No Image
عمان الثقافي

تشكيل: الذكاء الاصطناعي يفتح أبواب الخيال أمام الفنان

24 يناير 2024
24 يناير 2024

هل سيحلّ الذكاء الاصطناعي محلّنا؟! هذا السؤال لا يؤرق فقط الفنانين، بل الكتّاب أيضا وأصحاب المهن الإبداعية الذين ظنّوا لوهلة أنهم بمنجاةٍ من طوفان الحضارة والتطوّر التقني.

فقد كنا نعتقد أن الذكاء الاصطناعي سيطال المهن التي تحتاج لتفكير منطقي وخوارزميات دقيقة ومعلومات علمية حديثة ودقيقة كالهندسات والعلوم والطب بفروعه، خلافا للفن الذي يحتاج شعلةً روحية وقبسا من الوحي يلقى على الفنان ليبدع نصه، مقطوعته الموسيقية أو لوحته، لكن المفاجأة كانت أن الآلة أيضا لها وحيها الذي يصل إليها عن طريق إدخال عدد من البيانات الكافية لتتمكّن من رسم لوحة أو صنع منحوتة، كتابة قصة أو نظم قصيدة، الوحي هنا أسهل وأقرب فهو ليس قادما من وادي عبقر ولا من سماءٍ بعيدة ولا حتّى من مكانٍ سحيق من النفس البشرية، فأي شخص يستطيع أن يكون شيطان الشّعر أو الفن ويلقن البرنامج البيانات بعد أن يجمع الكثير من التفاصيل والنصوص والصور ليقوم البرنامج لاحقا بهضمها وتحلليها وإعادة إنتاجها بصورة عمل فني.

الفنان اليوم زادت أعباؤه فهو لم يعد يخاف من المزوّر الذي يبيع عملا مماثلا لعمله بسعرٍ منخفض، ولا باللوحات المطبوعة التي تباع كلوحات أصلية، ولا من لوحات «الكيتش» -التي تملأ الجاليريات التجارية- وتكون عادةً أقرب للشخص العادي وأحنّ على جيبه؛ اليوم هناك منتجٌ جديدٌ للفن لا يحتاج وقتا ولا وحيا ولا أدوات ولا تقنيات ولا مكان حتى، يخرج العمل بسلاسة ويعرض مئات الخيارات لتكون صاحب القرار بانتقاء العمل الأقرب لروحك وفكرك.

قال بيكاسو مرةً: إن «كلّ طفل فنان، المشكلة هي كيف تظلّ فنانا عندما تكبر؟»، كان هذا التساؤل يرنّ في ذهن الفنانين، وكانت معضلة (كيفية المحافظة على هذا الفنان؟) تُشعل جدلا واسعا بين الفنانين الأكاديميين -ممن دخل كليات الفنون ومعاهدها- نظراؤهم ممن يمارسون الفن -دون أن ينتسبوا لجامعات تحدد لهم أولوياتهم بالتعلم ليصعدوا السلم درجةً درجة- حيث يرى الفريق الأول أن الطفل الفنان يجب أن يهرول في فناءات جامعات الفنون ويشبّ في مراسمها لتنتظم خطواته على طريق الفن الصحيح، ويترجل بتعلم المدارس الفنية فلا يرسم لوحة تجريدية، إلا بعد أن يتقن رسم اللوحات الواقعية وينافس الكاميرا الفوتوغرافية بدقتها، كذلك يتعلم التقنيات ويجربها حتى يختار تقنيته الخاصة.

بينما الفريق المقابل يشدد على أن هذا الطفل يجب أن يبقى حرا، يرسم بخطواته طريقه الخاص، ينمو فنه كنباتٍ بريّ يرعاه وفق مهارته التي يكتسبها من خبرته في الحياة، فيرسم ما يريد كيفما يريد وقتما يريد، يبدأ من حيث انتهى الآخرون ويترك للصدفة أن تصنع له تقنياته ولا يعنيه السلم الذي يتحدث عنه الأكاديميون ويرغب بكسر درجاته، فيكفيه أن يملك موهبةً ليصير فنانا؛ اليوم هناك فريقٌ ثالث –يخيف الفريقين السابقين- وهو الذكاء الاصطناعي الذي يضمن أن كلّ إنسان يستطيع أن يكون فنانا إن امتلك إحساسا وذكاء وقدرةً على التعامل مع تطبيقات التكنولوجيا الكثيرة!

ولا يهم إن دخل أكاديميات الفنون أو ترك نفسه حرا، فهو يصنع الفن بطريقة جديدة ويمدّ لسانه في وجه كل النظريات والدّراسات الفلسفية والجمالية التي تتعلق بالفن وإنتاجه.

إذن من الآن فصاعدا سيحتدم سجالٌ جديد في كواليس عوالم الفن، وستزداد التهم التي تلقى يمنةً ويسرة، فبعد أن طالت الشبه فنون الحداثة وفي مقدمتها المدرسة التجريدية، والشّكوك التي تكتنف أعمال ما بعد الحداثة من أعمال تركيبية، مفاهيمية، فيديو أرت، فنون الأرض، فنون الجسد.... وغيرها الكثير من أنواع الفنون التي مازالت محاربة من الكثيرين من أصولي الفن وذلك رغم مرور السنين على بدايتها واستمراريتها لليوم وإثباتها أنها تقدّم فنّا صافيا بأساليب جديدة، فكيف إذن بالفن الذي ينتجه الذكاء الاصطناعي، هل سيعتبر فنا ببساطة؟ وكيف سيكون فنا بلا فنانٍ منتج؟ لكن هل نحن بحاجة لهذا الاعتراف حقا خاصةً بعد أن أقيمت له معارض فنية في صالات عرض معروفة وكانت الأعمال المعروضة من إنتاجه وذلك حتى في دول عربية في الكويت ومصر والسعودية، وعلاوةً على ذلك قد تمّ بيع عملٍ له في مزاد كريستيز بـ423 ألف دولار وكان بإشراف الفنان إدموند دي بيلامي وتقديمه، وليس هذا فقط، فالمركز الأول في مسابقة بالولايات المتحدة للفن الرقمي التي شارك الفنان الأمريكي Jason Allen وكانت اللوحة التي شارك بها من إنتاج برنامج midjourney والذي يُعتبر من أهم برامج الذكاء الاصطناعي في مجال إنتاج الفن التشكيلي، وهو مخبر أبحاث مستقل يعمل بصورة أكثر احترافية على توسيع القدرة التخيلية للإنسان، يعتمد في عمله على البنية التحتية البشرية النصية، إذ أنه ينشئ صورا من الصفات التي يُلقنها، لذا هو الأنسب لاستخدامه من قبل الفنانين أو الأشخاص الذين يعرفون ما يريدونه تماما، أو أنهم يمتلكون الفكرة ويريدون تحويلها لعملٍ فنيّ دون أن يملكوا الموهبة اللازمة، أو ينقصهم الوقت فينشئون الكثير من الأعمال الفنية حتى يتوصلوا لصيغةٍ تنسجم مع ما دار في خيالهم. وهو ما كان في معرض الفنانة علية عبد الهادي المعنون بـ«الذكاء الاصطناعي وأنا-تجارب مستقبلية في الفنون» في غاليري بيكاسو في القاهرة والذي كانت أكثر مواضيع لوحاته مستوحاة من الحضارة المصرية القديمة لمنح المعرض هويةً واضحة، ولا يكون مشتتا مفكّكا، فقد تمّ اختيار لوحات المعرض من ضمن الكثير من اللوحات التي أُنتجت، وكان الهدف من هذا المعرض التجريب في هذا المجال الجديد من قبل فنان وعرض منتجات هذا التجريب ليكونوا مادةً للنقاش من قبل الأوساط الفنية والأكاديمية .

وبالطبع هذا ليس البرنامج الوحيد، فهناك العديد من البرامج الأخرى كبرنامج Deep Dream الذي يعتمد على استخدام «شبكة عصبونية التفافية» تقوم بمعالجة الصور ومنحها شبها من الصور التي تُرى في الأحلام، يحتاج صورة وعدد قليل من الكلمات ليبدأ عمله، فنحصل على لوحة كصور الخيال ليست واضحة تماما بل هي متماهية ومتماوجة كالسراب وسط الصحراء، وكخيال يبرق في فكرنا عند سماع كلمةٍ ما؛ أيضا هناك بعض التطبيقات الأبسط مثل التي يستخدمها الهواة بشكل أساسي Al Art, Breeder, Neural styler

أما الخلوج، فهي من أهم التجارب الفنية في مجال الذكاء الاصطناعي والتي لفتت نظري لسببين أولهما جدة الفكرة وثانيهما لروحانية هذا العمل وفتحه الباب أمام خيالنا، الخلوج منحوتةٌ جسدت «الحنين» وهو اسم صوت الناقة عندما تبكي وهنا كان سبب البكاء فقدها حوارها-اسم وليد الناقة- والناقة الخلوج تطيل الحزن على وليدها وتكثر البكاء عليه، الفنان السعودي «عبيد الصافي» نفّذ هذا العمل بالاستعانة ببرنامجٍ قام بتحليل ذبذبات صوت بكاء الناقة ومن ثم تصوّر شكلا لهذا الصوت وطباعته عبر طابعة ثلاثية الأبعاد، وقد عرض العمل في معرض (من الأرض) المنظم من قبل مركز الملك عبد العزيز الثقافي العالمي إثراء مع جمعية الثقافة والفنون في الدمام. وهنا أمام المنحوتة الصغيرة المجسمة بـ 15*21*16 سم، وصورة للعمل أيضا تنفتح أبواب الخيال على مصاريعها أمامنا، ونبدأ البحث عن صورٍ للأصوات وليس صورا للكلمات فقط، فالثانية يتقنها العقل البشري، إذ أننا سرعان ما نتخيل الصور الشّعرية الشكلية الحسية وتحضر بوضوحٍ أمام عيننا الداخلية وهو ما تصنعه السينما والفنون البصرية التي تمنح اللغة شكلا، أما صورة الصوت فهي الأغرب والأصعب على الخيال، ربما حاول الرقص التعبيري محاكاة الصوت ورسم حركات له وكذا نجد صوت ضربات القلب يرتسم بخطوط بيانية على الشاشة في المشافي وربما من هنا تنشأ منطقية رؤية الصوت بصورة أمام العين.

كم سيكون شكل صوت فيروز رشيقا ممشوقا، والاتزان والحبور سيميز شكل صوت أم كلثوم مثلا، الضجيج كتلٌ مفككة، أما صوت الريح شكلٌ منسابٌ متماوج، صوت المطر نقاط تملأ المساحة ...والكثير من الأصوات سيكون من الممتع أن نشاهدها، حينها سنشاهد الموسيقى لا العازفين!.

إذن الذكاء الاصطناعي، شئنا أم أبينا يستطيع أن يفتح أمام إبداعنا الحدود ويمنحنا تأشيرة الدخول لعوالم جديدة، وسيشكل إضافةً مهمة لعالم الفن التشكيلي، لكن بالطبع يختلف نتاج الذكاء الاصطناعي الفني تبعا للمعرفة الفنية والثقافية والمهارة التقنية لدى الفنان المستخدم له، فإن استطعنا تطويع الذكاء الاصطناعي ليخدم إحساسنا وموهبتنا سننجو من مدّه ولن يحلّ مكان الفنان بل ستكون ذراعا إضافيةً له وسنستفيد من الخيارات الجديدة التي يقدمها لنا، بالإضافة للسرعة التي ينجز بها العمل الفني، فإن لم نعترف به سيأتي يوم ويبتلع الذكاء الاصطناعي الكثيرين من أنصاف الموهوبين وغير المتابعين للتقانة والعلوم الحاسبية.

لكن هناك نقطة أساسية لا يمكننا إغفالها أثناء الحديث عن الفن وهي «الرّوح» تلك الشعرة الرقيقة التي تفرّق بين الشعر والنظم، بين النثر وعادي الكلام، وبين اللوحة والألوان المرمية جزافا على قماش الرسم «canvas».

ما نسميه الروح هو تلك القيمة المضافة التي تمنح الفن البشري الخالص نكهته الخاصة المميّزة، فأن تبصر ضربة الفنان بالريشة على القماش أو الورق وتستطيع أن تتوقّع حالته النفسية أثناء تنفيذ العمل من خلال تأمل تواتر الخطوط هل هي مرسومة بقوة وعنف أم ممددة بلطفٍ وحنان؟ وكذلك الأمر حين ترى المنحوتة وهي من صنع يديه وكأنه يعدّ مخلوقاته بعناية ويهيئها لمرحلة ما قبل الحياة، تنتبه للمساته الأخيرة التي تظهر على سطح العمل وتجعله جاهزا.

تلك الرّوح تشبه تعلقنا الدائم بطعام أمهاتنا، والحنين للوجبات التي كانت تحضّر في بيوت العائلة بكثير من الحب، رغم كلّ الرفاهية والنكهات المتنوعة التي يحملها الطعام الجاهز، لذته ستبقى ناقصة فهناك نكهة غائبة ليست في مكونات الطعام وتوابله هي نكهة «الحب» التي يصنعها الإحساس الذي يكتنف الأعمال المنفّذة بطرقٍ يدويّة تقليدية، والذي ينتقل من خلال الحواس المرهفة التي تطلّ على العالم الخارجي من خلال العمل، فتمرّ عبر اللمسات أو النفَس أو ذبذبات الصوت... ويُصنع الحب، الحبّ الذي يسعى مبرمجو الذكاء الاصطناعي لأن يملكه ذات يوم، حتى يكسب المنافسة!

بسمة شيخو كاتبة وناقدة تشكيلية سورية