«ثلاثية أسلافنا» لـ إيتالو كالفينو.. نموذج لاكتشاف هوية الحاضر في مرايا الماضي
لا شك أن اسم الكاتب الإيطالي إيتالو كالفينو (1923-1985) معروف بشكل كبير في العالم العربي، خصوصا بين المثقفين والقراء المهتمين بالأدب العالمي والمترجم، ومع ذلك فلا شك أيضا، ومع الأسف، أن ترجمة الكثير من أعماله للغة العربية لم تنجز إلا في وقت متأخر مقارنة بزمن كتابتها، وبينها روايته الجميلة «لو أن مسافرا في ليلة شتاء»، ومذكراته «يوميات ناسك في باريس»، وكتابه الشهير مدن لا مرئية، وأيضا محاضراته التي قدمها في إحدى الجامعات الأمريكية والتي صدرت ترجمتها عن الإنجليزية في الكويت عن المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب. وصدرت بعنوان «ست وصايا للألفية القادمة» من ترجمة محمد الأسعد.
ومن المدهش أن بعض أعماله الكلاسيكية مثل «ثلاثية أسلافنا»، والتي كانت من أكثر كتبه مبيعا في إيطاليا في الخمسينيات لم تترجم إلى اللغة العربية، إلا قبل سنوات قليلة عن سلسلة الجوائز في الهيئة المصرية العامة للكتاب.
وأقول: مدهش لأن كاتبا مثل كالفينو يمنح كتاباته العمق والدهشة، مما يجعل من كل كتاب من كتبه مفاجأة جديدة.
وسوف أقتصر في هذا المقال على هذه الثلاثية لأنها في تقديري نموذج مهم بين أعمال كاتب طليعي وغير تقليدي، قدم فيها شكلا مختلفا للرواية التاريخية يجمع بين الواقعية التاريخية وبين الواقعية السحرية، وفي وقت مبكر، من جهة، وقدم من خلالها نوعا من محاولات نقد الواقع المعاصر في ضوء اللجوء للتاريخ، مع حفاظه على السمات الرئيسة له مثل الحس الساخر وإحياء الموروث الشعبي، وتأكيد الطابع غير التقليدي للسرد، ودقة الوصف، والاهتمام بالقص، بمعنى الحبكة أو تتابع الأحداث، إضافة إلى اتساع موضوعها ليشمل سؤالا عالميا حول قضايا مثل الفردية والهوية، وهي بين أسئلة هذا الزمن الراهن بامتياز.
انشطار الكائن البشري
ثلاثية أسلافنا، بدأها كالفينو برواية «الفيسكونت المشطور»، التي صدرت ترجمتها العربية في نفس السلسلة عام 2006، وللمترجمة نفسها أيضا، وبطلها هو فيسكونت تيرالبا من عائلة عريقة في جنوة الإيطالية، وكان قد تولى حكم المقاطعة، وخاض في الأثناء حربا أصيب خلالها بقذيفة مباشرة شطرته إلى نصفين فعاد لمقاطعته وقد فقد نصفه، وصار يمارس صنوف الظلم والشر في حق رعاياه، لنتبين أن الذي نجا كان نصفه الشرير، وسيدرك القارئ أن النصف الآخر المشطور، هو النصف الطيب، الذي سيبحث كل منهما عن الآخر على امتداد الرواية.
وفي هذه الشخصية المنشطرة ركز كالفينو الضوء على فكرة ازدواجية الكائن البشري بشكل عام، التي تعد سمة ونقيصة في الوقت نفسه. الكائن البشري الذي يفقد القيم الإيجابية ويتمسك بقيم الشر والسلبية.
في رواية الفيسكونت المشطور يأخذنا الكاتب الإيطالي إيتالو كالفينو إلى حرب الفيسكونت ضد الأتراك، ويرصد لنا مظاهر الحرب، وهي منطقة من مناطق براعته التي يتناولها بتفاصيل مدهشة، وسوف نرى ذلك بشكل أكثر تفصيلا ودقة في الجزء الثالث «فارس لا وجود له»، أما هنا في الجزء الأول فسوف نرى موت الجياد ثم الفرسان، تحول طيور اللقلق والبجع والنعام إلى طيور جارحة؛ لأنها أضحت آكلة للحوم البشر؛ بسبب المجاعات التي قضت على الأخضر واليابس، وكذلك الجفاف الذي ضرب البلاد.
اختفت جميع النسور والغربان. الطاعون الضارب للكل، الجثث الظاهرة والساقطة على التراب أطراف، أصابع، أرجل. كل ذلك ليضعنا في قلب المعركة في قلب الحرب، ويتركنا مع الراوي؛ وهو الطفل الصغير صاحب الثماني سنوات، فخاله هو الفسكونت مداردو ذاك الذي شطر إثر إصابته في الحرب.
أيعقل أن يُشطر إنسان لنصفين متساويين، فلا يتبقى منه سوى ذراع واحد، قدم واحدة، عين، وأذن، ونصف ذقن، ونصف جبهة، أي لم يتبق سوى نصفه الأيمن فقط.
وأين ذهب النصف الأيسر؟ وهل سيبقى مداردو الآن حيا مشطورا؟ وإن بقي مشطورا فهل سيظل كسابق عهده؟ أم لعله سيتغير؟ وإن حدث ذلك فكيف؟ وإلى أين سيصل به التغيير؟
كأن كالفينو هنا يريد أن يسأل سؤالا إنسانيا أكبر: هل تغيرنا الحرب؟ هل تخرج أسوأ ما فينا أم نحن بالأصل كتل شريرة، ولسنا بحاجة إلى انشطار نصفي كي ننشر قوى الشر في العالم المحيط بنا؟
يجسد كالفينو إذن انشطار الكائن البشري ليرينا جانب الشر فيه مجردا، الوجه المعتم للكائن البشري. الذي قد يخفيه البعض خلف ابتسامة، أو قد لا يمكن لهم حتى إلا أن يظهروه جليا.
فالفيسكونت يخرج مخفيا نصفه المختفي بعباءة، ويبدأ سلسلة من الأحكام الإجرامية تبدأ بأحكام الإعدام شنقا، وتدبير فخاخ للإيقاع ببعض أفراد العائلة، أو إشعال الحرائق في الغابات ومزارع الريفيين. شر نقي خالص لوجه الأذى. فمن أين تنبت هذه الجذور الشيطانية في نفوس البشر؟
كل تلك الأسئلة تتشكل من بين الأحداث وتغدو أسئلتنا الخاصة على امتداد قراءة النص. وبطبيعة الحال؛ الرواية ستقدم بشكل غير تقليدي كيف أن «نصف إنسان»، حتى لو كان مثاليا لا يمكن أن يحقق معنى الإنسانية الكاملة، وكذلك النصف الشرير لا يمكنه إقناع حتى نفسه بأنه ينفذ العدل كما قد يزعم، أي أنه لا العالم ولا الإنسانية يستقيمان بادعاء المثالية أو حتى بانتهاجها، ولا بتوسل الشر الخالص. لأن الإنسان مجبول على مستوى آخر أكثر تركيبا يجمع بين الاثنين والإنسانية هي محصلة الصراع بين الجانبين.
لهذا قدم محاولته الثانية في «البارون ساكن الأشجار»، مع ذلك الذي يحقق اكتماله بخضوعه بمحض إرادته لنظام شاق وصارم».
البحث عن الإنسان الكامل
هل يمكن أن يقضي المرء حياته ساكنا فروع الشجر؟ وحياته هذه كم تعني من عمر الزمن؟ في الإجابة عن هذا السؤال يقدم الروائي الإيطالي المتفرد إيتالو كالفينو في روايته «البارون ساكن الأشجار» - وصدرت عن سلسلة الجوائز في الهيئة المصرية العامة للكتاب، ومن ترجمة د.أماني فوزي حبشي- درسا في كتابة الرواية، وآخر في النقد الذاتي للمجتمع الأوروبي المعاصر، متعمقا في بحث فكرة الفردية في الغرب، وتعميقها بشكل فني لافت للانتباه.
يتضمن النص من البداية فكرة طريفة، يحتار القارئ كيف سيتمكن الكاتب من تمريرها على امتداد النص، وتتعلق ببارون مراهق يثور على أبيه الإقطاعي بعد خلاف في نقاش دار بينهما، فيقرر أن يمد خط تمرده على امتداده، ويعيش خارج سطوته وأملاكه، فأين يقرر أن يعيش؟
أعلى الأشجار، فهي بالنسبة إليه لا تقع على أي أرض، ولا يمكن بالتالي اعتبارها مكانا يخضع لسلطة أي أحد. وهذا ما سيحقق له بالتالي «الحرية» بكامل معناها، والقيمة الحقيقية للتمرد.
ولعله من المناسب هنا الإشارة إلى أن الكتاب هو الجزء الثاني من «ثلاثية أسلافنا»، وللمترجمة نفسها أيضا.
اختار كالفينو بلدا مغطى بالأشجار في فترة التحول بين القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، هي أمبروزا، وفيها قرر البارون «كوزيمو دو روندو» الخروج من قصر أبيه بكل ما يعنيه هذا التخلي عن سلطة أبيه وعن انتمائه الطبقي ليعيش أعلى الأشجار.
وبينما تبدو الحكاية في بدايتها أقرب لحكايات الأطفال، إلا أننا سرعان ما نستغرق فيها ونتوحد مع بطلها الذي يتطور عقليا ويكتسب مهارات الحياة على الأشجار يوما بعد يوم، وعلى امتداد الرواية الواقعة في أكثر من 300 صفحة يظن القارئ أن البارون سيستسلم، سواء بسبب قسوة الطبيعة أو سوء التغذية أو إرهاق الحياة الشاقة، أو البحث عن سكن ملائم في طبيعة غير مناسبة لحياة البشر، ولكن يبدو البطل قادرا دائما على التكيف والإبداع، لأنه كان حقيقيا جدا في رغبته في التمرد، وحقيقيا جدا في فهمه لقيمة الفرد، والمعنى الحقيقي للفردية، ورفضه لكل مظاهر الرياء الاجتماعي والأخلاقي في المجتمع.
التزم ساكن الأشجار بالقراءة فأصبحت المعرفة هي وسيلته لتكوين قيمه، والتحايل على كل ما قد يعطل حياته الفردية ككائن يعيش على فروع الأشجار، بل إنه يقنع أحد عتاة المجرمين أن يقرأ، فيتحول من كائن لآخر تماما، وتتغير كل القيم التي كان يؤمن بها، وفقد كل ما حوله الأهمية.
وباستثناء مغامراته التي كان يتعرض لها بالصدفة، ويخوضها للنهاية، سواء في مراوغة لصوص الأشجار، أو مغازلة الفتاة (فيولا) التي وقع في غرامها، كاشفا اندفاعها ومخاطراتها تجاه العدم بالتضاد مع الحسم التنويري بتعبير المؤلف. فإنه سرعان ما كان يعود للكتب التي كان شقيقه الراوي يزوده بها في مقامه أعلى الأشجار.
لكن هذه المغامرات هي كلها نتاج تفاعله كفرد يبحث عن إنسانيته مع نماذج بشرية خارج أسوار المحيط الأرستقراطي الغارق في قيم البورجوازية، والتي ما كان له أن يعرفها لو ظل يعيش في قصره.
ما يلفت الراوي، وهو شقيق البطل، والذي سمح له وحده أن يلتقي به على فروع الأشجار، الانتباه إليه هو أن وجود كوزومو في أعلى الأشجار منحه الفرصة للاطلاع على العالم من أعلى، ورؤيته من موقع المراقب ما يتيح له أن يرى حقائق عديدة عن الزيف والشر، أن يرى البشر بصورة علوية ومجردة، على حقيقتهم.
البراعة التي يتحلى بها إيتالو كالفينو اتسمت في الكيفية التي حقق بها المزج بين فكرة تبدو غرائبية لكنها مقنعة تماما كأنها تنتمي للواقعية، إذ أن حياة البارون تستمر على الأشجار حتى بعد أن يصبح شيخا في الخامسة والسبعين، ولكنه يرفض الامتثال لشقيقه الذي يحاول إقناعه بالعودة للأرض بعد أثبت كل ما أراد إثباته.
وهذه هي القيمة الجوهرية ربما لموضوع الفردية التي تتجلى لنا عبر شواهد عديدة كيف يساء فهمها على نحو مغاير تماما، في عالمنا العربي الذي يستعير الأفكار عادة وغالبا من دون فهم، بل وربما يقدم النص نقدا للفردية التي لم تتمكن من مواجهة قيم الرأسمالية.
ثم يعود كالفينو في الرواية الثالثة إلى أجواء الحرب مرة أخرى، فاستكمالا لثلاثيته البديعة «أسلافنا» كتب الروائي الإيطالي رواية «فارس لا وجود له» التي صدرت ترجمتها العربية أيضا عن سلسلة الجوائز في الهيئة المصرية العامة للكتاب، للمترجمة أماني فوزي حبشي.
يستمر كالفينو في هذه الرواية تأمل فكرة الفردية من جهة، والبحث، تاليا، عن نموذج الإنسان الكامل؛ مقدما نقدا غير مباشر للمجتمع الغربي الحديث، وربما للمجتمعات المعاصرة بشكل عام، من خلال افتراض شخصية عسكرية في العصور الوسطى، واحد من فرسان جيش الملك الفرنسي شارلمان، يتسم بالقوة والمعرفة والدقة، وبالمهارات الحربية المتميزة، وحتى بأدق تفاصيل كل ما يتعلق برعاية خيول المحاربين، وتوفير مؤونة الطعام للمطبخ العسكري.
إنه، أجيلولفو، أو باختصار: الرجل الكامل في معسكر القتال الغربي في مواجهة المعسكر التركي، لكنه في الوقت نفسه كينونة ترتبط بالترسانة المسلحة التي تغطيه من قمة الرأس للقدمين، فإذا فتحت تلك النافذة التي تعد جزءا من خوذات الفرسان الواقية فلن تجد أحدا. لا شيء سوى الفراغ. فهذا فارس لا وجود له، كما يعلن هو بنفسه للملك شارلمان قائد الجيوش، حينما جاء للملك صوته المعدني من خلف خوذة الرأس وحين فتحها وجدها خالية!
وإن كان وجوده في الواقع ماثلا وراسخا وأصيلا! فوجوده يتحقق كما أعلن أيضا بنفسه يتحقق بقوة الإرادة وبالإيمان بالقضية المقدسة.
وهنا يمكن أن نتأمل وجوده كشخص يمتلك الوعي، ولكنه ليس موجودا، مقابل العشرات أو المئات ممن يمتلكون وجودا فارغا لأنهم بلا وعي، والنموذج الذي يمثلهم في النص هو حامل الترس جوردولو، الذي عيّنه شارلمان ليصحب الفارس أجيلولفو (الفارس بلا وجود). ويمكن أن نفهم مستوى وعي «جوردولو»، غريب الأطوار، من فقرة دالة يصفه الراوي قائلا: «كان يضع لرأسه داخل الطبق الموضوع على الأرض كأنه يرغب في أن يضع نفسه بداخله. ذهب البستاني الطيب ليهزه من كتفه وهو يقول: متى ستفهم أنك أنت الذي يجب أن يأكل الحساء وليس الحساء هو الذي يجب أن يأكلك ألا تتذكر؟ يجب أن ترفعه إلى فمك بالملعقة».
سؤال الحداثة
ما يلفت الانتباه في هذا النص، مثلما هو الأمر في الروايتين السابقتين «الفيسكونت المشطور» و«البارون ساكن الأشجار»، هو الطابع الحداثي جدا في تجربة كالفينو السردية رغم أن النص كُتب في نهاية الخمسينات. فهو يفاجئ القارئ أولا بالراوي الذي سنكتشف بعد وهلة من القراءة أنها راهبة تعيش في دير قريب من الأحداث، لكنها بعيدة أيضا عن تلك الحياة التي تصفها بدقة لأنها مكلفة بكتابتها! ولننتظر للنهاية حتى نرى مفاجأة أخرى تخص هذه الراهبة الراوية.
بالإضافة إلى لمسة الواقعية السحرية التي تتمثل في الفكرة الرئيسة الغريبة في كل رواية منها، ومع ذلك فهو يبني عليها واقعا لا يمكن للقارئ إلا أن يصدقه.
لكن هذا يأتي كله في إطار اهتمام كالفينو بالمعمار الروائي، المعمار الذي يشيد به أفكارا فلسفية ووجودية ويكسو بها نماذجه الروائية لحما ودما لتنتقل من مجال الخيال والمشاعر إلى الواقع. وهو معمار يهتم أساسا بالبحث عن الإنسان المعاصر وأسباب تمزقه وعدم اكتماله.
قدم كالفينو نموذجا فذا فيما تقدمه الرواية في البحث عن جذور الهوية للشخصية المعاصرة، في إيطاليا العصور القديمة، لكنه قدمها بشكل له طابع رمزي عالمي، على الإنسان في أوروبا، وأيضا تصلح للقياس على الإنسان في أي مكان وهي أسئلة لها أهمية كبرى في هذه المرحلة الراهنة من ثقافتنا العربية التي تحتل فيها أسئلة الهوية موضعا مركزيا في أغلب دول منطقتنا العربية، وكسؤال جوهري بين أسئلة الثقافة العربية المعاصرة.
إبراهيم فرغلي كاتب وروائي مصري.