تشارلز سيميك في آخر حواراته: لست سرياليا.. ولا بأس بالهراء في بعض الأحيان
ترجمة - أحمد شافعي -
قابلت تشارلز سيميك في عام 1994 على عشاء أقيم احتفالا بإصدار عدد من مجلة هارفرد ريفيو مخصص له. وكنت قد شاركت فيه بكتابة مقالة عنوانها «ذلك الذي يتذكر أحذيته»، ركَّزت فيها على قصائد عديدة له، فدُعيت إلى العشاء وجاء مجلسي فيه بجواره. فيما كنا نتناول الطعام، بدأت نملة صغيرة سوداء تدبُّ على مفرش المائدة الأبيض. فاستولت هذه النملة على انتباه سيميك. تساءل كلانا إن كانت النملة سوف «تفعلها» وتصل إلى الجانب الآخر، ثم فجأة ظهر النادل ونفضها. أوشك سيميك أن يبكي. (وعلمت لاحقا أن النملة هي حشرته الأثيرة). وكان ذلك درسا موضوعيا لي في حنان سيميك على أدق الكائنات، وهو ما أطلق عليه تشيسلاف ميلوش «الدقائق الهائلة». بقيت على اتصال بسيميك بصورة متقطعة بعد تلك الليلة، فدعوته إلى المشاركة في برنامج ماجستير الكتابة الإبداعية الذي شاركت في تأسيسه سنة 2001. رفض سيميك في البداية بدعوى أنه «مرهق للغاية» إثر جولة قراءات في أوروبا، لكنه عاد ووافق على المجيء في عام 2005. فقرأ في ذي فيلز، أي قصر جون هايز الأنيق المطلّ على بحيرة سونابي في نيوهمشر، وكانت جامعة نيوإنجلند قد استأجرته لتلك المناسبة. فبقيت صورته والبحيرة والحدائق من ورائه راسخة في ذاكرتي منذ ذلك الحين.
في 21 نوفمبر، حاورت سيميك عبر تطبيق زوم، بعد محاولات كثيرة فاشلة لمقابلته في ستراتفورد بنيوهمشر حيث كان يعيش. كان قد بدأ يعاني فعليا من مشكلات صحية آنذاك لكنه أكد لي أنه بخير، ومتلهف إلى الثرثرة. على مدار ساعة وعشرين دقيقة تكلمنا عن كل شيء من مكبِّ القمامة في منطقته، إلى طفولته في بلجراد خلال الحرب العالمية الثانية. حكى لي مثلا عن لعبة «الانفجار» التي كان يلعبها في شوارع بلجراد حتى في أثناء قصفها على أيدي النازيين. وفيما كنت أقوم بتفريغ حوارنا، أدركت أنه لم يتوقف قط عن ألعاب الشوارع تلك. كما كان عبقريا في شهود الرعب في مرح وإنسانية وعين باردة. كم غبطته وأعجبت بطريقته في تحويل تلك «الجزئيات الهائلة» من قبيل الشوك والروبيان والنهود والنمل و«شجر الشتاء الأجرد» والمنبِّه الملقى في مكب القمامة إلى مجازات قوية.
نفد وقت الحديث، واتفقنا على مواصلة الحوار. لولا أن أعيد إدخاله إلى المستشفى، ومات في نيوهمشر في العاشر من يناير. لا يخطر لي شاعر معاصر آخر كتب بمثل هذا الهزل الجاد، والطرافة، والحنان. لا يمكن أن يملأ فراغه أحد، وسوف نظل نفتقده بشدة.
• هل تكتب كثيرا في الفترة الأخيرة؟
ـ ذلك كل ما أفعله.
• عنوان كتابك الجديد أشبه بالنذير، «لا أرض على مرمى البصر». وفي حين أنه ما من إشارات صريحة في الكتاب إلى السياسة أو الأحداث الجارية، يبدو أن العنوان يوحي بأن العالم ضائع في البحر. تراني أفرط في تفسيره؟
ـ هو ليس متشائما. كل ما في الأمر أن كل شيء تهتّك.
• إليك مقطعا من قصيدة عنوانها «أيمكن أن يكون هذا أنا؟» يقتنص أسلوبك الذي يجمع بين التباسط والكوميديا والمأساة: «منبه/ بلا عقارب/ يدق بعنف/ في مكب قمامة البلدة». هل مكب القمامة استعارة لغرفة مكتبك؟
ـ ليس استعارة. ولكن مكب القمامة مكان قضيت فيه الكثير من الوقت. فأنا على مسافة خمس دقائق من مكب قمامة. ولقد كان مختلفا للغاية عن مكبات القمامة. ففي بدايته لم يكن أكثر من مكان صغير مليء بالنفايات. ثم ازداد تعقيدا، بفرز كل شيء. لكنني شديد الولع بالمكب القديم، القديم، الذي عثرت فيه قبل سنين كثيرة كثيرة على منبه ضخم، منبه من الطراز القديم، يدق في سعادة.
•يبدو أن البرق الشعري كثيرا ما يصعقك. هل تحتم عليك يوما أن تركن سيارتك على قارعة الطريق لتدون شيئا ما؟
ـ توقفت مرة على طريق الولايات السريع رقم 93 في نيوهمشر. كنت في الطريق إلى بوسطن لأقابل شخصا. ووقفت هناك على جانب الطريق، ولم يكن معي ما أكتب به. مضيت أفكر، أين قلمي الرصاص؟ ثم رفعت عيني فإذا بشرطي واقف، قال شيئا من قبيل «هل أستطيع مساعدتك؟» فضحكت وقلت «أنا متأكد أنك تستطيع، لكني لا أعرف كيف».
• وهل أعطاك قلم رصاص؟
ـ قال «ينبغي عليك أن تتحرك» لكنه قالها في مودة.
• كتبتَ قصائد كثيرة لا تنسى عن الشعر وعن كتابة الشعر، منها واحدة تحتوي هذا التعريف: «الشعر دائما حفلة موسيقى لقط تحت شباك غرفة تُكتب فيها النسخة الرسمية من الواقع». كيف بالضبط تصف حفلة القط الموسيقية؟
ـ أنظر إليها على هذا النحو: عندي قطة عمرها خمس وعشرون سنة. وهي قطة سوداء. ومريضة. تدخل فتقول لي ألا تزال هنا؟ الشعر في حقيقته مشهد كوميدي تتظاهر فيه أنت، كائنا من تكون، بأنك مسيطر، مع أن المتحدث في الحقيقة واقع تحت رحمة أشياء خارجة تماما عن نطاق سيطرته. لكنه يتظاهر أنه مسيطر. ما نحن إلا زمرة من الحمقى.
• هاجرت أنت وأسرتك من يوغسلافيا إلى نيويورك حينما كنت في السادسة عشرة سنة 1954. قلت إن هتلر وستالين كانا وكيلي سفركم. برغم الانتقال إلى بلد جديد واضطرارك إلى التكيف مع ثقافة جديدة، لم تفقد قط الحكايات والخرافات الشعبية السلافية. ما الأثر الدائم الذي قد تقول إن الفولكلور السلافي تركه على عملك؟
ـ لن أسميه حبا ثابتا للفولكلور السلافي. أكثره عظيم، لكنه مكشوف يمكن التنبؤ به. يجب أن أوضح شيئا عن المكان الذي نشأت فيه. كانت بلجراد مدينة حديثة فيها دور عرض سينمائي، ويمكن الاستماع فيها إلى موسيقى الجاز، وكل تلك الأشياء. الحداثة. ثم قامت الحرب، في 6 أبريل سنة 1941. ضربت القنابل المباني في الجهة المقابلة لبيتنا من الشارع. نيران. طرت من سريري واقعا على الأرض. كان أبواي في الغرفة المجاورة. والغرفة كانت في بناية ارتفاعها أربعة طوابق. لا أعرف ما الذي فعلته لكنني أتذكر أمي وهي ترفعني من الأرض وتجري بي نازلة الدرج. الغريب أن ذكرى ذلك اليوم لم تزل ناصعة لدي. كنا نجري نازلين درج بنايتنا، أربعة طوابق. ونجري في بعض الشوارع. كانت حربا. كانت القنابل تسقط. كذلك كانت البداية، لحربي، ولحياتي.
•بلجراد ظلت تتعرض للهجوم طوال الحرب. الأمريكان أيضا قصفوها سنة 1944.
ـ نعم، الأمريكان، حلفاؤنا، أيضا قصفونا. كنا نصفق لهذا. كنا سعداء حينما ضربونا. كانت حربا يستحيل فهمها. كل شيء كان في ارتباك عظيم، الناس يختفون، وفي الوقت نفسه، وأنا طفل، واع تماما بمدى الهول في ذلك كله، أنا وأصدقائي، كانت لدينا كرة. وكان ذلك جنونا. ولم يحدث إلا في وقت لاحق من حياتي، حينما تعلمت كيف أجمع اثنين واثنين، أن أدركت كم كان ذلك الوقت من حياتي جنونيا. أمي كانت تحكي هذه الحكاية لجيراننا وأقاربنا عن الأحمق الذي ابتليت به ابنا لها. كان ذلك في 9 مايو سنة 1945. وقد انتهت الحرب. كنت ألعب في الشارع. وكذلك كنت ألعب طوال الوقت. لم يكن من سبب لي كي أجري صاعدا إلى الطابق الرابع إلا أن أذهب لشرب الماء، ثم أسارع نازلا. في ذلك اليوم كان المذياع عالي الصوت. كانت البهجة كبيرة. والجميع يقولون «هاي، انتهت الحرب، انتهت الحرب». وقفنا جميعا حول المذياع. وقالت لي «لا مزيد من المرح لك أنت بعد الآن».
• كنت تذهب إلى المدرسة؟
ـ لا، وذلك كان العظيم في الأمر. لا مدرسة. أتذكر يوما ما إذ أقيمَ حفل في نيويورك، قبل زمن بعيد. كنت أتكلم مع سيدة بولندية أكبر مني قليلا، نشأت في وارسو خلال الحرب. هي أيضا قالت إنها قضت وقتا رائعا. ومالت على وجهي مبتسمة وقالت: «لم تكن هناك مدرسة».
• فزت بجائزة بوليتزر عن كتاب شعرك النثري «العالم لا ينتهي». وفي مقالة لك عن قصيدة النثر كتبت إنها «تظهر بمظهر النثر وتعمل عمل القصائد، لأنها، برغم العوائق، تشق طريقها إلى ما في خيالنا من مصائد للذباب».
ـ وما في ذاكرتنا أيضا «من هذه المصائد»
• لماذا توقفت عن كتابة قصائد النثر؟
ـ لم يكن شعر النثر أكثر من شيء جرَّبته. كنت أعرف دائما أنه لا يمكن أن يستمر إلى الأبد. أردت أن أكتب شيئا مسليا للغاية. وأعتقد أن جميعنا من شعراء النثر، راسل إدسن، وجيمس تيت، وبيتر جونسن، كلنا نحب أن نسلي القارئ وأن نتقدم دونما معرفة بما سننتهي إليه. فأنت تبدأ شيئا ثم تتفاجأ، وتتفاجأ، وتتفاجأ.
• هل كان ثمة شيء في شعر النثر، خلافا للشعر، جعله أيسر عليك؟
ـ الكذب، اختراع الأشياء. طالما جذبني ذلك. أحب على سبيل المثال إيميلي ديكنسن وشعراء آخرين كانوا في الحقيقة كاذبين رائعين. كانوا يعرفون كيف يختلقون شيئا لذيذا.
• لو سنحت لك فرصة قضاء سويعات مع إيميلي ديكنسن في صالونها أو ربما التمشية معها في أمهرست، فما الذي قد تحب سؤالها عنه؟
ـ لعله يكون سؤالا عما تحب أن تشربه. لا أعرف. لم أعتقد قط أنني يمكن أن أكون صديقا لشخص مثلها. فهي أغرب مما ينبغي. أتعرف أنها كانت تخاف التمشية خوفا شديدا. والثعابين.
• هل يمكن أن تقول إن شعرك ينبع من لاوعيك؟
ـ محتمل، لكنني لست سرياليا بمعنى أن يكون لاوعيي طيلة الوقت هو الذي يمد وعيي. لا، الشعر هو ما يحدث وحسب. الشعر معجزة. أفكر في بعض الأبيات التي كتبتها على مدار حياتي. أقول لنفسي «أنا الذي كتبت هذا؟». لقد جاء من تلقاء نفسه.
• يبدو كما لو أنه غير قابل للتفسير.
ـ وهو غير قابل للتفسير. وبخاصة عندما تكون قصيدة رديئةً، يكون غير قابل للتفسير ـ قصيدة رديئة إذا بها قصيدة جيدة للغاية.
• هل تحتفظ بدفتر تدوِّن فيه نوادرك وقصصك وأقوالك؟
ـ يمكن أن أريك دفتري. سوف أفتحه. ما يتألف منه لا يعدو شذرات. أقرأ شيئا ويعجبني وقعه. أقرأ عن القديس أوغسطين الذي لم يستطع أن يفهم غرض الربِّ من خلق الذباب. أو على سبيل المثال هذه العبارة: «شيءٌ ما ينبئني»!
• «شيءٌ ما ينبئني»، أو شيء ما يمس وترا.
ـ اللعنة! من هنا تأتي قصائدي القصيرة.
• تكلمت مع «الشاعرة والمترجمة» كارولين فورشيه صباح اليوم، وطلبت مني أن أبلغك السلام، وهي تتساءل لماذا تكتب قصائد بهذا القصر.
ـ لأنني سريع الملل.
• سأخبرها بذلك.
ـ كتبت مرة قصيدة لم يعد لها وجود، والحمد لله. كتبتها في قرابة ستين صفحة مثلا. كانت قصيدة عن محاكم التفتيش. قصيدة بشعة، وغبية. كان فيها شبه من «إزر» باوند. الحمد لله أنني رميتها. شخص ما كان يمكن أن يعثر عليها.
• ما عمر هذا الدفتر الذي أريته لي؟
ـ أحب أن تكون لدي دفاتر جميلة المنظر. هذا الدفتر عندي منذ أن كنت في المدرسة الثانوية في فرنسا. قد يستمر أحد هذه الدفاتر لشهور وسنين. إليك مجموعة من العناوين: «شيء صغير كهذا»، «ما ليس في متناول الكلمات»، «هاري البطيء»، «ورق شجر يبزغ ليلا»، «ترك الفراغات»، وهكذا دواليك.
• بالإضافة إلى الشعر، كتبت قدرا مماثلا من النقد البارع على مدار السنين، فنُشر في نيويورك رفيو أوف بوكس، وكذلك في العديد من الكتب. كيف استطعت أن توازن بين هذين المشروعين؟
ـ الحقيقة أن كل شيء كتبته في كتب ـ كان للمال. كان إغرائي هو المال. وبوب سيلفرز من نيويورك رفيو أوف بوكس أيضا كان يعرف كيف يذكر شيئا فيجعل عقلي يتعذب ويظل يطارده. وإلا فلأي شيء عدا هذا تكون الكتابة؟ أحب كثيرا كتابة النثر. ففيه دائما جدال مع شخص ما، وكان هذا هو المهم.
• كان من الممتع دائما قراءة عروضك للكتب ومقالاتك لهذا السب وهو أن أعمالك دائما خالية من الهراء.
ـ وفي بعض الأحيان لا بأس بالهراء.
تشارد دينيورد شاعر أمريكي له سبعة دواوين أحدثها هو (In My Unknowing) الصادر سنة 2020 عن جامعة بيتسبرج، وهو أستاذ الكتابة الإبداعية في كلية بروفيدنس.
أحمد شافعي شاعر ومترجم مصري.