الكرة بين قدم اللاعب، وهتاف الجمهور
أصبح موضوع كرة القدم من المواضيع الذي يطرحها الأدب، ويقترب منها، ويشتبك مع جنونها، ويتفاعل معها، أو يجعلها ثيمة لموضوعه، سواء رواية أو قصة أو مقالات أدبية أو نصوصا مفتوحة.
ومن خلال هذا الاقتراب من عالمين مختلفين يمكننا أن نطرح عدة أسئلة في هذه الزاوية: من يستفيد من الآخر؟ الكرة من الأدب أم الأدب من الكرة؟ أم إن العلاقة النفعية (إذا جار التعبير عنها) متساوية؟ هل يبحث الأدب عن جماهير في مساحة كرة القدم؟ أم إن كرة القدم تبحث عن أقلام لتكتب تاريخها وأحلامها وخيباتها؟ أم إن من حق الأدب أن يدخل في كل عوالم الحياة وقضاياها؟ وهل تحتاج الكرة إلى من يسلط عليها الضوء، وهي التي سرقت الأضواء من كل النخب الأخرى، وخاصة في زمن الصورة؟ هل العلاقة بين الأدب والكرة تنافسية؟ أم لكل منهما مجاله وعوالمه؟ هل يشعر الأدب بأن الكرة سحبت الجماهير إلى ساحاتها وتركته وحيدا في القاعات المغلقة؟ هل فقدت الجماهير المتعة بالأدب وعوالمه، وذهبت إلى ساحات المستديرة لتغمس في المتعة والدهشة؟ هل المتعة وحدها ما تجمع الأدب والكرة؟
الأسئلة التي طرحتها، ليس بالضرورة علينا أن نبحث عن أجوبة لها في هذا المقال، ربما هي للتفكر والتساؤل في هذه «العلاقة الملتبسة». سأقترب من عوالم هذا الموضوع من خلال كتابين صدر مؤخرا، الأول للكاتب والإعلامي العماني سليمان المعمري، بعنوان «بيليه أم مارادونا؟ الإجابة ميسي». ( وهو عبارة عن مجموعة مقالات صدرت في كتاب مجلة نزوى (2023)، أما الكتاب الثاني: «لولا فسحة الملعب» تأليف وتحرير: أدهم عبدالله وبمشاركة: سليمان الحقيوي وعماد بن صالح، ومحمد حسن أحمد. وهو صادر عن دار أوكسجين (2023).
بين الذات والآخر في ساحة النص والكرة
ذهب الكتاب الأول، بمقالاته المتعمقة إلى الاقتراب من عوالم هذه الكرة وصانعيها وأحلامها وغرائبتها ودموع فرحها وبكاء خساراتها، ومن العتبة الأولى للنص «الكتاب» يذهب الكاتب إلى ثلاثة من أساطير الكرة في العالم، بيليه ومارادونا وميسي، ويضع القارئ بين خيارين صعبين في الاختيار، الجوهرة السمراء بيليه والأسطورة مارادونا؟ لكن الكاتب يباغت القارئ ولا يترك له الوقت ولا التفكير في الاختيار، فيختار (الكاتب) ميسي. وفي مقدمة الكتاب سيذكر السبب في ذلك الاختيار المباغت والسريع.
«والآن: لماذا عنوان: بيليه أم مارادونا؟ الإجابة ميسي؟
قد يُؤول قارئ هذا العنوان بأني أقرر أن الحي أبقى من الميت، وهذا تأويل لن أعترض عليه. وقد يقول قائل إنني أحببتُ أن أجمع في سطر واحد ثلاثا من أساطير كرة القدم، وهذا أيضا لن أعترض عليه. وقد يقرر قارئ خبيث أنني متعصب لميسي بما أنني وضعته في خانة الإجابة في حين ألقيتُ بسلفيه الآخرين في أتون السؤال، فيرد عليه قارئ آخر أخبث منه: «لكن السؤال أهم بكثير من الإجابة». ص11
ومن العتبات التي لا يمكن تجاوزها في الكتاب صورة الغلاف، وهي للفنان البحريني حسين المحروس. ودلالة الظلال في الصورة والترقب بين الحارس والطفل الذي يحمل قميص ميسي مقلوبا. كل شيء في صورة الغلاف يدعو للترقب أولا، والتساؤل هل سيحرز الطفل «صاحب قميص ميسي الهدف؟ مثلما يترقب القارئ: هل يستطيع الكاتب أن يقنعه بأن ميسي، وهو الأفضل.
ولكي يدخل المعمري القارئ في سحر الكرة وعوالمها، فلم يتركه فقط حائرا في العنوان ومندهشا من صورة الغلاف، بل قسّم فهرس الكتاب بما يتناسب مع مباراة كرة القدم. حيث نجد تذكرة المباراة بدلا من فهرس الكتاب، ونجد الفصول قد قُسمت إلى الدخول إلى الملعب، شوط أول وشوط ثانٍ، والوقت بدل الضائع، والخروج من الملعب. في رأيي الشخصي بأن الكاتب وفق في ذلك، ليجعل القارئ وكأنه في مباراة حقيقية، وهو يتجول بين مقالات الكتاب ونجوم الكرة. وليكسر كذلك رتابة الفهارس في الكتب. إذا نلاحظ إن الكاتب قد جهز أجواء الكتاب، وكأنه مباراة ستحدث بين دفتي الكتاب، كل شيء جاهز ومجهز: اللاعبون، والجمهور والمحللون والبطولات والكأس.
وقبل الدخول إلى الكتاب، عذرا أقصد ملعب الكلام والكتاب، يضع لنا المعمري مقولة لعالم الحيوان الإنجليزي ديزموند موريس: «طالما أن الجنس البشري قادر على الاهتمام بأكثر من مجرد البقاء على قيد الحياة، فإن كرة القدم ستحتلّ مكانها».
في صافرة البداية وقبل بداية المباراة، وقبل دخول اللاعبين وهتاف الجماهير، توقف الكاتب قليلا، ليعود بذاكرته الأولى وبعلاقته بهذه المستديرة وجنونها، وحلمه بأن يصبح كمارادونا، وكان ذلك في مونديال 1986 م، وهنا المعمري يستذكر ويذكر لنا ثلاث حكايات «محفورة في الذاكرة»، الأولى والثانية مرتبطتان بألم شخصي، الأولى لكي يحصل على كرة طفولته الأولى كان عليه أن يتحمل «وسم» في صدره وهو في سن الطفولة. «أخذتها، لكني أبدأ لم أكن سعيدا بها. لعلي كنت أفكر لحظتها أن ثمن هذه الكرة كان باهظا، باهظا جدا». ص14
وأما الذكرى الثانية المرتبطة في ذهن الطفل عن الكرة هي كسر يد أخيه حمدان إثر سقوطه على الأرض الصلبة في الظلام. مما ترتب على ذلك منعهما من اللعب في المزرعة، واعتزال حمدان اللعبة. أما الذكرى الثالثة فقد حدثت للكاتب، وهو في المرحلة الثانوية في صحار، فقد رفس الكرة بطريقة ما، ومن دون أي تخطيط أو قصد، فاستقرت في شباك الفريق الخصم.
هذه كانت بدايات علاقة الكاتب بالكرة، من خلال الممارسة الخجولة أو من حيث متابعة كأس العالم 1986م، ومن هنا بدأت تتشكل نظرة الكاتب نحو عالم الكرة، يستذكر لحظات الفرح والحزن. انطلاقة علاقة المعمري بالكرة من الشخصي والذاتي إلى الفضاء المفتوحة لعوالم الكرة، حتى تشجيعه للفرق أو النوادي فهو مرتبط بفكرة ذاتية، حيث يشجع اللاعب الذي يحبه والذي يلعب في هذا المنتخب أو ذلك الفريق، حتى لو انتقل هذا اللاعب إلى نادي ضعيف». إن مهارة اللاعب هي التي تجذبني وتحفزني على تشجيع ناديه أو منتخبه، وأحيانا كليهما» ص19
وهل اكتفى الكاتب فقط بتجربته الشخصية، ومشاهداته ومتابعاته لعوالم الكرة وكواليسها، لا، بل ذهب إلى المعرفة والكتب، ليحيط بجوانب أخرى للمستديرة، « قرأتُ كتبا كثيرة عن الساحرة المستديرة» ص21، ومن الكتب التي قرأها المعمري وأخذ منها اقتباسات في مقالاته. «كرة القدم في الشمس والظل» لإدواردو غاليانو. وكتاب « ميسي: تمارين على الأسلوب» للروائي الإسباني جوردي بونتي. وكتاب « كرة القدم: الحياة على الطريقة البرازيلية» للكاتب والصحفي البريطاني إليكس بيلوس. ورجع وتابع بعض الصحف العربية والعالمية، وبعض الحوارات. لكي يقدم للقارئ مقالا متماسكا وشاملا. والجدير بالذكر إن هذه المقالات كتبت بين العام 2009 و2023م. يتميز كتاب المعمري بالقدرة على استحضار المعلومات الرياضية والتواريخ، وربطها بجو المقال، وربط الموضوع الرياضي بالجوانب الأدبية والجانب السياسي. كموقف ماردونا من القضية الفلسطينية، أو موقف الصحافة الغربية من مونديال قطر.
الجمهور اللاعب رقم 12
إذا كان المعمري ذهب بمقالاته إلى الاقتراب من عالم الكرة ولاعبيها وصانعيها ودموعها وخساراتها وأساطيرها، مستعينا بتجربته الشخصية بالمتابعة والتحليل والقراءة، فإن كتاب «لولا فسحة الملعب» ذهب إلى زاوية محددة وواسعة في الوقت نفسه، ذهب إلى اللاعب رقم 12، الذي لا يعترف به حكم المباراة ولا المدرب ولا المحللون، لكن عالم الكرة والمشتغلين لا يمكن أن يتجاهلوا هذا اللاعب الشغوف والحالم والمجنون، إنها الجماهير التي تخلق جوا مختلفا، تضبط الإيقاع في المدرجات، يرعبون الفريق الخصم بهتافاتهم، أو يحمسون فريقهم ليحرز الأهداف. لا ينضبط هذا اللاعب المشاكس بوقت المباراة ( 90 دقيقة) بل قد يبدأ قبل المباراة بأسبوع أو يوم، ولا يلتزم بصفارة الحكم، قد تمتد أجواء المباراة والنصر، لساعات أو أيام بعد نهاية المباراة.
(رؤية حكم الساحة وحكمي التماس متعذرة، ولا قوانين ولا تسلل ولا «فار»، إنها شريعة المشجعين وبمقدورهم قبول أو رفض أي قانون).ص7
إنها الجماهير العاشقة والمجنونة بفرقها، ومنتخباتها، التي تقطع المسافات الطويلة لحضور المباراة، تتنقل بين القارات، تترك أعمالها وعوائلها، تخرج من قاعات الامتحان في الجامعة لتلتحق بالمباراة، العشاق الذين يهبون المدرجات أرواحهم وقلوبهم وعشقهم دموعهم، لحظات يومهم، تتكون بينهم روابط ويجري في عروقهم عشق نواديهم، يذهب هذا الكتاب إلى هذه الجماهير، فيختار مشجعا من كل فريق، ليفتح صندوق عشقه للفريق، ويفتح كذلك ذاكرة هذه الفرق، وظروف تكونها، بعض الفرق تجاوز عمرها القرن، بعض الفرق تكونت ونشأت تحت ظروف الاستعمار. ويسرد أناشيد كل فريق وأهازيجه، وكأن هذه الأهازيج هي النشيد الوطني لها.
ربما يطرح هذا الكتاب سؤالا مخفيا بين السطور: هل تستطيع هذه اللعبة (كرة القدم) أن تمنح هذه الشعوب القليل من الفرح في حياتهم، بعدما طحنتهم ظروف الحياة والمعيشة والفقر والخراب الذي يعم دول المنطقة؟ هل يهرب الإنسان العربي من مواجهة ظروف الواقع إلى أجواء المدرجات. أما إن لا علاقة لهذه التوجسات بالكرة وفرحها، بدموع الفرح أو صدمة الهزيمة. الكرة تصنع زمنها الخاص وشعبها المخلص لها.
«إنه دفتر لمشجعي الأهلي والزمالك ومولودية الجزائر والوداد البيضاوي والوحدة وتشرين وحطين والإمارات، يأخذنا إلى القاهرة والجزائر العاصمة والدار البيضاء ومكة واللاذقية ورأس الخيمة».ص8
هذه الجماهير المتعطشة للفرح للدموع للهتافات، لكتابة أناشيدها الخاصة أولا، والحالمة ببطولات ولو كانت في ساحة الملاعب، الرابطة والمرتبطة أحلامها وآمالها بفريقها، أجيال تتوارث عشق هذا النادي أو ذلك، طقوس يمارسها المشجع قبل وأثناء وبعد المباراة. الحالمة بلذة النصر ولو لمرة واحدة وفي ساحات الملاعب.
الساكنون في المدرجات/ الذاهبون إلى الشباك.
هذا الكتاب «لولا فسحة الملعب» اقترب من عشاق الأندية، حاورهم، أبرز طقوسهم في التشجيع، تلمس فرحهم ومسح دموع الهزائم، سنقتطف بعض الزوايا والحكايات من بين دفتي الكتاب، لنقترب من أحلام الساكنين في المدرجات. سيتحدث أحمد شريف (1988) عن عشقه الأبدي لنادي الأهلي المصري، والذي ورثه من جده اللاعب حلمي أبو المعاطي، والذي انتقل إلى النادي الأهلي عام 1946.
يتذكر أحمد شريف المرة الأولى التي ذهب فيها إلى الملعب، وكان برفقة والده، مباراة الأهلي والإسماعيلي، وكان لدى الإسماعيلي لاعب خطير واسمه غريب (حمزة الجمل): « ورحت أقول لأبي: جمل يعني جمل هو شكلوا إيه؟ طويل كده؟ أسنانه طويلة؟ بيعض؟).ص16
وعن طقوس أحمد شريف، فيحدثنا قائلا: « يوم المباراة هو يوم لنفسي فقط. لا أستقبل المكالمات، لا أقابل أحدا، ولا أتكلم مع أحد. وهذه الطقوس أو الإجراءات غير متصلة بي بل هي على علاقة بالآخرين.»ص18
يعمل أحمد شريف مديرا إبداعيا في شركة إعلان، لكنه لم يفوت أي مباراة للأهلي من أكثر من 15 عاما.» عرس، مأتم، موت، عمل، سفر، عيد»، فكل شيء يأتي في الدرجة الثانية بعد الأهلي.
وإذا ما انتقلنا إلى عاشق آخر من عشاق الكرة، ومن سكان المدرجات، في المغرب العربي، سنجد الشغف والجنون نفسهما. يبدأ سليمان الحقيوي سرد حكاية ولادة نادي الوداد المغربي في الدار البيضاء، الذي أُنشئ 1937 على سطح الماء.
يسرد الحقيوي قصة تسميه النادي بهذه الاسم، بعد نقاشات اللجنة التأسيسية، وكانت تضم سبعة أعضاء: « توالت الاجتماعات وكل شيء على ما يرام إلا التوصل إلى اسم النادي. في أحدها يتأخر عضو اللجنة محمد ماسيس، وحين يسأله الزملاء والرفاق عن سبب تأخره، يجيب إنه كان يشاهد فيلم «وداد» في السينما، وبمجرد أن نطق بـ «وداد» حتى انطلقت زغرودة من بيت مجاور، فاعتبر ذلك إشارة على إنه اسم النادي.»ص70
وثم ينتقل الحقيوي إلى تتبع عاشق من عشاق نادي الوداد المغربي، سعيد مقداد (1969)، فعندما طلب من سعيد لاختيار «تيفو» فاختار «تيفو العائلة» فعلل قائلا لهذه الاختيار» هذه ليست لفظة نصف بها علاقتنا ببعضنا البعض، إنها مقصودة بكل ما تحمله من معاني، فعندما تلتقي وداديا أو تتعرف عليه في مكان ما انطلاقا من ثيابه أو أي شيء يرمز للوداد، تغلي في الحال أي مسافة تحول دون التعارف» ويضيف سعيد في هذا الجانب» بل أكثر، ففي لقائك بمغربي آخر لا بد أن تبني الثقة معه، مع مناصرٍ للوداد لا حاجة لذلك، يكفي أن تكون وداديا، وما تبقى لا أهمية له والثقة مضمونة!» ص72
يسرد لنا سعيد مقداد المشجع الودادي المغربي قصة عشقه للفريق، وطقوسه في التشجيع، والرحلات والمسافات التي يقطعه لكي يسانده فريقه.» وكلما بعدت المسافة صارت اللحظات أكثر سعادة». ويذكر لنا مدى جنونه وعشق للوداد « لقد فوت الكثير من المناسبات، أفراح المقربين والأصدقاء، وصولا للعمل، فأنا أعمل منجدا، وأنا لا أقبل أي عمل يصادف تسليمه يوم مباراة للوداد، الكثير من المال يضيع بسبب ذلك لكن، ما العمل؟ حب الوداد يأتي أولا.»ص78
سنجد في هذا الكتاب قصصا تسبر عشق الجماهير وجنونها، وبحثها عن اللحظات المفرحة، لا تبخل بشيء في سبيل المساندة، تشيد آمالها بحناجرها، ينحاز هذا الكتاب إلى الهامش، في لعبة لا تعترف إلا بالأضواء. تتبع بذكاء تاريخ الأندية وأهازيجها. الساكنون في المدرجات لديهم طقوسهم الخاصة، تتسرب الهتافات إلى حياتهم اليومية وإلى أحلامهم الليلية.
حمود سعود كاتب وقاص عماني