ثنائية الموت والصحراء في مجموعة «وجه رجل ميت» لأحمد الحجري
« يا سيدتي، كل القصص إذا ما امتدت بما فيه الكفاية، سوف تنتهي بالموت، ومن يخفي عنكِ هذه الحقيقة هو راوي قصص مزيف»
موت في الظهيرة
أرنست هيمنجواي
يبدأ الكاتب أحمد الحجري مشواره الإبداعي بمجموعة قصصية، عنوانها ( وجه رجل ميت، وقصص أخرى)، التي صدرت في2020، عن الجمعية العُمانيّة للكتاب والأدباء، والآن ناشرون وموزعون (عمّان / الأردن). وحصلت هذه المجموعة على أفضل إصدار قصصي في مسابقة جمعية الكتاب العمانية 2022م. ضمّت المجموعة بين دفتيها تسعة نصوص ( مقبرة الحكمة، من حكايات الصحراء، تراجيديا المطبات، وجه رجل ميت، الانتقام، لم يكن في الحقيقة مجرد خيال، النوم المستحيل، العش، حين تموت النخيل).
ومن الملاحظ أن زمن كتابة هذه المجموعة ( من خلال التواريخ الموضوعة في نهاية بعض القصص) من 2007 إلى 2019م. فارق زمن طويل، تفاوتت من خلاله فنية ونضج كل نص داخل المجموعة، إلا أن القاص يجيب عن هذا الجانب في حوار صحفي سابق، حيث يقول: لا لست مستعجلا على شيء، متى ما حان وقت للقصة أن تزهر ثم تثمر فسأقطف ثمرتها في وقتها المحدد، لقد احتجت إلى خمس سنوات حتى كتبت قصة «مقبرة الحكمة»، وكانت في ذهني تتخمر، وتطبخ على نار هادئة مثل حساء الكولاجين الطبيعي».* (جريدة عمان 7 فبراير 2023).
سنقترب من عوالم هذه المجموعة وثيماتها، من خلال الأساليب السردية التي استخدمها القاص داخل المجموعة، وكذلك قراءة حضور المكان في النصوص، وتنوّعه، ورسم الشخوص وتفاعلهم في فضاءات النصوص، وتقصي حضور ثيمة الموت والصحراء في جوهر هذه النصوص سواء كان الحضور مباشرا أم رمزيا.
فخ العتبة الأولى
من خلال قراءة عنوان المجموعة ومحاولة فهم الدلالة في العتبة الأولى لباب المجموعة، نرى ونقرأ الموت من العنوان، ( نقرأ الموت كصفة لوجه الرجل دون أن يكون الموت فاعلا في العنوان، لكنه سيكون فاعلا ومتفاعلا داخل النصوص، ونراه في لوحة الغلاف للفنانة السورية: تولين بعلبكي)، العنوان الذي يصدم أي قارئ، ( وجه رجل ميت). يمكننا أن نستشف جانبا من عوالم المجموعة وفضاءات السرد. ونطرح أول سؤال: لماذا اختار الكاتب الموت في أول عتبة للمجموعة ( في أول رحلة له في درب الكتابة الإبداعية)؟ ماذا لو اختار الحياة؟ أم إن الموت الذي دسه القاص في عنوان مجموعته تختبئ خلفه عوالم حية ونابضة بحركة الشخصيات؟ وهل يمكننا كذلك أن نضع احتمالا متخيلا بأن القاص ينصب للقارئ فخا سرديا، عليه ألا يقع فيه/ عليه، بأن الحياة هي المحرك لعوالم قصصه، رغم حضور الموت المُكثف داخل النصوص؟
« سقط وجهه على الأرض، وتهشم الزجاج المحيط به، لكنه سرعان ما أعاده إلى مكانه بين يديه، وعاد لتمعنه بعينين فاحصتين: « أولئك الزوار الأغبياء المتكدسون على وجهي مثل حبات الغبار....» ص37
هل الحياة لا تتناسب مع ثيمات وفضاء النصوص؟ وماذا لو استبدل كلمة رجل بامرأة أو ليكون أشمل، لو عنون المجموعة وجه إنسان ميت؟ هل ستختلف الدلالة؟ وعلينا أن نتساءل كذلك، لماذا اختار القاص الوجه دون أي جزء آخر من جسم الإنسان؟ كأن يختار اليد أو القدم أو الرأس؟ أم لأن الوجه يحمل كل تعابير ومشاعر الإنسان وأحاسيسه الداخلية، وتطفو كل العوالم النفسية على ملامح الوجه؟ سيقول لك قارئ ما: لكن هذا الوجه الذي اختاره القاص (بعناية وذكاء فني) وجه رجل ميت لا يمكنه حمل أي مشاعر أو أحاسيس يمكن للمتلقي أن يتفاعل معها، بل على العكس من ذلك سيهرب خوفا ورعبا من هذا الوجه، وهل لأن وجه الرجل الميت محايد؟ ولا يمكن أن نقرأ أي تعبير أو دلالة منه، أو ربما يمكننا أن نضع على تفاصيله أي حكاية، أو نستطيع النبش في ماضي هذا الوجه الميت؟
في كل الأحوال، علينا أن نترك التساؤلات السابقة لكل قارئ يقترب من مجموعة أحمد الحجري، ونضع فرضية بأن أحمد الحجري يبحث عن قارئ خاص، قارئ يتفاعل، وينصدم بعوالم النصوص، وليس فقط يتلقى لذة النص بكل كسل، فنصوص هذه المجموعة مكثّفة بالدلالات والإيحاءات والرمزية.
*** *** ***
ورغم كل هذا الغموض الظاهر من عنوان المجموعة، إلا أن العنوان كوّن وخلق في داخله أو بين أطرافه تضادية بين الوجه الذي يصنع في مخيلتنا الحياة وبين لفظ «ميت». ومن خلال هذا الوجه، وهذا الموت الخفي تكونت عوالم وثيمات هذه المجموعة، وتصاعدت أحداث النصوص.
يهدي القاص مجموعته القصصية ( وباكورة أعماله الإبداعية) إلى قريته الحوية، التي تحيط بها الصحراء. « إلى قريتي، قرية الحوية الساكنة في كنف الرمال، منبع الإلهام والأحلام والحكايات». ومن عتبة الإهداء يمكننا أن نشم رائحة الصحراء في أجواء المجموعة، وكذلك ربط ثيمات النصوص بأحلام وحكايات وإلهام القرية النائمة على كتف الرمال، إذا من عتبة العنوان صادفنا الموت، ومن عتبة الإهداء تدحرجت علينا الصحراء.
ثنائية الصحراء/ الموت
تحضر الصحراء في هذه المجموعة بشكل مكثّف، وبدلالات مختلفة، وبألفاظ متنوعة، تلعب أدوارا متعددة داخل النصوص، وليست كأثاث للنص، ولأن هذه المجموعة هي الأولى للقاص، فمن الطبيعي أن يكون الحضور بهذا الكثافة، حيث قريته الحوية التي تنام في كنف الرمال، وطفولته الأولى. ولكي يواجه القاص الصحراء وغموضها وقسوتها ذهب إليها عن طريق السرد، اخترق جوهرها وامتدادها بإبرة القص. سنتتبع ثنائية الصحراء والموت في نصين من المجموعة نص (مقبرة الحكمة) ونص (من حكايات الصحراء)، كمثالين بارزين على هذه الثيمة، رغم حضور هذه الثنائية في أكثر من نص داخل المجموعة.
ففي النص الأول من المجموعة « مقبرة الحكمة » والذي يتكون من ثلاث دوائر/ أطر سردية في نص واحد، حيث تتجمع هذه الدوائر السردية للحكاية في مكان واحد، وهو المغارة داخل الجبل، وشخصية مرجعية؛ وهي العجوز الشمطاء، وفكرة عميقة جدا، وهي رحلة البحث عن المعرفة.
نشم في هذا النص رائحة ألف ليلة وليلة، من حيث الأسلوب السردي الذي اتبعه القاص، ومن حيث الغرائبية التي استخدمها القاص في طرحه لفكرته، ففي ألف ليلة وليلة كانت شهرزاد تواجه الموت بسلاح الحكاية، وفي نص أحمد الحجري يواجه أبطال النص الموت بالقراءة.
حيث نقرأ عن زوج العجوز الشمطاء التي حبسته، لكي يقرأ فقط:
«لم أستسغ كلامها قط. لكن تصرفاتها بدأت تخيفني فعلا، إنها تطالبني بالقراءة والبحث أكثر من أي وقت مضى. بل إنها تنفعل حين أخرج من مكتبتي. تُفضّل أن أكون حبيس الكتب طيلة الوقت. أشعر بأنني محبوس هنا وزوجتي هي حارسة السجن؛ لأنها تُغلق عليّ الباب خشية أن أهرب منها». ص12.
هذا ما نجده في الدائرة الأولى من الحكاية، أما إذا ما ذهبنا إلى الدائرة الثانية، سنجد هذا الحوار بين العجوز الشمطاء والرجل الذي حبسته داخل المغارة:
أنا: « ماذا تريدين مني بالضبط»؟
هي: « أن تقرأ أكبر قدر من الكتب».
أنا: « لكن لماذا؟».
هي: « حين يحين الوقت ستعرف بنفسك».
أنا: « إذن سأتوقف عن قراءة هذه الكتب التي تحضرينها لي ».
هي: « تأكد تماما من أنك إن توقفت عن قراءة الكتب فستكون نهايتك وشيكة!». ص13
نُلاحظ من خلال الحوار السابق تعالق فكرة القاص في هذا النص مع الفكرة الكلية لكتاب ألف ليلة وليلة. حيث التوقف عن القراءة يعني الموت، وفي «الليالي العربية» التوقف عن الحكي يعني قتل شهرزاد. وكذلك الغموض، الذي يلف نوايا هذه المرأة التي حبست زوجها، وكذلك الرجل الذي كتب يومياته داخل المغارة. يقول الرجل الذي كتب يومياته: « في القراءة أنا أنقّب عن المعرفة، وهنا أنا أنقب عن منفذ. في الحالتين أنا أنقب عن حياة، لذا سأظل أنقّب حتى أصل إلى مرادي، ويبدو أنه صار وشيكا». ص15
« أتنفس الغضب، وأفكّر كثيرا في الموت» ص15
إذن الموت حاضر في هذا النص، بشكل ظاهر وجلي، أو بشكل المضمر، بل إن الفضاء السردي للنص يحوم حول الموت بدلالات وألفاظ مختلفة من «الظلمة الحالكة التي تنفث سوادا قاتما في أرجاء المكان» ص9، إلى الجماجم والعظام والأشلاء في نهاية النص. والصحراء كذلك حاضرة بشكل خفي وظاهر. هناك خلف الجبل، كان المشهد ساحرا: شطآن الرمال تضرب بأمواجها في سفح الجبل الأخير من السلسلة، واللون الأصفر للرمال يمتزج باللون البني الغامق لصخور متناثرة في أسفل السفح. ص17، وكأن الصحراء كانت المنقذ لشخوص الإطار/ الدائرة الثالثة للحكاية، عندما خرجوا من المغارة، وذهبوا إلى الصحراء.
يمكننا أن نقول الكثير عن دهشة هذا النص، والأزمنة المختلفة داخل النص، لكننا فقط نريد أن نتلمس حضور الموت والصحراء، وكيف أن الحكاية التي نسجها الحجري خففت من وحشة الموت وقسوة الصحراء.
وإذا كانت الصحراء هي المنقذ من الموت في النص الأول، فإنها في النص الثاني هي الشاهدة على الموت، وفي هذا النص « من حكايات الصحراء» تتجلى ثنائية الصحراء والموت بشكل جلي، استطاع القاص أنسنة الصحراء، وتحويل دلالاتها من الموت والجفاف والتيه والغياب إلى دلالة أخرى مختلفة، لها مشاعرها وألمها الخاص. « انغرستُ أشعة الشمس في جسدي المتثاقل. تثاءبتُ فانهال التراب من كتفي العريضتين. فتحتُ عيني وغبشُ ضباب يحيط بهالتهما. ص21، تمددت الصحراء في جسد النص، وحضر الموت بشكل الرمزي ( احتراق جذع الشجرة).
هذه الصحراء الموحشة والمتوحشة لم تجد من يخفف غربتها ووحشتها سوى شجرة (غاف)، تحطُّ عليها العصافير. فكانت سعيدة بالشجرة وما لها من دلالات بالحياة والوجود. لكن الحدث وتصاعده لن يتوقف بل يتصاعد عندما يقترب البشر من الشجرة، ووجود البشر هنا له دلالة الموت ( سيتضح من خلال أحداث القصة). وجود البشر في الصحراء وبالقرب من الشجرة مثّل فعل الموت/ الشر/التدمير.
« كأن قنبلة محمّلة بكل ذلك انفجرت هنا، لكن ما أفزعني أكثر نفثات من الدخان المتصاعد أعلى ساقها. أيعقل أنهم نسوا إطفاء الجمر الذي أعدّوا للشواء؟ هالني المنظر بعدما رأيت ألسنة اللهب تمزّق أحشاءها» ص22.
تتفاعل الصحراء الصامتة هنا أمام فعل الموت ( الذي قام به البشر، في حق الشجرة)، لم يكن التفاعل ظاهريا فقط، بل بكل المشاعر التي تجسدت من شعور وأحاسيس الصحراء». حاولت أن أتزحزح من مكاني فتساقط جزء من جسدي، وتلوّت أحشائي ألما وهزت الآفاق صرخاتي المدوية». ص22.
لم يتوقف هذا التضامن على المشاعر والشعور بألم من احتراق الشجرة، بل كانت تنادي الريح لتساعدها في إطفاء حريق الشجرة. ونادت بأعلى صوتها. « ليتني أستطيع أن أتحرك من مكاني لأصل إليها وأطفئ نارها المتوهجة برمالي الناعمة، أين أنتِ أيتها الرياح لتحمليني إليها؟ إن آلامها تزيد حسرتي وتساقط أغصانها يفجر لوعتي» ص22.
ما يهمنا في هذا النص هو تتبع موقف الصحراء من فعل الموت ( حريق الشجرة)، وموقفها من الشجرة، وما تمثله من حياة ووجود، وهو ما يمثل (كذلك) في جوهره نقيض دلالة الصحراء. رأينا كيف تفاعلت الشجرة بكل حواسها ومشاعرها ولوعتها مع فعل الموت، وأما موقفها من الشجرة فهو عشق أبدي ليس لأن الشجرة تمثل نقيض الموت فقط، بل لأنها المؤنس والرفيق الوحيد لوحدة وعزلة الصحراء.
« يعتريني إحساس مرهف كلّما أبصرتها. ينتفض جسدي وأنا أرى الغربان تحطّ على أغصانها .أتشظى وأتنشج وينثال الرمل مني ما دام النسيم يراقص أوراقها الخضراء. قلبي الرملي يهفو إليها كلّما حل المساء». ص23، في نهاية النص نجد أن القاص وظّف لغة مختلفة، عن لغته وهو يوصف لنا تفاعل الصحراء مع الموت، هنا لغة شفاف سلسة، لغة العشاق، فالشجرة ليست فقط من مكونات الصحراء، بل تمثل لها أعمق من لك، وهذا الـسرد التأملي للصحراء والعشق لا ينبع إلا من روح عاشقة ومنصهرة مع روح الصحراء كروح أحمد الحجري.
ونجد كذلك هذه الثنائية تظهر بصورة مختلفة وبدلالات متعددة في نصي ( الانتقام، وحين تموت النخيل)، ففعل الموت ظاهر في الخطاب السردي للنصين، وفي فضاءاتهما. في الختام يمكن أن نقول إن أحمد الحجري استطاع بأدواته السردية ووعيه الثقافي والفني بفن القصة القصيرة أن يصدر مجموعة قصصية محكمة البناء وبلغة سردية صافية بعيدة عن المباشرة، وأن يختار عالمه السردي القريب من دهشة وغموض الصحراء.
حمود سعود كاتب عماني