برشلوني
«أعتذر منكم، سأتابع المباراة مع معاذ». أرسلت للمجموعة بالواتس آب.
هي المرة الأولى التي أعتذر فيها عن متابعة مباراة بهذا الحجم معهم. لم يسبق لي فعلها. أحرص على الدوام أن أكون بينهم حتى لو لم يكن فريقي طرفا فيها. لكن ما يهم الليلة هو أن يخسر ريال مدريد، سأصلي وأدعو ربي. أكره أن أعيش الأيام الكئيبة تلك مرة أخرى.
«يبدو أنك واثق من فوزه الليلة، لذلك تتجنب وجودك معنا» يرد أحدهم، فتنهال عليّ وجوه الإيموجي الضاحك بمختلف تعابيره.
حقراء..
بارعون في رشّ الملح على الجرح. يدركون أنني فاشل في التمثيل، وأن انطباعات وجهي تفضحني. بيننا، من يكرهون الريال مثلي، لكنهم يجيدون إخفاء حقيقة مشاعرهم، ويبرعون في التمثيل، بحجة أنه فريق أسباني. أنا لا أستطيع. هناك حقيقة واحدة واضحة، وهي أنه مهما كانت جنسية الفريق الذي يلعب الريال ضده فسأشجعه، حتى إن كان فريق إبليس.
تلك الليلة التي تحول فيها فرحي إلى صدمة في بضع دقائق، ففاز الريال في النهاية، غلى دمي برغبة جامحة في الصراخ والرقص، حين سجّل بايرن ميونخ الهدف الأول في المباراة، لكنني خفت من ألسنتهم السليطة، فلم تواتيني الجرأة حتى على رسم ابتسامة ولو بسيطة على وجهي، وقد تعمّدوا لحظتها إرسال نظراتهم نحوي. كانوا تواقين لرؤية علامات فرح على وجهي تشفع لهم بمهاجمتي. أتذكر أنهم ذات مرة وبخوني حين لعب الريال أمام لايبزيج الألماني قبل ذلك: «عيب عليك تشجعه، لو أنه ما ألماني كان بنسكت»، ولم أملك ردا.
أدرك أنهم يتعمدون أذيتي مثلما آذيتهم ذات يوم، حين كان فريقي الأقوى، لكن الحال تردّى منذ سنوات، حتى أنني لا أتذكر متى لعب برشلونة في النهائي آخر مرة! وما زاد الأمر سوءًا أن خسائره تكررت مؤخرا، وأمام من؟! أمام العدو اللدود لا غيره، الذي لا أكره شيئا في هذه الحياة مثلما أكرهه.
لكن اللوم كله يقع على الرئيس البغيض «لابورتا»، الذي لوحده يتحمل كل أسباب الفشل، لا شكّ أنه أغبى المخلوقات على وجه الأرض، فحتى المعتوه، لن يترك «ميسي» يرحل بتلك السهولة. أين كان البرشا حينها وأين صار اليوم؟! ولم يكفه ذلك، بل زاد الطين بلّة حين أتى بهذا الطفل البائس «تشافي»، فخلت الساحة للريال الذي تطاول ورفع رأسه وأصبح يصول ويجول وينتصر ويحصد الكؤوس الواحد تلو الآخر.
«إذا لم تذهب للنوم الآن، فسأمنعك من مشاهدة المباريات للأبد»
«بابا، هذي لعبة ..كرة قدم....»
أقاطعه..
«لا تكرر عليّ نفس الكلام، لست في مزاج يسمح لي بسماعك، وإلا ألغيتُ الاشتراك في القناة»
كان ذلك ليلة فاز الريال على البرشا بثلاثة أهداف في الدوري، ولم تكن حسرتي عادية حينها، فقد كنا متقدمين في مرتين.
وفي مباراة الريال ومانشستر سيتي الثانية هربتُ من وسط الأصدقاء «المدريديين» وأولئك المدّعين بأنهم مدريديين، على مشهد فوز الريال بضربات الترجيح، متفاديا ما يجعل بقية ليلي غارقا في الغمّ. لكنني رغم ذلك لم أنم. بقيت ألعن وأشتم في جوارديولا واللاعبين بلا استثناء، فقد تبخّر الأمل الوحيد، بعدما كنتُ واثقا من تكرارهم لنتيجة العام الماضي وإبادة الريال شرّ إبادة. خاب ظني، وكدت من فرط الغيظ أن أتناول أثقل شيء يمكنني حمله، وأرسله إلى شاشة التلفاز حين عدتُ إلى البيت وشاهدتُ ابني المدريدي يتابع احتفالاتهم بالانتصار والسعادة يملأ وجهه.
ولولا خشيتي من العواقب، لوجهتُ لكماتي القاسية لكل من حاول السخرية من البرشا، صديقاً كان أم غريباً، بل سأحطم عظامه لو أفرط في الاستهزاء ولم يتعظ، حتى وإن كان ذاك أحد أقاربي، أو حتى ابني معاذ.
لسوء حظي، فألم خروج البرشا على يد باريس سان جيرمان كان مضاعفاً هذه المرة، فبعدهُ، لم يعد بإمكاني مؤازرة أي من الفرق المتبقية. بالتأكيد ليس أمام الأصدقاء، وإلا فعبارات اللوم والتوبيخ جاهزة: «ألمانيا وفرنسا وإنجلترا، كلها تدعم إسرائيل، فكيف يطاوعك قلبك على تشجيع من يرسل الأسلحة لقتل الأطفال في غزة، بينما أسبانيا وقفت إلى جانب فلسطين!»، «لا تجعل كرهك للريال بسبب برشلونه الفاشل يعميك عن الحق»،»الكثير من ريع المباريات يذهب للحكومات، وأنت تعرف أين تذهب تلك المبالغ بعد ذلك» فتلفعتُ بالصمت. في المرة الوحيدة التي واتتني الجرأة وذكرّتهم بالشعارات التي ترنموا بها سابقاً من أنه لا علاقة للرياضة بالسياسية، وأن الأندية ليس لديها مواقف سياسية، وليتني لم أنطق، وجدوها سانحة لتأنيبي: «واضح إنك ما مع المقاطعة»، «ناقص تقول ما علاقة ستاربكس بالسياسة، وما علاقة كنتاكي وماكدونالدز بالسياسة». «نعرف أنك تحب البيتزا هات، هل ما زلت تشتريها بالخفاء؟» ثم يقهقهون بسخرية. احتلني ندم هائل دمّر بقية يومي وليومين آخرين.
كان اللاعبون قد بدأوا في الدخول إلى ملعب ويمبلي بلندن، حين انتشلني معاذ من وسط أفكاري:
«بابا، نتراهن؟»
لم أكن حتى في مزاج لتحريك شفتيّ، فالأمل ضعيف في أن يذهب الكأس إلى ألمانيا هذه المرة. ومع ذلك، تصنّعت ابتسامة على وجهي وأنا أرد عليه:
«الريال بيفوز»
«هذا مضمون بابا، ما أراهنك من بيفوز؟ أراهنك بكم بيفوز؟ أربعة أم خمسة أم ستة؟»
غلت الدماء في عروقي، لكن كان عليّ التحكم بأعصابي. بخلاف أنه يُحب قميص الريال الأبيض وشعار التاج «الملكي» عليه! فأنا لا أفهم كيف أصبح ابني مدريديا؟! ولا أفهم كيف يملك الشجاعة والجرأة لإثارة أعصاب أبيه رغم تهديداتي المستمرة له؟!
«بابا هذي كرة، ما مفروض تعصّب، وبعدين هذا فريق في أسبانيا، ما في بلادنا، أستغرب من الناس اللي تتضارب على أندية في دول ثانية».
قالها حين فاز الريال على البرشا بكأس السوبر وبأربعة أهداف، واشتعلت حرب ضروس في وسائل التواصل بين مؤيدي الفريقين. ورغم اقتناعي بما قاله، لكنني لم أكن أملك في الأمر من حيلة. سبق أن حاولت، أكثر من مرّة، ليس لقتل مشاعر التأثر بنتائج البرشا السيئة وحسب، بل بالتوقف عن متابعة المباريات تماماً، وفشلت.
آه، كاد الأمر أن يكون جميلا لو أن دورتموند بادر وسجل ليلتها، لقد أضاع الحمقى الكثير من الفرص. «أولاد ....، دائما محظوظين»، أهمس في داخلي الحانق.
لكن الأمل البسيط في أن يحقق دورتموند المفاجأة سرعان ما تبخر، حين سجل الريال هدفه الأول. سلّمتُ بالأمر. أخذت بعضي واتجهت إلى غرفة النوم. لن أسمح بالمزيد من الألم، يكفي خمسة أشهر من العذاب.
«مبروك»
قلتها لمعاذ من دون نفس وأنا أدخل الغرفة.
كانت أمهُ في نوم عميق. كم أحسدها. «أنتوا رجال بعقول أطفال، ولّا فيه عاقل يخاصم أخوه عشان كرة؟» تكرر جملتها باستمرار، والتي سبق أن سمعتُ مثلها من كثيرين.
فعلا، لا يوجد عاقل. أقول لنفسي.
لعنتُ لابورتا وتشافي وجوارديولا والريال مرة أخرى. لا أطيق مجرد التفكير فيما سيحمله الغد لي من صداع. سأستيقظ على كمية هائلة من سخافات الأصدقاء وتهكماتهم على فريقي، رغم أنه لم يكن طرفا في المباراة. هي فرصة جديدة للمدريديين للتهكم والازدراء. يا للحظ العاثر، فلم يمض حتى شهر ونصف منذ أن تمسخروا بنا أيما استهزاء!
ليس بأقل من ثلاثة أيام قادمة إذن، التي عليّ أن أمتص فيها سموم سياطهم الموجهة صوبي، وأن أستمر «بروح رياضية» في الرد بابتسامات الإيموجي، حتى يُشفى غليلهم، وتخمد النيران المستعرة في صدورهم.
لم أضع الهاتف على الصامت، بل أطفأته بالكامل.
يونس الأخزمي كاتب وروائي عماني