تحقيق: لماذا يذهب الكتَّاب العرب إلى النسيان بعد الرحيل؟
أصبح الوسط الثقافي العربي حبيسًا بين ظاهرتين، (الأولى) حفلات الدعاية الصاخبة، وإلحاح الكتَّاب على الظهور، كأنهم باعةٌ في سوق، يُطِلُّون من خلال مواقع التواصل الاجتماعي ممسكين بمكبِّرات الصوت، منادين على بضاعة راكدة، لا يقرؤها في الأغلب إلا بضع مئات من القراء، و(الثانية) استقرار الكتَّاب في قاع النسيان بمجرد موتهم. عليك فقط أن تتذكر أهم الأدباء الراحلين في بلدك لتدرك عمق المأساة، فلا وجود لهم كأنهم ما عاشوا أبدا ولم ينتجوا، فما سبب ذلك؟ وكيف يمكن إعادة أحياء أعمال أعظم كتَّابنا على امتداد الوطن العربي؟
في بداية كلامها تؤكد الكاتبة البحرينية ليلى المطوع أن «الكاتب يعود للحياة حين يُقرأُ له». مستدعية مقولة الفيلسوف الفرنسي موريس هالبواش «لا ذاكرة من غير جماعة»، لتخلص إلى أن «الأعمال الأدبية لا تقوم وحدها على ذاكرة الفرد القارئ، أو الوفي لكاتبه»، وأن «الخلود يُمنحُ للأسماء التي تتذكرها الجماهير، الجماهير المتجددة مع كل جيل»، وتقول: «نحن حين نعيدُ النظر في التاريخ القريب نجد أعمالًا مهمة طواها النسيان، لكن الأعمال التي خُلِّدت، هي الأعمال التي تحولت إلى أفلام ومسلسلات كما حدث مع روايات إحسان عبدالقدوس، حيث كوَّنت الأفلام السينمائية المأخوذة عن أعماله ذاكرة جماعية لدى جماهير لا تنتمي لجيل واحد».
وتشير ليلى المطوع إلى أن الكاتب قد يكون ناجحًا في فترة زمنية، ويتوقف نجاحه أمام جيل لا يعرفه. تعلق: «أذكر هنا حين حُوِّلت رواية «أفراح القبة»، للروائي الخالد نجيب محفوظ، إلى مسلسل من بطولة منى زكي، بيعت كل نسخ الرواية حتى أننا لم نجد نسخة منها في معارض الكتب ولا المكتبات. فمن يشاهد المسلسل يدفعه الفضول للبحث عن الرواية. كما أن نجيب محفوظ ظاهرة أدبية تناقلتها الأجيال العربية، ليس فقط بسبب تنوع وكثافة نتاجه وتقنيات الكتابة لديه، بل لأن الجوائز تلعب دورًا مهمًا في منح الكاتب أهمية لا يطويها الزمن».
وتضيف: «الأسماء الأدبية المهمة تُخلَّدُ عبر تعريف كل جيل بها، وهذا يتم من خلال إدخالها في المناهج المدرسية. وأعتقد أنه من المهم أن لا تظل هذه الأعمال على شكلها الأول الذي عُرفتْ به، فالقراءة مهمة، لكن طريقة الوصول للجماهير يجب أن تواكب كل عصر، وكل جيل له لغته، ولنا مثال في نجاح ديزني وأفلامها المقتبسة من روايات عبر الأجيال».
وتختم كلامها قائلة: «يذهب الكتاب للنسيان لأسباب عديدة، منها كثرة النتاج العربي، غير المقروء، فأمر طبيعي أن يطوي الزمن أسماء نتاجها الأدبي لا يشكِّل أي فارق، ولم تأت بجديد. ومن الطبيعي أيضا عدم القدرة على إحياء كل المؤلفات، حتى للكاتب نفسه، فهناك عمل واحد يكون في الصدارة لدى القراء، كما أن الدور العربية تشيح بوجهها عن كل كاتب لا يجلب لها الأرباح المتوقعة، فالمردود المادي مهم لمواصلة طباعة أعماله، ولا تتحمل الدور هذه الأعباء والتكاليف فتتوقف، وبالتالي عدم وجود نسخ من مؤلفاته في معارض الكتب، والمكتبات، يجعل من نسيانه أمرا وارد الحدوث. وهنا يأتي دور المؤسسات الثقافية الرسمية، فمن واجبها دعم أعمال المؤلفين الراحلين الذين تركوا أثرًا مهمًا في الساحة الأدبية، وتأخذ على عاتقها كل تكاليف الطباعة، والنشر والترويج، وأظن أنه يجب أن تعود حقوق مؤلفات الكتَّاب الراحلين للدولة، لأنها إرث أدبي يجب عدم منعه من قبل الورثة، أو التدخل في قرار إعادة طبعه».
عفريت القديم
من جهته، يرى الناقد المصري الدكتور علاء الجابري أن المجتمع العربي يمرُّ، في الفترة الأخيرة، بمرحلة من المعايشة اللحظية، ولذلك صارت بعض الأعمال كأنها «موديلات» تتغير سنويًا، ويصبح الحديث عن عمل تم نشره منذ أعوام اعترافا ضمنيا لدى بعضهم بعدم المتابعة، وكون العمل (القديم) عفريتًا يجب الفكاك منه، والتخلص من لوازمه. ويؤكد الجابري أننا لو رجعنا بالأمر إلى أصوله سنجد أغلب الكلاسيكيات مهجورة، أو تحمل بُعدا مدرسيا بالمعنى الأسوأ لكلمة مدرسية، فهي عينة لدراسة سريعة، أما سريان تأثيرها في عصب المعاصرين فهو أمر مستبعد ابتداء، وهكذا صار الحديث عن الشعر القديم مكرورا، والكتابة عن نجيب محفوظ عجزًا عن مسايرة الجديد، والحديث عن صلاح عبد الصبور مخاصمة لقصيدة النثر، واحترام حنا مينا دعوة لصنمية جديدة مع القصة القصيرة.
ويرى أن هناك وجهًا آخر للأزمة يتصل بإلحاح المبدعين الجدد على المتابعة ليكون الاحتفاء دعاية، وأرقام المبيعات دليلًا على الجودة، وانتشار العمل السردي -مثلًا- مؤذن باقتراب انتقاله إلى السينما، بكل ما تعنيه النقلة من تغيرات مادية للكاتب. ومع هذا لا يجب، بحسب الجابري، أن ننكر أن التجمعات القرائية مختلفة ومتفاوتة، وبعضها يتنافس مع ما يجاوره لإظهار السيطرة وبسط النفوذ، فكأنه جدول الدوري العام إذا سقط من تجمعنا كاتب ركبه تجمع مختلف.
ويعلق: «لا أنكر أننا اشتركنا في ذلك فصارت الكتابة عن عمل قديم مقصورة على البحوث الأكاديمية التي لايقرؤها أحد، بينما الكتابات السيارة، والقائمة المرشحة لمعارض الكتاب يجب أن تقتصر على الجديد، ولو كان أقل قيمة، فيزهو البعض ببزوغ نجم فلان، أو سرعة زوال فلان، واشتركت الجوائز في تركز دافعية القراءة على الأعمال الجديدة، وغير الخارجة عن المعاصرة لتكون في دائرة الضوء، ولو فكرت المؤسسات الثقافية في تكريم القدماء، أو إعادة طبع أعمالهم بدلًا من أعمال لا تستحق لكان ذلك أدعى لضمان حضورهم. وأذكر ارتفاع مقروئية يحيى حقي -على سبيل المثال- مع احتفاء معرض القاهرة للكتاب به خلال عام 2022. بعض القرَّاء يتناول ما يوضع أمامه أما استدعاء المخزون القديم فيخرج عن تصوراته، فالقراءة لديه غير مؤسسة على خريطة شاملة وأصلية. والأمر يشبه ما يحدث مع الأغاني الجديدة، إذ صار الحديث عن أغاني التسعينات نوعا من الكلاسيكية».
ظاهرة الإلحاح
أما الكاتبة المصرية ميرال الطحاوي فتؤكد أن الكتَّاب العرب، الموتي والأحياء، يذهبون للنسيان، بسبب التحولات السريعة في سوق الكتابة والنشر، وهي ترى أن النزعة الاستهلاكية للمنتج الأدبي أزالت عنه فكرة القيمة، حيث أصبح التسويق والإلحاح في العرض والوجود الفيزيقي للكاتب هو ما يوسِّع دائرة انتشاره ويحوِّله إلى ظاهرة، مع الإيمان أن الظواهر الأدبية تأخذ وقتها وتذهب، ولا يعني ذلك بالضرورة أن الكتابات الحقيقية ستبقى أو تصمد أو حتى تجد من يكتشفها بعد النسيان، لكن يعني أن كل سوق له ظواهره واحتياجاته، وما يحبه ويتداوله قراء اليوم قد لا يناسب ذائقة القارئ بعد عشر سنوات.
وتقول ميرال: «لم يطرأ جديد علي قوانين الكتابة، فقط أصبحنا نعرف سرعة الاستهلاك وتجاوز عدد المنشور والمطبوع قدرة القراء على استهلاكه وأصبح الوقت الضيق لا يكفي لملاحقة الجديد أو قراءة الكتابات الأقدم قليلًا»، وتضيف: «الكتابات الهامة والمؤثرة، التي تشكِّل إضافة أدبية عادة ما تهتم بها الدراسات الأكاديمية، والحركة النقدية، ومع الحالة المتعثرة التي وصلت إليها المؤسسات الأكاديمية والنقدية لم يعد بمقدورها تشكيل مزاج أدبي، يعيد قراءة من يستحقون القراءة، وفي النهاية أعتقد أن تكريم الكتَّاب أو الحفاظ على تراثهم خاصة الذين رحلوا قد يكون بإتاحة أعمالهم إلكترونيا.
وهو دور رائد ومهم تقوم به على سبيل المثال مؤسسة هنداوي، حيث تتيح قراءة النصوص بشكل غير تجاري»، وتتابع: «تكوين مكتبة إلكترونية تؤرّخ وتقدّم وتحافظ على إرث المبدعين هو الجهد الوحيد الذي يجابه النسيان ويصنع ذاكرة للكتابة وللكتَّاب الراحلين».
حالة ركود
الشاعر العراقي عبد الكريم هداد يقول: إن الثقافة للأسف تمر بحالة ركود شديد، ووهن كبير، نتيجة الظروف القاسية التي تحيط بأمتنا العربية وقضاياها المصيرية، إضافة لما يُحاصرُ الفرد العربي من ضعف شديد، نتيجة أسباب كثيرة، منها الجمهور العربي الواسع يعيش بعيدًا عن الحياة الثقافية والإبداعية، وهو عازف عن المتابعة اليومية لنتاجات الكتَّاب المعاصرين، بسبب تفشّي الأُمية وكذلك الوضع الاقتصادي المتردي الذي يبعده عن المتابعة والاقتراب من ساحات تأثير حياة الكتَّاب وإبداعاتهم، وبالتالي إن كان العرب لا يعرفون الكتَّاب المعاصرين فمن المنطقي ألا يتذكرونهم بعد الممات. ويقول: «باتت النجومية غير الواعية والهشّة في عمقها الثقافي والإبداعي هي المؤثرة والحائزة على الصدارة في الحياة العامة إعلاميًا. يضاف لذلك الضعف الكبير والترهل في المؤسسات الرسمية والمنظومة التعليمية في أوطاننا البعيدة عن صيغ تضمن وجود تراكم معرفي بعيدًا عن صيغ المهرجانات الاحتفالية الدعائية التي تنتهي بمجرد انطفاء أضواء مسرح منصات الخطابة المكررة الأسماء والمفاهيم».
وعن الحلول يقول: «الحال يمكن النهوض به ضمن آلية ثقافية مدروسة ومستندة إلى بحوث أكاديمية وميدانية خارج أطر وإرث مؤسسات باتت مُتعَبة في آلياتها ونتائجها، ويمكن تحقيق ذلك عن طريق استغلال الإعلام المرئي والمسموع والمقروء ومنصات السوشال ميديا، عبر نشاط مكثف وحُر وفعال، تقوم به وتتعاون فيه كل المهرجانات ودور النشر ووزارات التربية والتعليم ومنصات الجامعات ومراكز الدراسات والبحوث الأكاديمية، لتأسيس طريق واسع ومباشر يتماس مع الجمهور، يعرِّف بالأسماء التي استحقت بإبداعها أن تكون علامات ثقافية عربية بعيدًا عن الشللية والمحسوبية والمنافع الشخصية».
سوق القراءة
الناقد المصري الدكتور سامي سليمان يرى أن وجود الكتابة الأدبية وبقاءها يرتبط بشرائح من القراء، كما يرتبط بأدوار مؤسسات تتوسط بين الكاتب والجمهور المتلقّي مثل مؤسسات النشر المختلفة، ومؤسسات الصحافة والإعلام، ثم وسائل الاتصال المعاصرة التي أتاحت إمكانات هائلة للترويج لأنواع معينة من الكتابات الأدبية. وعلى هذا يمكن ملاحظة أن ثمة علاقة معقدة تقوم بين الأعمال الأدبية والمؤسسات الفاعلة في إتاحتها والترويج لها، وحسب نشاط تلك المؤسسات يتواصل حضور أعمال الكتَّاب المتوفين أو يتضاءل ذلك الحضور في سوق القراءة. فأعمال الكتاب الذين تروِّج لهم المؤسسة النقدية ومؤسسات النشر والإعلام، بحسب الدكتور سامي إسماعيل، يُتاح لها درجة حضور عالية في سوق القراءة بصرف النظر عن قدرة هذه الأعمال أو عدم قدرتها على الانخراط في سلسلة «الأدب الرفيع». وهذا ما يفسّر بقاء أعمال أدبية ليست من ذلك «الأدب الرفيع» في سلاسل الكتابات المنتشرة والمتداولة بقوة في سوق القراءة، على حين أن ثمة كتابات أدبية لأدباء معاصرين راحلين تنضوي في إطار «الأدب الرفيع» لكنها ليست مطروحة الآن في سوق القراءة بسبب إعراض مؤسسات الترويج عن العناية بها.
يضيف: «لا أود الإشارة إلى أعمال بعينها؛ فحين يفكّر القارئ في أسماء مثل نجيب محفوظ ويوسف السباعي وإحسان عبد القدوس ومحمد عبد الحليم عبد الله وإدوار الخراط سيلحظ أن أعمال بعضهم ما تزال رائجة في سوق القراءة، على حين أن أعمال آخرين قد توارت مكانتها في تلك السوق؛ وذلك ما يدلل على أهمية أدوار المؤسسات الفاعلة في الصلة بين الكتابات الأدبية وقرّائها».
ويذهب الدكتور سامي إلى أن إحياء الكتابات المهمة من أعمال الراحلين لا يكون إلا بأن تمارس تلك المؤسسات أدوارها المؤثرة في الحركة الثقافية سواء بإتاحتها تلك الأعمال بأسعار متناسبة مع الإمكانات الشرائية للقراء، وإن كانت وسائل النشر الإلكتروني - سواء أكانت قانونية أم غير قانونية - قد خلقت وضعية جديدة يسَّرت هذه الأعمال لملايين القراء. ومن هنا ندرك أن الدور الرئيسي في الترويج لتلك الأعمال تقوم به المؤسسة النقدية بقدرتها على بيان ما في هذه الأعمال من جِدة أو تميز أو قدرة على مخاطبة القراء المعاصرين. وثمة دور آخر بالغ الأهمية تقوم به مؤسسات القراء المعاصرة عبر الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي المختلفة؛ فقد صارت تلك المؤسسات عبر هذه الوسائل أكثر الأدوات ترويجًا لأعمال الكتاب أحياء كانوا أو راحلين، وصار لهذه المؤسسات المكانة الأبرز والأكثر تأثيرًا في الترويج لكتابات بعينها لا سيما أن هذه المؤسسات تتسم بالانفتاح الشديد الذي يمكِّنُها من ممارسة دور لعله الأشد تأثيرًا الآن في الترويج لكتابات «أدبية». ولعل علامات المستقبل القريب تشير إلى أن هذه المؤسسات ستتسع دوائر تأثيرها لا سيما أن وسائل الاتصالات المعاصرة صارت متاحة لمئات الملايين من البشر؛ فالقادم هو عصر القارئ الذي قطعت المجتمعات المعاصرة شوطًا ملحوظًا في مضماره.
تجربة عمانية
الكاتب العماني بدر العبري يجيب عن سؤال «لماذا يذهب الكتَّاب العرب غالبًا إلى النسيان بعد وفاتهم؟» بأن «هذه المسألة ليست عامَّة بالجملة، فهناك من الكتَّاب العرب منسيون في حياتهم قبل مماتهم، وهناك من يشتهرون بعد وفاتهم، ولكن نسبة النسيان هي الأغلب عندنا، حيث لا يزال يُنظرُ إلى الكاتب والباحث وما ينتجه من إبداع ونتاج، خصوصًا في الإنسانيِّات بصورة سطحيَّة، سواء على مستوى المادَّة، أو على مستوى الوقت، فكثير من الكتَّاب المبدعين، والباحثين المنتجين يعانون من الوضع المادي الضحل، مما يجعلهم يضعون أعمالهم الكتابية والبحثية أقرب إلى الهامش في حياتهم، وبالتالي يبقون في دائرة النسيان».
ويضيف: «المؤسسات الثقافية تعاني كثيرًا من الشللية البرجماتية، فالشللية بالمفهوم الطبيعي التعاوني حالة صحية وطبيعية في المجتمعات الإنسانية، لكن الشللية البرجماتية تحصر العمل الثقافي والإبداعي في ذوات معينة ومتكررة، حتى ولو كانت أقل إبداعًا وعمقًا من غيرها، فهي حالة غير صحية، وتؤدِّي ليس إلى تهميش آخرين، بل إلى نسيانهم، كذلك تتضح مشاكل المؤسسات الثقافية عندما تتقمَّص دور الحكومة أكثر من الحكومة ذاتها، خاصة حين تحصر نطاق عملها في أفراد يهتمون بالظهور والرغبة في كسب مناصب أعلى، أو الاستمرار في كراسي هذه المؤسسات، أكثر من اهتمامهم بالعمل، فيهمِّشون من له رؤية ناقدة أو الأقل محايدة لسلطات المجتمع أيًَّا كانت».
ويتابع: «الكاتب أحيانًا يكون ردَّة فعل تذمرية للواقع لا أكثر، فلا يبحث عن فضاءات أخرى تفتح له حضورًا أكبر، خصوصًا في واقعنا اليوم الذي أصبح مجال الإبداع فيه مفتوحًا وفق التِّقنيات الحديثة، والقدرة على السَّفر، فيرضى بواقعه السلبي، ويدخل دائرة النِّسيان».
كيف يمكن إحياء الأعمال المهمة للكتَّاب الراحلين، وكيف يمكن للمؤسسات الثقافة الرسمية والأهلية استعادة أسمائهم وتعريف الأجيال الجديدة بإسهامهم؟ أسأل ويجيب: «بداية علينا أن نخرج من دائرة الاحتفاء إلى جانب الدراسة والنقد، كثيرًا ما يرحل عنَّا كاتب أو باحث يُحتفى به أثناء تأبينه ثم يذهب إلى طيِّ النِّسيان، وحتى هذا الاحتفاء غالبًا ما يكون مزدوجًا حسب الشلة، كما أن النقد قادر على وضع الأمور في مسارها الطبيعي، فبعض ما تركه الكتَّاب لا يتجاوز النَّسخ واللصق والتكرار، فلا جديد قدَّم، ولا قديم نقد، ولكن لاعتبارات أسريَّة أو دينيَّة أو منصبيَّة أو شلليَّة يجعلونه من العظماء، والعكس صحيح، فالعديد من المبدعين لا يُلتفتُ إليهم حتى على مستوى الاحتفاء».
بدر العبري له تجربة في غاية الأهمية، تتعلق بدوره في إحياء الكاتب العماني الراحل صادق جواد سليمان، من خلال كتاب وفعاليات، لماذا فكر فيه وهل يمكن أن يكرر التجربة مع آخرين؟ يقول: «صادق جواد سليمان لم يدِّون أفكاره مع عمقها، والأصل كان أن تصدر مقالاته التي جمعها سعيد بن سلطان الهاشمي، ومعها ما دوَّنتُه من حوارات معه، قبل مماته، لولا سبق الأجل، لقد أخبرت الهاشمي برغبتنا في طباعتها فأخبرني برفض صادق، لم أيأس وذهبت إليه، فأبدى موافقته، بل راجع الحوارات وأثنى عليها»، وأضاف: «ما جعلني أهتم بفكر صادق جواد سبق أن ذكرته في كتابي «الإنسان والماهية»، وفيه قراءة كاملة لفكره، فهو يمثل حالة إنسانية متقدِّمة في سلطنة عُمان، بل والوطن العربي. وقد اشتغلتُ أيضًا على تراث العلَّامة عامر بن خميس المالكي، وهو يمثل حالة فقهية مهمة، كما اشتغلت على تراث ابنه القاضي سعود بن عامر المالكي، ولي اشتغال حاليًا على مجلة «الغدير» وجهود الشيخ أحمد الفلاحي حولها».
كنوز الماضي
ويقول الكاتب المصري الدكتور أحمد إبراهيم الشريف: «لا ننكر أن العديد من الأسماء المهمة في عالمنا العربي، صاحبة المشروع والمنجز الإبداعي، تذهب إلى النسيان بعد رحيلها، ولعل ذلك جزء من معضلة، فالثقافة في عالمنا العربي، لا يأخذ الأموات ولا الأحياء فيها حقهم من الأساس. وبداية وجب القول: إن هؤلاء الكتاب الراحلين غير ملومين في ذلك، بل نحن الملومون؛ لأن الراحلين قد أدوا دورهم كاملًا، ونحن من ضيعناه».
يعود معظم الأسباب في وجهة نظر الشريف إلى الإعلام حيث يعلي من يشاء، ويخفض من يشاء ويدخله في غياهب النسيان، والإعلام يقصد به كل ما يتعلق بصناعة الترويج من صحافة أو برامج تلفزيونية وإذاعية أو ندوات ومؤتمرات، ولا يستبعد السوشال ميديا وما يحدث فيها.
هناك جانب آخر يصنع النسيان، بحسب الشريف، هو غياب الدور الفعلي للمكتبات العامة، التي صارت -إن وجدت- قاصرة على أنشطة معاصرة، لا تهتم ببناء العقول عن طريق خطة متكاملة قائمة على التواصل مع الأجيال السابقة، بل يقتصر دورها على تقديم أنشطة تلوين وأفلام كارتونية وغير ذلك، وهناك عامل مهم أيضًا يعود إلى تراجع نسبة القراءة، فكثرة المعروضات المعرفية للأسف لا توازيها في الوقت نفسه قراءة واعية أو معرفة حقيقية متعمقة ساعية للتعرف على خريطة الإبداع كاملة.
ويقول: «ما يهمنا الآن كيف نعيد لهؤلاء المبدعين الراحلين الحياة مرة أخرى، ونخرجهم من ظلمة النسيان إلى نهر الحياة، وهم يستحقون ذلك». ويضيف: «هناك حل يأتي عن طريق المؤسسات الحكومية، مثل وزارات الثقافة، فالواجب عليها أن تقدم سلاسل مثل «الأعمال الكاملة» لكن بشرط أن تكون هذه السلاسل ناتجة عن خطة، وليس النشر والسلام، كما يجب أن تصاحب ذلك ندوات وفعاليات تلقي الضوء على المنشور، إضافة إلى المؤتمرات العلمية والندوات الثقافية وإطلاق أسماء المبدعين على الشوارع والميادين. وكذلك زيادة البرامج الثقافية، بشرط أن يكون هدفها التواصل بين الأجيال المختلفة، وإعادة اكتشاف كنوز الراحلين بنفس درجة إلقاء الضوء على أعمال المعاصرين، كما أن دور النشر الخاصة أيضًا، عليها دور مهم، فهي تستطيع إعادة نشر ما نسميه «تراث الثقافة» وتعيد اكتشاف كتب وأفكار مبدعين رحلوا، فما قدموه يستحق الحياة، ويستحق أن يُقرأ مرة أخرى ويعاد اكتشافه».
الدور المفقود
من جهته يرى الناقد والشاعر السعودي عبدالله العقيبي أن الكاتب الذي كان يعتني بتحريك منتجه الإبداعي من خلال الحضور الشخصي، أصبح الرحيل يعتري أعماله أيضًا، بالتالي يصبح المنتج وحيدًا أمام جمهور القراء، ولا يبقى غير الوسط الأدبي والثقافي، وبما أن الوسط الثقافي وسط مريض ومتخاذل يذهب كثير من الكتَّاب المهمين إلى النسيان.
في هذه الحالة، بحسب العقيبي، يتوجب أن ينهض البعض بحمل الدور المفقود، من مجتمعات القراءة، ودور النشر، والمؤسسات الثقافية، ولا يجب أن يُكتفى مثلًا بذكرى يوم الوفاة كنوع من التذكر، هناك أدوات أكثر فعالية من ذلك، مثل الدراسات الأكاديمية عن الكاتب الراحل، والندوات الحوارية التي تتناول منتجه، وتفعيل المحافل الثقافية مثل معارض الكتب كمحاولة لإعادة قراءة أدب الراحلين، كل ذلك سيجعلنا نحسُّ بحرارة المنتج الأدبي السابق، والذي شكَّل مرحلة لولاها لما تطور المنتج الأدبي عامة.
الوفاء للراحلين ولمنتجهم الإبداعي، كما يرى العقيبي، دليل على التحضر، وعلامة على الوفاء، كما أن فيه محاولة جادة لتعريف الجيل الجديد بذلك المنتج، هذا التعريف ضروري، وهو شكل من أشكال التواصل الصحي، يحقق للأحياء حالة من الاطمئنان على حضورهم في التاريخ لا حضورهم في الحاضر فحسب.
عودة المواهب الكبرى
ويقول الكاتب المصري صابر رشدي: «في ظني أن الزمن يمسك بيمينه ميزانًا، مشابهًا لميزان ربة العدالة، معصوبة العينين، وبشماله غربالًا، لا سيفًا، لكنه يقوم بعمله بعينين مفتوحتين، وهو يعيد تقييم تجربة كل كاتب، عن طريق وضع أعماله على سطح هذا الغربال. الذي يتساقط، من ثقوبه، بلا عودة، كل ما هو رديء، وضعيف، ولا يرقى إلى المستوى اللائق التي تحرزه النصوص الجيدة».
في كل عصر، بحسب رشدي، هناك دائمًا كتاب يستحوذون على كل شيء أثناء وجودهم أحياء، الشهرة، الجوائز، الامتيازات، المقروئية تحت وقع الدعاية المكثفة. هؤلاء، تنحسر عنهم الأضواء فور اختفائهم عن الساحة، بعد حفلات التأبين، والمراثي الزائفة. طبقة متوسطي الموهبة، الذين ينفض عنهم متملقوهم تلقائيًا بعد الغياب.
يضيف: «منذ فترة قصيرة، كانت لدينا أسماء ملء السمع والأبصار، أخبارهم وصورهم تطاردنا في كل مكان. أين هم الآن؟ دخلوا تحت جناح النسيان. على الجانب الآخر، انظر إلى العودة الظافرة لكاتب مثل عبد الحكيم قاسم، المغبون حيًا، الذي أضاعه السفر والنأي الاختياري، وأضاعه غياب الدراويش والمريدين، ها هو يعود إلى الصدارة، مجددًا، ويعود إلى المقروئية، كأحد أهم أبناء جيله؛ لأنه صاحب أعمال تصمد أمام أدوات النقد وتسافر عبر الزمن بإمكانياتها الفنية وجودتها؛ كنصوص لا سند لها غير الموهبة الكبرى. أيضًا، هناك، الروائي الكبير سعد مكاوي، الذي غطَّت عليه أضواء نجيب محفوظ الساطعة، وتجاهله النقاد، مع أنه لا يقل مكانة عن عميد الرواية العربية وأستاذها المبجل. إنه يُستعادُ الآن أيضًا، وتقرأ أعماله الأجيال الجديدة. سيعود آخرون. محمود دياب، محمود البدوي، ميخائيل رومان، ضياء الشرقاوي.. وغيرهم. كما عاد يحيى الطاهر عبدالله، نتيجة دأب محبيه، الذين عملوا على جمع أعماله الفارقة وإعادة نشرها، وأثاروا اهتمام الآخرين به بجائزة تحمل اسمه، وبالحديث الدائم عنه».
ويختم حديثه قائلًا: «من واجبنا نحن، أفرادًا، توجيه الانتباه إلى هؤلاء الكتاب الحقيقيين. ولو بشكل فردي عن طريق إضاءة الطريق للاطلاع على أعمالهم. بالتذكير بهم، على الأقل، من خلال مواقع التواصل الاجتماعي التي أنقذت كثيرين من النسيان. من الواجب أن نفعل ذلك بعد خفوت الدور المؤسسي إلى حد كبير».
آفة حارتنا النسيان
الكاتب المغربي عبد الرحيم الخصَّار يبدأ بجملة نجيب محفوظ الشهيرة «ولكن آفة حارتنا النسيان»، ليؤكد أن «آفة مجتمعاتنا العربية هي النسيان أيضًا». يقول: «نحن ننسى الجميع، في مجال الكتابة وكل المجالات الأخرى، وأظن أن الأمر يتعلق بالتربية. نحن تربينا على النسيان، وربما ورثنا، عن أجيال سابقة، نسيان النوابغ والمبدعين ومن تركوا أثرًا قيمًا، خاصة في الحقل الثقافي، في الكتابة والأدب تحديدًا. نحن ننسى بسرعة، وإذا تذكرنا الاسم نتذكره كشعار، وليس كمشروع. لا نتذكر الأعمال ولا نجدد قراءتها. نحن في حياتنا العربية تقريبًا لا نمنح قيمة لأي كاتب، فليس هناك مبدع يُحتفى به ويُقدَّر من طرف المجتمع، وأقول المجتمع؛ لأنه لا يقرأ الكتَّاب في العالم العربي سوى زملائهم فقط، وهذا شيء مؤسف».
ويضيف: «أكبر تقدير لأي كاتب هو أن تُقرأ أعماله، وأن تحظى بالتقدير، سواء كان حيًا أو ميتًا، الكثير من الكتَّاب المغاربة لم يحظوا بالتقدير اللازم في حياتهم، وتم إدخالهم إلى ظلام النسيان بعد رحيلهم، وبالتالي ظُلموا مرتين». وتابع: «أعتقد أن وظيفة المؤسسات الثقافية العمل على إبقاء الكتَّاب الراحلين قيد الحياة، عبر تجديد طبع أعمالهم وتخليد أسمائهم بإطلاقها على شوارع ومدارس ومؤسسات».