الفن الفطري
في عام 1885 انتبه الرّسام بول سيغناك لموهبة «هنري روسو» -موظف الجمارك الفرنسي- في الرسم، وقرّر تنظيم عدة معارض لأعماله في عدد من الغاليريات الفنية المرموقة، وهذا فتح المجال لتعرّض روسو للانتقاد اللاذع والسخرية المفرطة من قبل النّقاد باعتباره لم يبدأ بالرّسم إلا بالأربعينيات من عمره، كان يرسم بعد عودته من عمله، وقد درّب نفسه بنفسه ولم يتدرّب عند فنان ولم يتلقَ كذلك تعليما أكاديميا؛ لكنّ روسو لم يعر هذا الكلام والانتقاد اهتماما وبقى يمارس الرّسم، شغفه الحقيقي؛ في 1908 أقام بيكاسو حفل عشاء في مرسمه الخاص الواقع في حي مونمارتر في باريس يتضمن موسيقى وغناء ومرح احتفاءً بتجربة هنري روسو وكان من بين ضيوف المأدبة غيوم بوللينيير وماكس جاكوب، أندريه سالمون...، وقد عرف بيكاسو هنري روسو من خلال مروره على متجر لبيع لوحات من رسم فنانين مغمورين- وقد ذُكر أن اللوحة كانت معروضة في الشارع- ولفت نظره في تلك المرة بورتريه لامرأة، لم يعرف في البدء اسم صاحب العمل إلى أن أوصله البحث لهنري روسو ؛ بدأ روسو يحسّ بالترحيب في الوسط الفني وأن خياره بممارسة الفن قرارٌ صائب وتأكد ذلك في عام 1912 حين أقيم معرض تذكاري لأعماله حضره الشاعر «بوللينيير» وبشّر يومها بولادة مدرسة فنيّة جديدة هي المدرسة الفطرية (naïve art) بعدها أقيم المعرض مرة أخرى 1925 فلاقى استحسانًا واسعًا، كانت هذه المدرسة ثورة على قواعد الفن الأكاديمي وإيذانا بفتح الباب للحرية في الرسم فكان روسو بذلك هو صاحب الثورة وأيقونتها دون أن يخطط لذلك فكلّ ما أراده أن يكون فنانًا، إلا أن أسلوبه وعفويته لم تسمحا له بأن يكون فنانا عاديا بل خطّ لنفسه طريقا تبعه فيه الآلاف إلى يومنا هذا.
تشجّع في تلك الفترة الهواة من عمّال، حرفيين، خدم، ممرضين ومزارعين... وبدؤوا ممارسة الرّسم في أوقات فراغهم، يجمعهم حبهم للرّسم وافتقارهم للدّراسة الأكاديميّة، ويجمع أعمالهم على اختلاف موضوعاتها وطرق تنفيذها براءتها وعذوبتها وعفويتها التي تذكّر بعفوية رسوم الأطفال، حتّى أن أحد جامعي اللوحات وكان ألمانيّا سمّاهم بمصوري «القلب المقدّس».
لروسو العديد من الأعمال: الأسد الجائع، ساحر الثعبان، الحلم وغيرها لكن أشهر أعماله (الغجرية النائمة) التي رسمها عام 1897 وشكلت تحولا في مسيرته بحسب رأي النّقاد.
ويدلنا هذا العمل أن الفن الفطري لا يعني سذاجة الفنان أو ضيق اطلاعه وضحالة ثقافته، فهذه اللوحة -التي تصوّر فتاةً غجرية بثوبٍ طويلٍ وشعرٍ منسدل تتوسّد الكثبان الرملية وبيدها عصا، بجانبها آلة وتريّة تشبه العود، وخلفها أسدٌ يشم شعرها يتأكد ربما من أنها على قيد الحياة- مستوحاةٌ من قصة القديسة مريم المصرية التي انتهت قصتها بأن وجدتْ ميتة ولم يستطع الرّاهب الذي وجدها دفنها لأن التربة كانت قاسية، إلى أن ظهر أسد بقربها وراح يحفر الأرض القاسية بقدميه ليتمكن الرّاهب من دفنها ويرحل الأسد بعد ذلك.
من خلال تأمل أعمال هنري روسو ومعاصريه من الفنانين الفطريين وتحليلها توصل النّقاد لملامح عامة تميّز المدرسة الفطريّة، أهمها العفويّة والبساطة، قوة الألوان ووضوحها دون مراعاة ضوابط وقواعد المنظور الهندسي أو الظلال مع الإكثار من التفاصيل، فالرّسام الفطري يرسم الأشياء على حقيقتها لا كما يراها.
وقبل أن نكمل الحديث عن الفن الفطري وفنانيه لابدّ أن نميّزه عن الفن البدائي الذي يُطلق على أعمال فنية تنتمي لثقافات معينة، حكمت عليها الأكاديمية الغربية بأنها «بدائية»، مثل فنون الهنود الحمر أو فنون سكان الصحراء الأفريقية أو جزر المحيط الهادي وغيرها من فنون في مناطق نائية لم يرفع النقاب عنها حتى وقت متّأخر وصار الاستيحاء من حياتها والاقتباس من أعمالها إضافة مهمة للفنان؛ ففي عام 1891 غادر «غوغان» إلى تاهيتي في جزر الأقيانوس بعد أن وجد أن التجديد في الفن لا يتم عن طريق العلم إنما بالتوجه للمناهل البدائية ورسم العديد من الأعمال هناك، كذلك فعل بيكاسو بأن استفاد من الحضارات الإفريقية والفنون الإسلامية وغيرها في أعماله، هو الذي كان يتمنى أن يرسم كطفل وكان يظن أن دراسته الأكاديمية هي من أعاقت ذلك فكانت استفادته من الفنون البدائية تمنح أعماله النفس العفوي الصادق الذي لطالما بحث عنه.
ومن جماليات المدرسة الفطريّة التي تميّزها عن المدارس الفنية الأخرى أن من ينتمي إليها فهو غالبا لم يسمع بها سابقا وربما لن يسمع بها حتى لاحقا، فهو شخص بعيدٌ عن عوالم الفنون الأكاديمية وجامعاته وفنانيه وغاليرياته، يرسم ما يحب وما يريد بطريقته الخاصة جدا غير عابئ بأي رأي يمكن أن يعكّر صفو جلسات الصفا بينه وبين لوحاته وألوانه، لا يعنيه إن كانت هذه الطريقة هي الصحيحة وهل هذه الألوان منسجمة متناسقة؛ عكس ما تطلبه المدارس الأخرى من إلمام بقواعدها وسماتها والالتزام بها.
بدأ الفن الفطري بالانتشار وبدأ المجتمع الفني يسلط الضوء على أعماله منذ نهايات القرن التاسع عشر؛
سنستعرض لمحة عن عدد من الفنانين الفطريين العرب في بداية القرن العشرين من جنسيات متعددة لنوضح كيف كان لكل من هذه التجارب ملامح خاصة نابعة من ثقافة الفنان الحياتية السابقة، وظروفه المحيطة والأدوات المتاحة لديه تظهر في موضوعات الأعمال والتقنية المستخدمة، والأسلوب الذي تنفذ به الأعمال؛ فمثلا محمد حرب الذي ولد عام 1888م في منطقة باب الجابية في دمشق، وسُمي بأبي صبحي التيناوي، وكان سليل عائلة تعمل بالرسم على الزجاج، لكن هذا العمل الحرفي البحت لم يروِ عطش أبو صبحي للفن، فأسّس محلا خاصا به في باب الجابية أيضًا عند زاوية الهنود (هذا العنوان يظهر في بعض أعماله مع اسمه كتوقيع مستفيض المعلومات) وصار يرسم بغزارة الكثير من الأعمال الفنية ليعبّر بها عن تطلعات البسطاء ممن يعايشهم و ينقل تفاصيل الحياة الدمشقيّة ودقائقها، أو ليصوّر «عنترة» البطل الذي يستحضره الحكواتي في مقاهي دمشق مع غيره من أبطال الحكايات، فيسحبهم من الكتب ويرسمهم بمغامراتهم وقصصهم.
لم يشذ أبو صبحي التيناوي عن صفات أعمال الفن الفطري التي لم يسمع بها، بل أكدّها بالدقة المفرطة التي دفعته مرة لإتمام رسم ذيل الخيل الذي لم تتسع له اللوحة في الطرف الآخر منها، مع توضيح ذلك بسهم، وكأنّ عدم إكمال الحصان سيؤذيه، كيف لا يكون ذلك وهو من قال إنه يملأ اللوحة بالعشب والأزهار لئلا تموت الحيوانات داخل العمل جوعًا؛ وكان يصرّ في أعماله التّاريخيّة على ذكر أسماء الأشخاص إيغالا منه بتوخي الدّقة (عنتر، الأبجر حصان عنترة، عبلة، الملك الظاهر، الوزير شاهين، الظاهر بيبرس، الجليلة)
اعتمد التيناوي في تنفيذ أعماله على ريشة معدنية بإصبع خشبي كان يستخدمها في الكتّاب حيث تعلم القراءة والكتابة، مع مجموعة من الألوان الخاصة كان يصنعها بنفسه أعماله غير مزدحمة بالألوان في أغلبها الخلفية بيضاء مع القليل من التنقيط أو رسم لبعض الزهور.
بينما كان الفنان اللبناني خليل زغيب ابن جبل لبنان -ولد 1911 في قرية غوسطا في كسروان ولم يدرس الفن وكان يعمل في مهنة الحلاقة- يتحرى رسم الطقوس الجماعية في الحياة اليومية في لبنان كالأعراس والمهرجانات الريفية، اهتمّ زغيب بالبيئة المحيطة سواء كانت طبيعة (خير معلم كما كان يكرّر روسو) أم بيئة داخلية، في أحد أعماله نرى الجسر الحجري وأحجاره قابلة للعد؛ في لوحة أخرى نشاهد بهوا كأنّه في قصر هارون الرشيد، فنجد الأقواس والستائر مع الزخارف، الجواري والخدم يملؤون المساحة، والآلات الموسيقية كالورود تنبت في كلّ مكان، كان زغيب يصوّر لوحاته بمناظير ذات زاوية رؤية علويّة تشبه عين الطائر –كما يطلق عليها في المناظير الهندسية- ؛ فتظهر أعماله مشابهة للمنمنمات التي تتبنى هذا المنظور، وكذلك توضّع الأشخاص وتوزيعهم في اللوحة يذكرنا بأسلوب رسم المنمنمات؛ فهناك تقاطع وتشابه ما بين خصائص الفن الفطري -نلاحظها بقليل من الفطنة من خلال تأمل أعمال عدد من الفنانين الفطريين- وما بين خصائص المنمنمات التي ظهرت في أغلب الظّن في العصر العباسي قبل إعلان نشوء المدرسة الفطرية بمئات السنين.
تقدّم المنمنمات صورة ديناميكية عن حدث أو فكرة ما بطريقة مليئة بالمتعة تصوّر الأشخاص والحيوانات بدقة وتفاصيل مبهرة وبهارج فنية، إلا أن ما يميّزها عن الفن الفطري هو دورها الوظيفي، فهي بشكل رئيسي أداة توضيحية للكتب في مجالات متعددة، الأدب –ارتبطت المنمنمات بشكل رئيسي بالمقامات-، كتب الطب والعلوم....
فيما يخصّ تجربة الفنان الفلسطيني عبد الحي مسلم زرارة 1933 الذي بدأ محاولاته الفنية بعد سن الأربعين مستعيدا ذكرياته عن الحياة في فلسطين ليوصل قضيته الفلسطينية عبر ريشته فتبدو لوحاته بجانب توثيقيّ، الزي الشعبي حاضر والطقوس الاجتماعية كالأعراس والسّهرات الشتائية، طقوس الحصاد وقطاف الزيتون...) لوحاته ملوّنة بالكامل لا توجد مساحات فارغة أو بيضاء ضمن العمل، كثيرا ما يكتب عنوان العمل، أو اسم الشخص صاحب موضوع العمل في اللوحة ليضمن إيصال فكرته؛ أما الفنانة التونسية» الشعبية طلال» من مواليد 1922 أعطت بأعمالها وجها جديدا للفن الفطري فأعمالها تنحو أحيانا نحو التجريد دون أن تتقصد ذلك وأحيانا تكتنف روح السريالية العمل، الخلفية عندها غنية بالزخارف التي تكمل نسيج اللوحة بإتقان شديد فنجد العناصر مندمجة مع الخلفية متناغمان معًا في لحنٍ لوني فاقع أوصل الشعبية طلال للعالمية .
إذن للفن الفطري سمات عامة لكن له أيضا ملامح خاصة متنوعة تتسع لما يتسع له خيال الفنان الذي يكفيه أن يكون ممارسا للرّسم دون تعليم مسبق ليُطلق عليه لقب الفنان الفطري، وذلك وفقا للأساس الذي قامت عليه هذه المدرسة التي ما زالت إلى اليوم تغري الأفراد لأن يمتلكوا الشجاعة ويرسموا ما يريدون وفق الطريقة التي يجدونها مناسبة ويتركوا أعمالهم بعدها أمام المتلقي الواعي والناقد الحقيقي لتفرز الأعمال ما بين غث وثمين ويعرفوا حينها إن كان الفنان الذي رافقهم في الطفولة كبر معهم أم لا، حسب قول بيكاسو: «كلّ طفل فنان، المشكلة هي كيف تظلّ فنانا عندما تكبر».
فوجود الفن الفطري لا يعني أبدا فتح الباب على مصراعيه لدخول أعداد كبيرة ممن يحاول الرسم، ولا يعطي لقب فنان لكل من رسم لوحة أو صنع منحوتة دون تعليمٍ سابقٍ، خاصة مع توّفر منصات التواصل الاجتماعي التي فسحت المجال أمام الجميع لعرض أعمالهم للجمهور؛ وهذا ما يجعل الفنانين الأكاديميين يجزمون بضرورة ارتياد الفنان لكليات الفنون ومعاهده ليشحذ خياله، ويوسّع مداركه ويغني تقنياته؛ وما بين هذين الصوتين الذي ينادي أحدهما بفطرية الفن والآخر بأكاديميته يبقى اسم الفن مرتفعا لا يعترف إلا بالحقيقي مهما كان منبعه، فشرط الفن إشباع الروح والارتقاء بالعقل والسمو بالفرد فوق الماديات التي تنهش حياتنا طوال الوقت.
واليوم بات العالم أكثر من أي وقتٍ مضى يحنّ للحركات الفطرية والبدائية يبحث عن البراءة التي تمنح جمالية مغايرة، فنجد أعمال الفنانين الفطريين تتصدر في أهم المتاحف حول العالم كاللوفر، وصار هناك العديد من المتاحف مكرّسة للفن الفطري.
بسمة شيخو شاعرة وكاتبة سورية