No Image
عمان الثقافي

اللقاء الثاني بالبوكيرك البرتغالي

25 يونيو 2023
25 يونيو 2023

«لم أجد أبدا ضالتي في الحياة الصحية السليمة والطبيعية، لم يستهوني الممكن، بل المستحيل بطبيعته».

فرناندو بيسوا

هذه لشبونة تتمطّى وادعة على المحيط. ما الذي دفع أسلاف هؤلاء البشر إلى أن يقطعوا آلاف الأميال في القرن السادس عشر ليدمروا قريات وقلهات ومسقط ويحرقوها ويقتلوا النساء والأطفال؟ لقد كتب الفونسو البوكيرك بفخر حول كل ما ارتكبه في سواحل عمان في رسائل موجهة إلى ملك البرتغال آنذاك. حين قرأت هذه السجلات هالتني الوحشية والجشع، نقب جنود البوكيرك جدران بيوت مسقط بحثا عن كنوز مخفية، قبل إضرام النيران فيها وفي جميع سفن الميناء، قدم له أهالي قريات سلال الليمون والرمان لاستشفاف نواياه في البدء، فرد عليهم قصفا بالمدفعية، واجهوه بالسهام فأحرق المدينة بعد نهبها ونقل الأسلاب إلى سفنه. أحرق المسجد الذي وصفه بأنه أجمل المساجد في قريات وأشعل النار في ثمان وثلاثين سفينة. ولكن ها أنا في بلاد البوكيرك، بعد أربعمائة سنة تقريبا من طرد العمانيين للبرتغاليين. دُعيتُ ضيفة على المهرجان الأدبي بلشبونة، فقررتُ تلبية الدعوة، نريد من الأدب أن يقربنا، أن يجعل البرتغاليين يفهموننا كما لم يفهمنا أو يُعنى بفهمنا قائدهم السفاك الشهير.

فكرتُ والضابط يختم جوازي للدخول: ماذا بقي منهم فينا غير قلعتي الجلالي والميراني؟

لشبونة حارة في مايو، غير أن النسائم لطيفة، السياح كثر، والمطاعم شديدة التنوع، وحتى في المطاعم البرتغالية كان عليّ أن أشرح للنادل الهندي أني أرغب في طعام برتغالي أصلي، فأصر على أن البايلا برتغالية، فلم أجادله في إسبانيتها، فأنا أعتقد أن مطابخ الشعوب عابرة للقارات، ونزاع الأتراك واليونان مثلا حول أصل ورق العنب أجده شيئا طريفا، خاصة أن صديقتي السورية كادت أن تضرب زميلتينا التركية واليونانية حين تجادلتا على منشأ محشي ورق العنب، لأن الطبق «سوري بلا نقاش»، كما قالت.

ركبت المترو في الصباح وأخذت أتفرج على تنوع البشر، طلبة وموظفين، وشبان وعجائز، ألوان وسحنات مختلفة، كلٌّ في فلَك يسبحون، لكن قبل توقف المترو في محطتي بدقيقة واحدة اقتحمت فَلك المرأة بجانبي لأسألها إن كانت هذه هي المحطة الصحيحة، فأجابت بأنها غريبة، فقلت: حتى أنا، فقالت إنها وصلت أمس فقط، فقلت: حتى أنا، فقالت: إنها لا تعرف البرتغالية، فقلت: حتى أنا، وعندئذ سألتها: إلى أين تذهب، فقالت: إلى أي مكان، وفي الثواني الباقية على توقف المترو دعوت المرأة الغريبة لمرافقتي فنطَّت معي إلى الرصيف على الفور. تجولت مع «إرمي» التي تبين أنها صحفية من النمسا في حي ألفاما العتيق، الشوارع المرصوفة بالحجارة الصغيرة، والجدران المبلطة بالفسيفساء، والمشاهد الآسرة للبحر، وجدت نفسي وأنا التي أزور المدينة للمرة الأولى، في دور المرشدة السياحية لإرمي معتمدة على قائمتي المسبقة وخريطة جوجل، ففكرت أن هذا الانفتاح السريع للتجول مع غريبة تسلل إليَّ من رحلات خالي محمد الحارثي الذي كان يرافق الغرباء بسهولة، على أي حال كانت رفقة إرمي طيبة، تسلقنا المرتفعات وهبطنا إلى المقاهي الصغيرة، وتذوقنا أطيب آيس كريم، واستمعنا إلى موسيقى الفادو الشهيرة، ثم حكت لي ونحن نأكل معجنات «باستيل دي ناتا» الحلوة عن زوجها اللاجئ من غامبيا، المسلم، الذي يصغرها بثمانية عشر عاما، في البدء طردها والداها من البيت لما تزوجته، لكنهما رضيا به لما أخذ يعتني بشيخوختهما.

كما تحول كافكا إلى أيقونة لبراغ، تحول بيسوا إلى أيقونة لشبونة، فكرتُ فيه وأنا أتأمل مقهى لابرازيليرا حيث اعتاد أن يكتب، مقهى به الثريات ضخمة، والأثاث كلاسيكي، والندل غاضبون. جلست في الكرسي المقابل لتمثاله وسألته: كيف ارتديت كل هذه الأقنعة يا بيسوا وكتبت بكل هذه الأسماء المستعارة؟ هل أنت فرناندو بيسوا أم ألكسندر سيرش؟ هل خطر ببالك وأنت تنكفئ على طاولتك في هذه الزاوية كاتبا الرسائل الرقيقة لحبيبتك أوفيليا، أن رسائلك الحميمة ستُقرأ بكل اللغات؟ وأن مدينتك التي وصفت ساحاتها وشوارعها بتلقائية ستُؤلهكَ من أجل السياحة؟

هل تصدق هذا وأنت القائل: «أنا ظِلُّ نفسي ذاتها، أبحث عن الظل. أحيانا أتوقف عند حافة نفسي وأتساءل ما إذا كنت مجنونا أو أنني سرٌّ موغلٌ في السريّة». هذا السر بعد أكثر من ثمانين عاما على وفاته يتحول إلى صور للشاعر بشاربه الصغير المميز وقبعته العالية على الجداريات، واللوحات، والقمصان، والتحف، والكتيبات السياحية، وعلاقات المفاتيح والبطاقات. بالطبع هناك كل هذا الترويج السياحي، ولكن جوهره الأساس ثقافة أن تستمد المدينة هويتها من مثقفيها، وتسمي أحياءها وشوارعها بأسمائهم، وتحول بيوتهم إلى متاحف، ومقاهيهم إلى مزارات. تذكرت كيف منحت مدينة فروتسلاف، المدينة المفضلة للكاتبة البولندية توكارتشوك، تذاكر المواصلات مجانا في المدينة، لأي راكب يحمل كتابا، ورقيا أو إلكترونيا للكاتبة الفائزة بنوبل.

هل لشبونة مدينة منفتحة؟ هل البرتغاليون أقل عنصرية من الأوربيين الآخرين؟ هذا ما يبدو لزائر المدينة، ولكن ربما يكون للمقيم رأي آخر، فالكاتبة البريطانية النيجيرية تاي سالاسي ترى بأن الإرث الاستعماري في أوروبا، ومنها البرتغال، لم يناقش بشكل كاف، وأن الناس في الشارع يسألونها لما يرون لطفها مع ابنها الأفتح منها لونا، إن كانت تقبل أن تعمل مربية لأطفالهم (على اعتبار أنها مجرد مربية للطفل الذي تلعب معه نظرا إلى لون بشرتها)، وأنا أستمع إلى كلمتها الآسرة في مهرجان لشبونة الأدبي استعدتُ حواري مع مثقفين برتغاليين حول النظرة إلى الماضي الاستعماري، قلت لهم بأن البوكيرك كتب بفخر أنه صلم آذان «المسلمين»

وجدع أنوفهم، فبالنسبة للحملات الاستعمارية لا هوية لمن اجتاحوهم غير كونهم «مسلمين» أي أعداء. فكيف يُنظر إليه هنا؟ كيف تصوّره، هو وغيره، المناهج المدرسية؟ قالوا بأن هؤلاء القادة العسكريين ظلوا ممجَّدين لفترة طويلة، غير أن النقاش مفتوح الآن بشأن الماضي، ولكن الأمر ليس سهلا. فقلت في نفسي بأن النقاش على الأقل مفتوح فيما نحن ما زلنا ننتظر نقاش تاريخنا بحرية.

مثل كثير من المهرجانات الأدبية التي دعيتُ إليها، لا يوجد كاتب عربي غيري، أشعر بمسؤولية الحديث عن الأدب العربي، أن أقول للعالم أنه يستحق أن يُقرأ، لا أدري لماذا أخبرت الصحفي في مجلة فيزاو عن أبي حيان التوحيدي، وحين طلبت مني محاورتي في المهرجان، ايزابيل لوكاس، الإعلامية اللامعة، أن أختم جلستنا بأبيات عربية اخترت جميل بثينة، لقد بدا لي دوما أن شعر الحب هو الشعر الحقيقي. أقيمت الجلسة في مركز جالفيش الثقافي الذي كان قصرا في القرن السابع عشر، وأصبح متحفا ومكتبة اليوم. ساراماجو الذي نشأ فتى فقيرا لا يمتلك ثمن الكتب ثقَّف نفسه في مكتبة هذا المركز، واختاره ليكون مكانا لآخر لقاء يجريه في حياته، فسعدتُ أن القاعة التي أقيمت بها الجلسة الأدبية الخاصة بي كانت على اسمه. سألتني ايزابيل عن معنى كوني كاتبةً من الهامش، فأجبتها بأن هذا يعتمد على ما تعدّه هي مركزا حتى تعدّ غيره هامشا! واصلنا الحديث عن مركزية الأدب وهامشه في الأدب ونحن نتجه لتناول العشاء، اختارت ايزابيل طاولة خارجية وأطباقا تقليدية خفيفة، كان الجو يزداد برودة بتقدم الليل، ولكني رغبت في مواصلة الحديث عن ساراماجو معها ومع ميريام، إحدى المنظمات الرائعات للمهرجان الأدبي، تساءلتُ أين الكاتبات البرتغاليات من خريطة الترجمة إلى العربية، قالت ميريام أن هذا الغياب غير مقتصر على الترجمة العربية، إذ يسيطر الكتاب الرجال على الأدب المترجم من البرتغالية إلى اللغات الأخرى.

لا يمكن أن تكتمل زيارتي لأي مدينة مهما كان وقتي ضيقا بغير زيارة المتاحف الفنية. اخترت متحف الفن القديم، الذي كانت بعض لوحاته ملهمة، وأكثرها دينية، إذ كان الفن بأوروبا في القرون الوسطى يعلم الناس الأميين التاريخ المسيحي، ثم ضللتُ الطريق قليلا بين القطارات والباصات حتى وصلت إلى متحف الفن الحديث، حيث تأملت طويلا لوحة سلفادور دالي، ولوحات الفنان البرتغالي فيلوزو سالجادو، خاصة بورتريه الفتاة الصغيرة الشهير.

في طريقي للخروج من بوابة المتحف رأيت هذا الرجل الضخم ذا الشارب المفتول والملامح المتجهمة ينظر إليَ، لم يفسح لي الطريق، فلم أتمالك التفكير أنه من سلالة البوكيرك، أحسستُ أنه هو الرجل الذي قال لتايا سيلاسي: «لقد كنا نمتلككم»، قلتُ له بالعربية: «لقد طردناكم، شكرا لليعاربة!»، فأزاح جسده الضخم، فعبرتُ.

جوخة الحارثي أكاديمية وروائية عمانية