No Image
عمان الثقافي

تطوّر خطاب انتصار الذات المؤنثة

24 يوليو 2024
24 يوليو 2024

يحمل الخطاب قيم الوعي والثقافة الإنسانية بأبعادها المتطورة، فهو يرافق تحولاتها الثقافية والاجتماعية والفكرية والسياسية والدينية، كما أنه يتأثر بكثير من المستويات المرتبطة بالذات، وبالتالي فإننا نجد فيه فوارق ظاهرة تشي بهذا الاختلاف، في درجات الوعي، والرغبات، والعلاقة بالحياة، والقرب من الذات أو البعد عنها، إضافة إلى الانتصار للذات في تحقيق ما تؤمن به بما يتصل بها أو بالمحيط حولها، وتسهم عوامل متعددة في صناعة ظروف اجتماعية ودينية كذلك في بناء ذات الخطاب المتولد من رغبتها في الخروج إلى المختلف عن المحيط أو إشكالياته.

في رواية (حانة الست) للكاتب محمد بركة يمكن قراءة اختلاف كثير من مستويات الخطاب، وأزعم أن الرواية تمنح قراءة هذه المستويات كثيرا من زوايا تنوع الخطاب التي يمكن أن تشكل مادة بحث أدبي قيم، تتعلق بشخوص الرواية أو بشخصيتها الرئيسة لأنها تعكس أنماط خطاب المرحلة في جوانبها المختلفة، ويكفي أن الكاتب مزج بين بيئات مختلفة تمثلت في شخوصها، وتطور خطاب انتصار شخصية (أم كلثوم) يبني عليه العمل صنع إشارات كثيرة ترتبط برؤى الذات إلى الحياة، إضافة إلى تحولات اجتماعية تعود إلى عوامل ثقافية واجتماعية في المجتمع المصري، وهي ما يعين خط التطور من ثومة الريفية في (طماي) إلى كوكب الشرق في المدن العالمية.

«أتفاخر بأني بدأتُ السلم من القاع وغنيت في القُرى والمديريات البعيدة» ص236

هذا الخطاب تطور عبر مراحل وتشكل بألوان مختلفة من الصرعات أدت إلى مرتبة معية ولدت فيها (الست)، وكما يقول روبرت هنفري عن تيار الوعي في الرواية الحديثة بأن مضمون الرواية هو ما يميزها، وليس ألوان التكنيك أو أهدافها أو موضوعها، ووعي الشخصية هي التي يقوم عليها هذا النوع من الروايات، وخطاب (الست) يعكس هذا الوعي.

«في طفولتي.. لا ذراع تقذف بي في الهواء فأقطف نجمة من السماء. لا شجرة مرح أتسلقها» ص43؛ نستطيع أن نبدأ من حيث رغبة الطفلة في رؤية المحيط خارج الموروث، فالخطاب يستأنس برغبة الطفولة في قوة الحلم، والذي سيثمر إصرارا على التحدي في المستقبل، مكنون الخطاب يستند على فواعل غائبة تتولد من بساطة الرغبة في الوصول إلى شكل خاص لطبيعة الحلم، الصراع في فترة زمنية تتطلع فيها الذات إلى ما هو خارج محيط الريف بصمت.

«في تلك السنوات البعيدة تعلمت الدرس جيدا: ليس مهما أنْ تكوني جميلة، كوني داهية والبقية تأتي» ص45

هذا قطاف بعد تحقق لعبة الست بإغلاق (كتاب سيدنا عبدالعزيز)، وأكثر من ذلك انتصار على قصر القامة باختزال الإغواء الأنثوي في الانتصار للذات، ويقال إن الإغواء كاف للمرأة، وليست بحاجة إلى أكثر من ذلك فضلا عن الإرادة القاصرة، لأن الإغواء جزء من تركيب الطبيعة المرتبطة بالانسياق إلى مصدر الحياة والاختلاف والتفرد. ما الذي سيملكه الرجل / الذكر أمام سطوة الخطاب هنا.

«سأوقع صفا عظيما من الرجال في شباكي.. سيتفاوتون في مراكزهم الاجتماعية وأصولهم الطبقية لكنهم سيشتركون في شيء واحد..» ص45

شيء مختلف يؤكد في مستوى الخطاب هنا، ليس مؤشرات الخطاب الملموسة ما يمكن الاحتكام عليه في تعيين قادم الرؤى، الطموح يبدو خارج المحسوسات على الرغم من التصريح في خطاب (الست) عن الجانب العاطفي، كل ما يشكل الخطاب يرجع إلى احترام الذات كما ينبغي أن تحصل على ثمار الحياة، إصرار على هذا الاقتطاف يمكن تحققه من نرجسية فاتنة تتحدى ما حوصرت به الذات منذ كسر انتظار الولد لتكون هو في الشكل الظاهر نكرانا لإنسانيتها الفاتنة في زهو يكبر في الداخل الجواني؛ يترك تراكماته التي تنفجر في شخصية (كوكب الشرق) المستقبلية.

«هنا جاءت فرصتي التاريخية لأثبتَ لأبي وللزمن ونجوم السماء التي تراقبنا في بلاهة أن البنت يمكن أن تكون أفضل من الولد» ص49

تصاعد الخطاب يحقق انتصاره على جهات المحيط بأكبر ما يمكن أنْ يكون شاهدا على العالم، ليست النجوم في مكانتها العليا حين تشهد على (الستْ) طفلة في طماي، كانت ترنو منذ زمن إلى النجوم، لكنها لا تدرك معنى صراع الرؤى في قلبها (تراقبنا ببلاهة)، وفوق ذلك يأتي التحدي بشكل آخر في الوصول إلى ما يحقق هذه الذات في المستقبل.

«احتضنني بلهفة وكأنه يراني للمرة الأولى/ لا تخافي يا أم كلثوم/ وقالت عيناه: كيف أضربك وأنتِ الكنز الذي سينفتح لي قريبا» ص50

هل ما يراه الأب هو ما تراه أم كلثوم، وإنْ يكن للشهرة مكانة في روحها، لكنها في ذلك الوقت تحلم بضوء يأتي من بعيد، تتبعه إلى المدينة الحلم.

كل شيء في خطاب الانتصار يضمن تلك الأحلام، تبدو صغيرة في الفراغ بين الست وأبيها، وكبيرة بينها وبين صورتها المكتملة، والكاتب يرتكز في تشكيل الخطاب على مقارنات خفية يمكن أنْ تُقرأ بين وجهيْ هاتين المسافتين.

«كانت شهرتي قد أضاءت مثل شمس الحقول جميع قرى وعزب بحري. غنائي في الأفراح صار نشاطا روتينيا» ص61.

يعبر الخطاب عن انتصار الذات في سياقات مختلفة تتشكل مقابلها ردات فعل لما هو معاش، في كثير من الأحيان يخفي محمد بركة هذه الدوافع ليقدم للقارئ شخصية تتخطى فكرة (أنْ أكون مختلفة عن ذي قبل)؛ فإذا برؤية الطموح تنمو من تصالح مع الواقع المعاش، وكأن بدايات الست المتكررة لا تمت إلى جرح الماضي، شخصية بطولية تولد لتكون لا علاقة لها بماضٍ بسيط اختفى أمام شخصية كوكب الشرق. كيف عبرت في المقطع السابق من منتصف بداية الطريق، وكأن كثيرا من ملامح هذا الإنجاز انصهرت سريعا في القاهرة، وتسارع الأحداث هناك وإن كنا نراه إيجازا زمنيا لكن تكاتف جميع جوانب حياة الست أنتجت شخصيتها المتفردة، من: (غنائي في الأفراح صار نشاطا روتينيا) إلى (خرجت الجماهير ترفع سيارتي من على الأرض بينما العبقري البارد لا يزال وحيدا في كواليس المسرح يجفف عينيه من دموع الفرحة) في مشهد صراع مع موسيقار الأجيال، ويتطور الخطاب للانتصار على الذات بزهو بعيد في روح المنتصرة أم كلثوم.

«صعدتُ بكامل بهائي. سر الرب وصدى كلماته في الأكوان البعيدة. جلست على مقعدي برشاقة تخفي أعوامي الست والستين. قوامي لم يُعلن إفلاسه النهائي بعد» ص239

لا يمكن أنْ تقوم فواعل الخطاب بخير إذابتها في خصوصية صاحبه، أما أنْ ينزع الكاتب الكثير من المؤثرات من محيطه؛ فهذا يعني ثقته في شخصيته، لو لم تكن (أم كلثوم) فمن ستكون، الكاتب استعان باعتراف التاريخ أولا، وبثقته في قدرات شخصيته، هو أراد أن يبهر التلقي بشخصية الذات المنتصرة عن قربٍ لاسع لكل العلاقات التي حاولت انتزاع هذه المكان، وقد كان للمدينة بتحولاتها الزمنية المختلفة الفضل في تقديم هذه الأيقونة. إنها في مقطعها السابق من الخطاب تنتصر للعالم بزهو، هل لأنها ابنة الشيخ وابنة الثقافة الدينية التي جمعت بين الإيمان والثقة في معطيات القدر أمام لطف الخالق.

«حاسب على كلامك ولا تنسَ نفسك، أنت تخاطب أم كلثوم» ص265.

بجور وضعها الصحي يأتي الانتصار للذات ذات الاستحقاق بالشرق والغرب، بعد صراع مع الكبار السابقين والمعاصرين واللاحقين من الفنانين، وبعد موقف (صفعة الزوج) كان الاستحقاق زيارة جمال عبدالناصر في زمن الأيقونة. هذا التشكيل المؤثر باستدعاءاته الاجتماعية والسياسية يخلق الكثير من جهات قراءة خطاب الانتصار. ثم تواضعه المتعالي.

«أنا فلاحة بنت فلاحة..» ص276

هذه العجالة لا تفي حق قراءة تطور خطاب الانتصار في عمل الكاتب، لكنني أردت لفت الانتباه إلى عنصر فريد في الرواية ارتبطت بوعي شخصيتها وتطورها.