بستان المهاجر
راودني حلم السفر منذ مراهقتي، لأنه اقترن بالحريّة، وطيفها، وبالتخلّص من قيود مجتمعيّة (نظام أبوّي ومجتمع تقليدي محافظ) وأخرى سياسيّة (نظام دكتاتوريّ). كان الإبداع في مجال الأدب، بالنسبة لي، هو الهاجس الأول والأخير وأدركت مبكّرا أن الكتابة هي وحدها ستعطي وجودي معنىً وغاية. لكن الحيّز الثقافي، في عراق الثمانينيّات، كان قد أصبح مجيّرا، عموما، لثقافة وأدب الحرب ضد إيران (١٩٨٠-١٩٨٨) أو «قادسيّة صدام» كما كانت تسمّى رسميّا، ومكرّسا للاحتفاء بشكل مباشر وفجّ، أو غير مباشر، بزمن البطولات والانتصارات وبعبقريّة القائد وبالمناخ السائد وإعادة إنتاج خطاب السلطة وتكريسه. على الرغم من رغبتي العارمة والطبيعيّة لأي كاتب/ة في أن أشارك القراء نصوصي وأوصلها إليهم وإليهنّ (وكنا آنذاك في زمن ما قبل الإنترنت وانتشار وسائل التواصل، فكان حيز النشر ورقيا ومحدودا جدا) فلم أنجرف مع الطوفان. كانت نصوصي حزينة أصلا، مهمومة بمحنة الوجود والعيش في وطن تحوّل إلى سجن كبير، يجبر سجناءه على خوض حروب لا تنتهي. وإذا انتهت واحدة، أعقبتها أخرى. نصوص تتشح بالسواد ولا تحتفي بالنصر الدائم وبذلك لم تكن تعبويّة ولا تصلح للنشر. ولحسن حظي رفضت الاشتراك في مهرجان التطبيل والسيرك الثقافي، الذي يدّعي الكثير ممن اشتركوا فيه آنذاك، يدّعون اليوم بطولات لم تكن. هناك من استفاد من خبرته في التطبيل لنظام ما قبل ٢٠٠٣، ليعيدوا الكرّة مع النظام الذي أعقبه والذي يفترض أن يكون نقيضا له (وهو ليس كذلك). والبعض منهم يتبوأ اليوم مناصب في المؤسسات الثقافية في العراق. النصوص الوحيدة التي نشرتها كانت في مجلّة «اليوم السابع» التي كانت تصدر في باريس.
تركت مدينتي وبلدي حين رفع منع السفر بعد حرب أمريكا الأولى ضد العراق عام ١٩٩١ والتي تسمّى «حرب الخليج». لافت كيف يغيّب الطرف الذي يشن الحرب، فيصبح غزو العراق واحتلاله عام ٢٠٠٣ «حرب العراق» وكأن الحروب تشنّ نفسها بنفسها).
كنت متلهفّا للسفر. حالما تحرّكت الحافلة من بغداد نحو عمّان، وبعد أن غابت وجوه أهلي وأصدقائي، بكيت. فالقلب وحده يعرف ما يخسره المرء، حتى وهو يسرع نحو حريّته.
***
ظفر الطير بحرية الرفرفة والتحليق في سماء أخرى، بعيدة. لكنه خسر الغصن. الغصن الممتد من شجرة داخل السجن. لكنه سيحتفظ بمعنى الغصن وذاكرة الشجرة، لا بل ذاكرة البستان بأكمله.
***
أنا كائن لغويّ. واللغة العربية، بأصواتها وحروفها وحضورها اليومي، بالفصحى والمحكيّة، هي ما افتقدته بشكل حاد بعد وصولي إلى الولايات المتحدة في صيف ١٩٩١. كان الحصول على جريدة باللغة العربيّة يتطلّب رحلة ساعة ونصف من ضواحي المدينة التي عشت فيها إلى المكتبة التي تبيعها. ستخفف الصداقات الحميمة مع كائنات لغويّة عربية وظهور الإنترنت وسهولة الوصول إلى المواقع والمنصات بعدها بسنوات من حدّة هذه الغربة اللغويّة. كان لدخولي إلى الجامعة لدراسة الماجستير والدكتوراه والسنوات التي أمضيتها فيهما أثر سلبي على الكتابة التي انقطعت عنها لسنوات مما ضاعف من اكتئابي وغربتي عن أحلامي الإبداعية.
فلم يكن التحصيل الأكاديمي غاية بحد ذاته، بل فرصة للاغتناء المعرفي. كما أن المجال الأكاديمي كان الملجأ المناسب، والوحيد، لمزاجي الشخصي وبحثي عن هامش من الاستقلال النسبي والحريّة، مقارنة بغيره في مجتمع رأسمالي. وشعرت بإحباط ومرارة لابتعادي عن الكتابة وتأخري في إنهاء الرواية الأولى التي كنت قد بدأت كتابتها في العراق. لكن سنوات الدراسة الأكاديميّة والقراءة والتعمّق في تاريخ الأدب العربي والنظرية الأدبية طوّرت مهاراتي كقارئ، وأعطتني خزينا معرفيا وجماليا ما زلت أقطف ثماره.
***
قد لا يحمل المهاجر معه أكثر من حقيبة أو اثنتين. لكن الذاكرة حقيبة لا مرئية، هائلة الأبعاد، يحملها المهاجر ويعبر بها الحدود ونقاط التفتيش. ويفتحها فيما بعد حيثما شاء ومتى ما شاء. وقد تحمله هي أيضا فيما بعد. لأنها ترتبط بحقائب أخرى. فالذاكرة الفردية تنفتح على الذاكرة الجمعية وعلى تاريخ وأرشيف مفتوح. ولكن هذه الحقيبة قد تثقل أحيانا كاهل المهاجر نفسيا أيضا. حتى أنه سيحاول التخلّص منها ومن أعبائها. وهذا ما يعاني منه إحدى شخصيات روايتي الأخيرة، «خزامى». لكن الذاكرة، بالنسبة لي ليست عبئا، بل كنز أحرسه وأعود إليه. وليس «كنزا ناقصا كل ليلة» بل العكس.
***
يقال إن البعد الجغرافي يعطي الكاتب مسافة قد تسمح له أو لها برؤية نقديّة معمّقة للوطن الأم، وهذا صحيح. لكن هناك أيضا هاجس حقيقي وشرعي من أن تكون لهذا البعد الجغرافي تبعات سلبيّة تؤثر على طبيعة تعامل الكاتب مع المكان الذي يكتب عنه وله، إذا اختار ذلك. حين وصلت إلى نقطة مهمّة في حياة المهاجرين وهي أن السنين التي أمضيتها خارج العراق، تساوت مع تلك التي قضيتها فيه (وتجاوزتها الآن بما يقارب العقد) خيّل إلىّ أن علاقتي ببلادي التي هاجرت منها ليست خطية. فأنا في مدار عجيب وأجدني أقترب منها أكثر بمرور الوقت. ولكل منّا سلالة ممن سبقوه في مسار الهجرة وممن ساروا بعيدا في مدارات مشابهة. هناك غائب طعمة فرمان (١٩٢٧-١٩٩٠)، وسمير نقّاش (١٩٣٨-٢٠٠٤) وسرگون بولص (١٩٤٤-٢٠٠٧).
وأكثر ما يفرحني هو حين يكتب لي قارئ مستغربا بعد قراءة رواية لأنّه كان يظن أنني ما زلت أعيش في العراق.
***
إذا كانت الغربة قد بدأت بالاغتراب اللغوي فإن اللغة أصبحت بمرور الوقت البيت الذي أعود إليه دائما وأسكن فيه. وهي بيت شاسع وخرافي الأبعاد والمعمار.
حجراته قصائد وأغنيات وروايات وحكايات. وهناك نافذة أطل منها على بستان من القصائد والروايات وأرى الأغصان التي ولدت من الذاكرة ومن جذورها. وأفرح بزوار بستاني. سنان أنطون شاعر وروائي عراقي