكر الغربي كله منذ عصر النهضة وحتى بدايات الفلسفة الحديثة.
لكن السؤال المهم حول أسباب محاولات المفكرين الغربيين في القرن السادس عشر محو أثر فكر الفلاسفة المسلمين، أو بافتراض حسن النية، عدم الإشارة إليهم، هو ما يتوصل إليه الدكتور أشرف منصور، في ختام تتبعه لأفكار سبينوزا بشكل خاص، باعتبار أن أفكار سبينوزا، من جهة أخرى تعد أحد المصادر الرئيسة لأفكار فلاسفة عصر التنوير لاحقا، إن اتفاقا أو نقدا واختلافا.
يقول منصور:
«لقد تم إغفال المصادر الإسلامية لفلسفة سبينوزا من قبل الباحثين الغربيين عن عمد وإصرار، ما عدا القلة القليلة منهم، وفي المقابل تم إعلاء قيمة المصادر اليهودية، وعلى رأسها ابن ميمون وحسداي كريسكاس، ولم يكن الباحثون الذين درسوا مصادره اليهودية على وعي بأن هذه المصادر ليست مصاردر نهائية على الحقيقة، بل هي مجرد استمرار للمناقشات الفلسفية الإسلامية حول قدم العالم والعلم الإلهي وطبيعة النفس الإنسانية وتم التغافل عن الأصول الإسلامية للفلسفة اليهودية نفسها، ومن ثم غابت النظرة على فلسفة اليهود باعتبارها امتدادا للفلسفة الإسلامية. وبناء على كل ذلك تم التغافل عن الأصول الرشدية لفلسفة سبينوزا وعن السياقات الإسلامية الأصلية للمشكلات الفلسفية التي تواصل معها سبينوزا».
والحقيقة أن الدكتور أشرف منصور حلال تناوله لأفكار سبينوزا قدم محاولة منهجية لإثبات أن فلسفة سبينوزا في موضوعات أساسية مثل الوجود والضرورة والأزلية لا يمكن فهمها الفهم الصحيح والكامل إلا بوضعها على خلفية النقاشات الفلسفية الإسلامية حول الواجب والممكن وتقسيماتهما الفرعية، وهي النقاشات التي كانت موضعا لنزاع الغزالي مع ابن سينا، وابن رشد مع ابن سينا والغزالي معا. وفي موضع لاحق يشير إلى أنه بعد دراسة أفكار سبينوزا يبدو له أن ابن رشد كان قد سبق وأن شرح هذه الأفكار مسبقا! وهي مفارقة يقصد بها أن سبينوزا وفقا لأبرز أفكاره يعد رشديا صميما.
وبين ما يلفت الانتباه في ثنايا الكتاب الذي يضم في هوامشه عشرات الإشارات إلى نصوص ابن رشد، ولكن الكثير منها متاح في اللغات الأجنبية التي نقلتها عن الترجمات اللاتينية أو العبرية، بينما كانت النصوص العربية الأصلية قد أحرقت بين ما أحرق وأعدم من كتبه، وهناك بالتالي عدد من محاولات منصور نفسه لترجمة النصوص التي يشير إليها للعربية لأنها لم تترجم للعربية بعد!
وعلى سبيل المثال يشير منصور في هامش من هوامش الكتاب (ص160) : «كانت هذه المقالة من بين المقالات التسع التي ضمتها مجموعة عبرية بعنوان (مسائل في العلم الطبيعي) وقد ترجمت هذه المجموعة إلى الإنجليزية هيلين تونيك غولدشتاين. وكانت المقالة المذكورة هي الثالثة في ترتيب هذه المجموعة، وقد اعتمدنا عليها. لقد ترجمنا الترجمة الإنجليزية على العربية، ومن ثم كل استشهاداتنا من هذه المقالة ليس نص كلام ابن رشد المفقود في أصله العربي وهذه هي الضريبة التي يدفعها الباحث العربي من جراء ما تعرضت له مؤلفات ابن رشد من حرق وإبادة في ديار المسلمين».
ولعل في هذه الإشارة الدالة ما يجعلنا نأمل أن نتنبه مؤسساتنا الثقافية والأكاديمية العربية إلى مثل هذه الظاهرة والعمل على ترجمة الأعمال التي فقدت أصولها العربية بحيث تتوفر للباحثين والدارسين وحتى للقراء المهتمين لدورها المهم أيضا في كشف طبيعة المحاولات والجهود الرائدة للفكر الإسلامي العربي، واهتمام نخبته ومثقفيه المبكرة بالفلسفة لليقين في دورها في النهضة والتطور والعقلانية، ودور هذا الفكر العربي الإسلامي في النهضة الفكرية في العالم.
إبراهيم فرغلي روائي وصحفي مصري.