تحوّلات الصحافة الثقافية
شهدت الصحافة الثقافية تحولات مهمة في القرن الحديث، وارتبط ذلك باختلاف الإنتاج الأدبي عمّا كان عليه منذ خمسينيات القرن الماضي، وقد تفاعل المتلقيّ مع هذه التحولات التي لامست عمق الصحافة الثقافية وعمق النقد الأدبي حيث نبغت تجارب بمنجزاتها الإبداعية الجديدة التي تحتاج إلى نقد، كما أسهم انفتاح الدول العربية على الأفق الفكري الغربي في تغيير أسلوبية النقد واستعارة آلياته بصور متعددة حسب درجة استيعاب المفاهيم والأنساق؛ فلا غرابة في أن تتناسج المقولات الصحفية لنظريات الأجناس الأدبية من داخل المساحات التي كانت تواكب إمكانات الإبداع والنقد العربيين وتحولاته عبر لغة تتجاوز حدود الوصف نحو الإقامة في اللغة. ولهذا سعى المختص الأكاديمي إلى تمثل المناهج النقدية والتفكير بوساطتها في مقاربة النص الأدبي وهو يقدم قراءاته في الملاحق الثقافية من دون استحضار القارئ العام كأنه يكتب لقارئ خاص يمتلك جهازا مفاهيميًا مشتركًا ولغة تتسم بقوة على مستوى المرجعيات ما جعلنا أمام نقد بقدر ما يفكك النصوص يقحمنا في ترسانة الناقد كأننا ندخل في معركة غير متكافئة مع النص ومع المتلقي العام. فهل يمكننا الحديث عن مثاقفة متكافئة في الصحافة الثقافية العربية؟ وما هي التحولات التي شهدها النقد في الصحافة الثقافية العربية؟ وهل وجه النقد الصحافة أو العكس؟ وهل اكتسب النقد لغة الصحافة أو أنّ الصحافة اكتسبت رصانة الخطاب النقدي؟
بداية لا يمكن لأحد أن ينكر مدى تأثر الصحافة الثقافية بالصحافة الغربية من حيث التحولات العالمية وأنظمتها من العولمة إلى الرأسمالية إلى درجة تغيرت معها طبيعة النظر إلى النصوص الإبداعية واختلفت بموجبها المعايير والآليات الجمالية ما جعل النقد الأدبي يتوجه نحو نقد موضوعاتي أو نقد صحفي، ولعل استعارة التقنيات الغربية والعمل على استنساخها بطريقة يطغى عليها التكرار والتجزيء- إن لم نقل الإسقاط- جراء عدم تكييف المعرفة النقدية في سياق إعلامنا الثقافي العربي، فوقع نوع من الفوضى في المصطلحات أدخلنا بسببها في أزمة لغة تبتعد عن التواصل الأدبي والحضاري وتقوض الدلالة والمعنى، وأضحى النقد تبعًا لهذا السياق نشاطًا ذهنيًا لا ينفصل عن العمليات الكتابية المتميزة بالبحث في الكيفيات التي يقول بها النص موضوعه الجمالي من جهة، ولم يستطع أن يكون بمنأى عن هذه التطورات والأسئلة الكبرى في معالجته للنصوص في تعالقاتها بالحياة والإنسان من جهة ثانية، من هنا كان لزامًا على الباحث في هذا المجال أن يبحث في طبيعة النقد الممارس للتمييز بين لغتي النقد الأدبي والنقد الصافي.
هذه المحطات التاريخية أسست للنقد الذي يمارس اليوم من داخل الملاحق الثقافية. لكننا بتنا نشهد تراجعًا كبيرًا في الأساليب الإجرائية، حيث غابت الموضوعية عن بعض الصحف والملاحق والمجلات الثقافية، وطرحت الأحكام من دون توثيق أو علمية، وسيطرت الشللية وصارت توجهاتها متأثرة بتوجهات المسؤول الثقافي وثقافته حتى ولو كان من غير المتخصصين أو من غير الأدباء والمبدعين ذوي الرؤى الخاصة. وصارت الصحافة الثقافية تهدف لقول ما عندها وطرحت عروض الكتب والمراجعات بمعاييرها الموحدة التي تنطبق على أيّ كتاب، وبعضها يطرح لخدمة الأقسام الثقافية التي تحتاج إلى مواد لملء صفحاتها ونشرها، فكثر الإنتاج الأدبي. ومورس النقد بغض النظر عن إمكانات النصوص الجمالية ومنح الاعتبار للمعايير التي تعتمدها الجوائز.
النقد الأدبي أو حين تتحول النظرية الأدبية إلى مخططات وترسيمات:
إذًا يلحظ الجميع أن هناك تراجعًا كبيرًا في مستوى النقد الأدبي مؤخرًا؛ وهذا الأمر يكاد ينطبق على معظم الدول العربية، إذ لم يعد هناك فهم لماهية النقد الأدبي بما هو حاجة إلى إضفاء طابع القيمة على النص، بل نجد أنفسنا أمام عملية قراءة قلما تحقق ذلك التفاعل بين القارئ والنص كما يقول جاكوبسون ما دام النقد قد صار نادرًا والمجلات المحكمة نادرة. إن هذا التراجع في الوعي الثقافي وفي عمليات القراءة السريعة التي تؤكد انتفاء خصائص الفهم والتفسير والتأويل أدى إلى تراجع على في بناء الأنساق اللغوية التي يغلب عليها الترجمة والاقتباس وضعف الحوار مع النصوص، كما تراجع الإرث المعرفي في الملاحق الثقافية التي تجد فيها المتخصصين وغير المتخصصين. ولا نقصد بغير المتخصصين هنا الأدباء والشعراء المبدعين من الكتاب الذي يتمتعون بالرؤى النقدية بفضل ثقافتهم وخبرتهم واطلاعهم خصوصًا أولئك الذين استلموا مسؤولية الملاحق الثقافية. وإنما نقصد الذين جاؤوا من خارج فكرة الثقافة ولخصوا الإعلام الثقافي في عمليات الاجترار والنسخ واللصق؛ فالصحافة تحتاج إلى الخبرة وفيها مسؤولية الارتقاء بالفكر الإنساني للارتقاء بالمجتمع.
هذا النقد الأدبي الذي يضيف أحكامه على النصوص بهدف تصويبها والحفاظ على مستواها ورصانتها، فقد المعايير التي تعنى بالنص اليوم من حيث اللغة والأسلوب والمضمون ودراسة الخلفيات فانتشرت الذات العفوية التي تقول كل انطباعاتها في غياب الإرث المعرفي في النص.
كذلك أثرت ندرة الملاحق الثقافية وإغلاق بعضها وإغلاق المجلات الثقافية وغياب المساحات الكافية وسرعة العصر إلى تغييب قصري لبعض الأقلام بلغتها الرصينة. أضف إلى ذلك يتحكم معيار الكم بالناقد الأكاديمي فيكتب بأسلوب مقتضب ويضطر إلى تغيير منهجه ولغته ما يشكل حاجزًا أمام النقد بلغته العلمية.
وهنا صار يمكن القول مع عبدالإله بلقزيز في كتابه «في البدء كانت الثقافة»: إنّ هذا الواقع بات في حاجة إلى وعي يخرجه إلى الثقافة.
غياب المحرر الثقافي ورقابة المؤسسات:
هذه التحولات التي ترتبط بذوق المتلقي وتوجهه غابت عنها فلسفة التحرير الثقافي الذي كان يمثل رقابة رمزية تجعل من مهمة المؤسسات استكتاب النقاد والباحثين واكتشاف كتاب صحافيين بهدف خلق ديناميات على مستوى الملاحق والصفحات التي تعنى بالثقافات والفنون، وبالتالي تكون من مسؤوليتها الإشراف على المشهد الثقافي، لكن عوض هذا وذاك نجد «نزعة تحكمية» لأشخاص يكرسون ذاتيهم بأساليب الهيمنة لجعل هذه الفضاءات ذات طابع «شخصي» عوضا عن أن تكون نافذة على النبض الثقافي العربي الحقيقي، وأضف إلى ذلك دور الإعلام الرقمي ووسائل التواصل الاجتماعي الذي صار سلطة فرضت نفسها بنفسها، فولدت هنا إشكالية أخرى وهي دخول اللغة المشوهة أحيانًا إلى طاولة النقد.
نعود هنا إلى الإشكالية الكبرى وهي غياب المتخصصين عن ساحة النقد الأدبي وبالتالي غياب الأثر، فالقارئ يتفاعل مع النص، بعد تشويه الفكر الإعلامي وتسطيح العملية النقدية من ناحية الولوج إلى أعماق النصوص.
القراءات الانطباعيّة:
من جهة أخرى، غابت الموضوعية عن النقد الممارس في الصحافة الثقافية؛ إذ استعان الكاتب بلغة الاستعارة وطرح المجازات ما حوّل الناقد إلى كاتب مشارك في العملية الإبداعية لينتج نصًّا ثانيًا بحيث يغيب النهج الواضح في الصور؛ ثمّ تأتي اللغة مشحونة بالرموز حتى ليحل الغموض أحيانًا فيغيب المعنى المراد إيصاله على مستوى الأفكار وتفقد اللغة كونها وسيلة هادفة لا الغاية في حد ذاتها.
وإذا بنا أمام قراءات إبداعية لا تثير المتلقي ولا تحاكي فضوله المعرفي، وإذا به يحتاج إلى تفكيك رموز النص النقدي في غياب المفردات والتعابير الشفافة التوضيحية. فنجد في معظم نصوص النقد الانطباعي عملية إخضاع النص لعواطف ومشاعر ووجدان كاتبه وتجربته وذائقته الخاصة عبر غياب اللغة النقدية وضبابية المعنى وصياغة العناوين الإبداعية.
ولا يغيب عنا الناقد الذي يتمتع بالوعي النظري ويتمكن من التوظيف الإبداعي لآليات النقد، فثمة من لديه طابع إبداعي لكننا لا ننكر أنّه استطاع خلق نوع من التوازن بين اللغة الإبداعية واللغة الأكاديمية إذا اصطلحت تسميتها فتوجهت إلى مختلف شرائح القراء. كذلك هناك من حرر النقد من طابعه المؤسساتي كما فعل عبد الفتاح كليطو الذي اشتغل بين النقدي والسردي، وقد اشتغل خالد بلقاسم في كتابه «مرايا النقد» واستحضر تجربة كليطو وتوسّع بهذا الموضوع.
اللغة ووسائل التواصل الاجتماعي:
كذلك غيّرت وسائل التواصل الاجتماعي النظرة إلى الأدب في هذا العالم الرقمي فأصبحنا نلمح ظاهرة الكتابة التي تأتي على شكل تغريدات تستسهل باللغة، هذا بالإضافة إلى الأخطاء التي لا تنتهي وهي تؤكد تعدد الآراء وانطباعات أصحابها وهي تكاد تكون سلطة فرضت نفسها فغيبت الأقلام الحقيقية لصالح الأقلام التي تسعى إلى النجومية وتنطلق من خلال التماسها ووصولها إلى من يتحكم بالسياسات والسلطات. إنها آليات جديدة تتحكم بمختلف مناحي الحياة الفكرية والاجتماعية وتسيطر على السياسات السائدة وهي ثقافة تشبه هذا المجتمع الخارج عن الرقابات المؤسساتية العقلانية ويتحكم بها السوق الاستهلاكي حتى ولو جاء على حساب المستوى الثقافي الذي أصابه التسطيح وغياب الوعي النقدي وغيّر صورة المشهد الإعلامي.
غابت الصفحات الثقافية وحلت محلها المواقع الإلكترونية التي ترمي الأبحاث الثقافية ولا توليها أهمية فلم يعد هناك الارتقاء بالثقافة التي صارت فارغة المضمون في بعضها ما أثر سلبًا في هذا الجيل الصاعد الذي بات لا يقرأ وصارت الصحافة مجهولة المستقبل.
اللغة الصحفية إضافة للنقد:
في ظلّ هذه التحولات كان بإمكان الناقد اعتماد لغة نقدية عبر الابتعاد عن النقد العلمي الأكاديمي المحض والمصطلحات الجافة؛ فاللغة الصحفية في النقد الصحفي تأتي بشكل إضافة له وطريقة جديدة في تحليل النصوص، ونستحضر هنا عباس بيضون في قراءاته النقدية المفتوحة وعقل العويط في ابتداع النقد السجالي الحواري. فهذه التحولات التي شهدتها لغة النقد الصحافي والآليات الجديدة جذبت القراء والمتلقين وراعت أذواقهم.
ما بين الخطاب النقدي وخطاب المشاعر
ولا يخفى أنّ هناك كتابات صحفية تنطلق من لغة جادة مضيئة تقدم للقارئ معرفة بحكم ثقافة كاتبها وتجربته ويختلف تفكيك النص بين الكاتب والآخر وموضوعية أحكامه وعرضه، في حين شكلت الانطباعية شكلًا من أشكال جعلت اللغة تبتعد عن النص ومقولاته الجمالية وتحرض على الهروب نحو إبداعية ذاتية لا تستحضر المعاني الثاوية في النص بقدر ما تسعى إلى ضرب النسق الذي يترجمه النص عبر انزياحات غامضة بعيدة عن العلمية لا تعتمد أية استراتيجية نقدية في مقاربته.
اللغة والأفق النقدي الجديد
إن الوعي باللغة مسألة أساسية في أثناء عملية النقد الأدبي الحديث؛ لأنّ النقد يوسع أفقنا الثقافي والحضاري عبر تشغيل اللغة بما هي أداة من أدوات التربية على ثقافة الاختلاف ومنح النقد أفقًا جديدًا في ظل اختلاف التصورات؛ بحيث تعمل على تفكيك البنيات السائدة والمهترئة، وتقدم للقارئ مساحات للتأمل؛ فعبر اللغة نرمم خراب الواقع ونسعى إلى إعادة بنائه واكتشافه من جديد؛ فاللغة هي أسلوب الناقد في تقديم المحتويات التي بمقدورها أن تدفعنا إلى تعزيز سبل التواصل مع الناس في أدق تفاصيلهم الحياتية، وهذا هو دور الأدب أن يجعلنا نقترب أكثر من هواجسنا الباطنية وأن نعزز علاقتنا بالحياة على نحو مختلف ومدهش؛ فلا غرابة أن تجد أنفسنا أمام حساسيات لغوية متغيرة غير ثابتة؛ إذ أنها تتغير بأفكار وانفعالات ومشاعر الإنسان وهواجسه.
فهل سنشهد على إعلام ينطلق من لغة رصينة ونقد جاد مع مواكبة العصر الرقميّ ونشر الثقافة الحقيقية وتشكيل وعي جديد؟
ليندا نصار باحثة لبنانية