الفلسفة والتكنولوجيا
ماذا عسى الفلسفة أن تقول في أمور يبدو أنها خارجة عن نطاقها وليس لها إليها منفَذ؟ وماذا يمكن أن يُطلب من الفلسفة أن تفعل في شأن ليست لها عليه أية وصاية؟ ليست المسألة في حاجة إلى مزيد إيضاح، ما دام المرء يتجول في غابات من منتجات التكنولوجيا دون أن يلمس شيئاً ما يحيط بها على غير ما يُرام.
بديهي، فالأمر كذلك؛ لكن متى احتاجت الفلسفة إلى إذْن من أحد حتى تلج إلى صلب الأمور، فتشكّك، وتطعن في البديهيات، وتمضي في طرح أسئلة مستفزّة؛ ما من شك أنها تبدو ثرثرة بدون فائدة لدى من لم يجلس إلى مائدتها. كلنا نعرف أن التفلسف حاصل شغف بالسؤال؛ فكما أن التفلسف ينصبّ على أمور تبدو وكأنها من اختصاص العلم، أو الفن أو الأدب أو القيم، كذلك تجد الفلسفة من الأسئلة ما «تملأ به الدنيا» حول التكنولوجيا. وكما أن الأسئلة تتناسل بدون ترتيب مسبق، فإن التأمّلات الفلسفية تتراشق فيما بينها؛ وبذلك تخلق جواً من الجدل متنوعا، يثمر تصورات قمينة بالاهتمام، قصد التطوير.
إن مسألة مشروعية الخطاب الفلسفي ظلت تُطرح منذ القدم؛ إذ كلما تحقق جديد في العلم أو الفن أو التقنية، بدا وكأن ما كانت الفلسفة تتساءل في شأنه قد أتى العلم أو التقنية بحلول لا تترك أي مجال لتدخّل منها. فلنلق نظرة على جوانب من الماضي، عسى أن تتبيّن لنا الخيوط المتشابكة.
عندما برزت الفلسفة، لم تكن منفصلة عن الأساطير والآداب والعلوم. لا نستطيع تعيين تاريخ بروزها بدقة؛ فنقول بصيغة تقريبية بين القرنين العاشر والسادس قبل الميلاد، حيث التقت أنسجة ثقافية غنية ومتنوعة؛ ثم فرض هذا الغنى والتنوّع نظراً من أجل التصنيف والفرز والترتيب بين الآراء والتصوّرات. آنذاك كانت العلوم والفلسفة والأساطير تشكّل جسدا موحَّدا من المفاهيم والأحكام، حيث دوّن الفاعلون في هذه الحقول سجلّات وجداول وعلاقات بين الوقائع قصد فهم نظام الكون والكشف عن أسراره.
لم تظهر الفلسفة في كل المناطق، حيث تختلف البيئة، فتختلف ظروف العيش لدى المجموعات البشرية المتنوعة. ويحدّثنا التاريخ عن حضارات النيل ودجلة والفرات القديمة؛ حيث نمت تقنيات الري والتجارة والملاحة؛ لكن لم تتوفر ظروف بروز الفلسفة. ما من شك أن أفكاراً أوّلية عن نظام الكون وأسئلة عن البداية والنهاية، والحياة والموت، قد تدوولت؛ لكن لم يظهر تفكير فلسفي يسائل ويتشكك ويعبّر عن الدهشة والقلق، ويطرح مسائل في شأن الخير والعدل والجمال، بلغة واضحة إلّا لدى الإغريق حوالي الحقبة المشار إليها. وبين القرنين السادس والثالث قبل الميلاد، قوي عود العلوم بحكم تراكم المعارف واختصاص فاعلين في أمور الطب والحساب والهندسة والفلك والموسيقى، ثم العلوم الوسطية أو الجزئية مثل البصريات والجغرافيا والميكانيكا بعدها بزمن قصير؛ فظهرت فكرة كون العلوم قد انفصلت عن الفلسفة؛ لكن الجميع يعرف أن الانفصال التامّ غير ممكن. وقد كانت الفلسفة منذ البداية مطبوعة بتعدّد الرؤى والإقبال على السؤال والنقد.
عندما «انفصلت» علوم عن الفلسفة، قيل إن الفلسفة أضحت تتكوّن من حقول ثلاثة ظلت في حوزتها، وهي: مبحث الوجود (الأُنطولُجيا) ومبحث القيم (الأَكسيولُجيا) ومبحث المعرفة (الإپِستِمولُجيا). إنما مضت هذه المباحث الثلاثة تتسع مع نموّ العلوم، بدل أن تضيق رقعتُها؛ فنشأت مباحث بينية. مثلاً، لا يمكن أن يتجنّب عالِم الفلك طرح أمور حول نظام الكون برمّته، عوض الاكتفاء بحساب مسار الأجرام السماوية وسرعتها والمسافة بينها، إنه مبحث الكسمولجيا. وعالِم الفيزياء يطرح أسئلة حول تكوّن المفاهيم وسبل التحقق من وثاقتها وحظوظ إبطالها. ثم لا يمكن تجنّب الخوض في أمور الحُسن والذوق والنغم؛ فتبلورت أفكار في ذلك تحتاج إلى نسج خيوط ناظمة، وكان ما سمي بمبحث الجماليات. إذن، تنمو المعارف وتتراكم، وتظهر وقائع تحتاج إلى نظر يحتل مكانة بينية بين العلوم والفلسفة والآداب، ولا حدود مسطّرة بين منتجات فاعلية الذهن. ثم انتشرت المعتقدات المختلفة، ومضت يجادل بعضها بعضاً، ولا يمكن أن لا ينتبه رجالها إلى الحاجة إلى آليات الإقناع ودفع الشُبه، فكان مبحث الإلهيات لدى المسيحيين وعلم الكلام لدى المسلمين، وما يقابلهما في المعتقدات الأخرى.
التقنية قديمة، لكن كل صناعة تفترض مستوى معيّناً من المعرفة؛ فتراكمت هذه مع نموّ تقنيات الإنتاج. وعلى إثر تراكم الخبرة، تطوّر الحساب والهندسة؛ ثم استخدم الاثنان في بلورة مفاهيم علمية. وراح التقنيون والفنانون يستثمرون المعارف العلمية في تطوير التقنية، فأصبحت تكنولوجيا. وظلت الفلسفة بعيدة نسبيا عن مجال الفعل التقني؛ لكنها ظلت تتأمل الظروف الفكرية والوجدانية للإنسان وهو «يداعب» منتجاته الصناعية. ومن المعقول أن نقول إن تطوّر التكنولوجيا لا يضع حداً للتدخّل الفلسفي؛ بل على العكس، يخلق هذا التطوّر أسبابا وتبريرات لهذا التدخّل بالذات.
نعم، يُرجّح أن الصنعة سبقت العلم والفلسفة والفن؛ لكن يجوز افتراض كون الصنعة بالذات تستند إلى خطّة وصور وخيال. فالإنسان القديم كان يرى وقائع المحيط الذي يعيش فيه من خلال شعوره وتصوّراته ومقاصده، أي أنه كان يصنع ويفكر في نفس الآن. وهل يمكن للتِكنولوجيا اليوم أن تشتغل بدون تخطيط ومقاصد؟ ومن منطلق هذا السؤال، وما يمكن أن يتعلق به من أسئلة أخرى، يبدو أن التكنولوجيا تأتي بحلول لمشاكل عملية، لكن لا بد أن تتمخّض عنها مشاكل تحتاج إلى نظر تلتقي فيه أسئلة الفلسفة والعلوم الإنسانية.
عندما «بدأ» الإنسان القديم يصنع أدوات للصيد والفلاحة والتنقّل، كان يفكّر تحت مظلة المعتقدات، فلم يكن يقلق لوضعه الوجودي كثيراً. ومع تغيّر الأوضاع تبدّلت الاحتياجات وتبلورت أفكار لا تنظر في حاضره فحسب، بل تحاول فهم الماضي ورسم صورة عن المستقبل. وعند «بداية» الفكر العلمي والفلسفي، شكّلت التقنية فرصة لتطوير الفرضيات العلمية والمقولات الفلسفية، كما أضحت آلية لاختبار تلك الفرضيات. إنما أحيانا تسبق التقنية النظرَ العلمي، وأحياناً بالعكس. ومع تقدّم الفكر العلمي، أصبح الفهم يتنبأ بما يمكن أن تأتي به فرضيةٌ ما من نتائج عملية (تكنولوجية)، فتبدع المختبراتُ وقائع جديدة لم تكن منتظَرة من ذي قبل. فعلاً، الأدوات التي كانت تصنع في القديم امتداد لوقائع الطبيعة؛ لكن تدخّل الصنعة يتصرّف في تسخير الوقائع و»التحايل» عليها. مثلاً، لا يكتفي الإنسان بمراقبة الرياح، بل عمل على استغلالها، فصنع رحى تتحرك بالريح فتنتج طاقة مستعملة في الطحن وتحويل المواد؛ ونفس الشيء فعل مع الماء. واليوم، لا يكتفي الفاعل بفهم حرارة الشمس، بل يخزن الطاقة ليستغلها في الإضاءة والإنتاج. وأصبح يستثمر المعارف البيولوجية، لنقل الأعضاء والاستنساخ واستخدام المخدرات في العلاج. تقدّم العلم إذن أصبح يسير بالموازاة مع الابتكار التكنولوجي.
كان العلم-الفلسفة مندهشا من هذا النظام الذي تسير عليه حركات الأجرام السماوية، ومن انتظام فصول السنة، ومن أثر الأصوات النغمية على نموّ النبات، ومن دور الأنغام والأهازيج في صحة الإنسان؛ فأبدع العدد، وتبيّنت له سلاسل من أبنية الانتظام: الأعداد الطبيعية، والفردية، والزوجية، والأوّلية، والمربعة، والمكعبة، والمتحابّة، والعلاقات التناسبية؛ وانطلق منها يتأمل البناء الكسمولجي، بعيداً (نسبياً) عن الانشغال التقني. بينما انشغل آخرون بملاحظة حركات الهواء والريح والماء، فعمل على محاكاتها، وصنع أدوات على غرارها، بعيداً (نسبياّ) عن التأمل المجرّد. لكن الانشغالين يلتقيان في الممارسة المجتمعية؛ فيستفيد الواحد من الآخر، حيث ينسج العالِم-المهندس نماذج نظرية قابلة للتنفيذ في صنع آلات. لكن، في الغالب الأعمّ، لا يجمع الفرد الواحد بين العلم والفلسفة والتقنية.
يمكن ملاحظة، عبر حقب تاريخية طويلة، أن أغلب العلماء ليسوا مهندسين وأغلب المهندسين ليسوا علماء؛ لا لأن الفاعليتين متنافرتان، بل لأن الأسئلة التي تشغل بال هؤلاء ليست هي نفسها التي تشغل بال أولئك. لكن التفاعل بين الفاعليتين بيّن، لأن العلم يستعمل أدوات مصنوعة بناءً على معرفة وثيقة، والهندسة التطبيقية تستثمر نتائج التفسيرات العلمية. فالتكنولوجيا توفّر للعلم أدوات التجريب والقياس والاختبار، والعلم يوفّر للتكنولوجيا النماذج النظرية التي تنفّدها في خططها. والفنون أيضاً تطبق العلم والتكنولوجيا معا.
مع تطوّر التنافس بين الأمم، أصبح المقياس المعتمَد للتقدّم هو الابتكار التكنولوجي؛ فتسارع الاختراع منذ حوالي ثلاثة قرون. وفي سياق رسم الحدود والبحث عن المواد الأولية وضمان الأسواق، نشبت الصراعات التي انتهت إلى حروب مدمّرة خلقت مظاهر مأساوية وجروحاً لا تندمل، رغم محاولات الحوار والصلح.
ومنذ أواخر القرن التاسع عشر، مع اتّساع مدى الفعل التكنولوجي والْتحام العلم والتكنولوجيا، بالموازاة مع الظاهرة الاستعمارية، انتبه قلّة من المفكرين إلى الطابع السلبي للتطور التكنولوجي؛ بينما مضت الأغلبية، خاصة من ناقصي الحس النقدي، لا ترى إلّا إيجابيات التصنيع، وهذه كثيرة دون شك. فكان أن ارتفعت أصوات متشائمة من هذا التقدّم، تدعو على مراقبة المنتجات التكنولوجية واستعمالاتها المخرّبة. وتكوّنت ترسانة مفهومية تندرج في ما أصبح يسمى فلسفة التكنولوجيا، بعد أن تطورت تصوّرات فلسفة العلم.
من المسائل التي استرعت انتباه مارتن هايدگر مكانة التقنية في العالَم المعاصر؛ وألقى محاضرة في ذلك آخر عام 1953، بعنوان سؤال التقنية، نشرت مقالةً عام 1954. تبدأ المقالة بالتفريق بين التقنية وماهية التقنية، لكي يطرح هايدگر أسئلة عن التقنية لا باعتبارها وسائل وأدوات للاستعمال فحسب، بل باعتبارها تفرض أسلوب حياة بأكمله وترتيباً اصطناعياً لعلاقة الإنسان بالوجود. فينتقد الأفكار السائدة حول التكنولوجيا حيث تعتبرها مجرّد «وسائل لأهداف»، أو أنها مجرّد «أفعال بشرية»؛ ويدعو إلى التساؤل عما تقدمه التكنولوجيا للحرية البشرية.
ويطرح بعض فلاسفة العلم من المشاكل المرتبطة بالعلم والتكنولوجيا، حيث يتهمون النزعة الوسيلانية في العلم والتكنولوجيا، التي تختزل هاتين الفاعليتين في المردودية العملية، بدل الانتباه إلى الأبعاد النظرية والفهمية التي من أجلها نشأت أصلاً عند بدايتها التاريخية.
وسار بعض علماء السُّسيولُجيا والسيكولُجيا يسائلون الطرق التي يتمّ بها اختيار التقنيات وتسويقها وإنتاج سلع كمالية، وشبكات التسويق وتوجيه الذوق. ويذهب بعض النقّاد بعيداً إذ يرون في التكنولوجيا وسيلة للاستلاب وإخضاع الأذواق عن طريق إنتاج بضائع لا نفع فيها؛ بل يعمل ترويجُ تلك السلع على جعل الأفراد والجماعات رهائن لدى سادة السوق الرأسمالية.
ويتحدث بعض السُّسيولجيين عن التكنولوجيا من خلال اعتبارها ظاهرة سياسية، فينتقدون منتجاتها كما ينتقدون برامج الأحزاب ودعاواهم التي تدعي خدمة الإنسان والإنسانية. ويسير مفكرو مدرسة فرانكفورت في هذا المنحى النقدي، من منطلق كون التكنولوجيا غير محايدة، إذ تفرض قيماً استهلاكية وعادات تسلب حرية الأفراد والجماعات.
بل هناك من يوسّع من النقد فيوجهه إلى العلم نفسه، باعتباره يبني النماذج النظرية التي تحوّلها التكنولوجيا إلى أدوات وبضائع ووسائل لعب تعود بأرباح طائلة على الشركات المنتجة الكبرى؛ فنُحتت مفردة العلم-التقنية (تكنو-ساينس)، للتعبير عن سيرورة تبعية العلم للمشاريع التقنية. وفعلاً، فإن المختبرات الكبرى للصناعات الكيماوية والصيدلية وغيرها أصبحت تموّل البحث العلمي قصد توجيهه، بل أصبحت الأغراض التكنولوجية تتحكّم في توظيف الباحثين وأساتذة المعاهد العليا، وترقيتهم.
أما الحديث عن تكنولوجيا الأسلحة المدمّرة فيأخذ طابع الصرخة المدوّية في الفضاء العمومي وفي أحضان الجمعيات الثقافية الداعية إلى السلم والتعايش بين الشعوب.
وبفضل تطوّر العلوم البيولوجية أصبح في المتناول زرع الخلايا والتصرّف في مكوّناتها، إلى درجة جعلت التكنولوجيا تشرع في استنساخ كائنات حيّة. فهل هذه البرامج علمية ’محضة‘ أو تكنولوجية ’صرفة‘؟ والحال أن الأمر يتعلق بالجنس البشري، وبمحاولة تغيير معنى الحياة ذاته. إن الأمر من قبيل القيم بالأحرى، ولا يجب أن يُترك في أيدي قلّة من المغامرين الذين ينبسطون بالزهو إزاء الانتصارات التكنولوجية دون اهتمام بالنتائج المباشرة على معنى الحياة. لربما لا يليق وضع حواجز في طريق البحث العلمي، لكن التكنولوجيات يجب أن تكون تحت المراقبة الحِكْمية. وهكذا تتدخّل الفلسفة لتنتقد التوجهات وتدعو إلى تقدير التأثيرات السلبية للابتكارات التكنولوجية. ربّ رأي يقول: إن صفة «السلبية» إسقاط آت من التقاليد البالية، ولا تناسب التكنولوجيا التي أصبحت ضرورية في كل مرافق الحياة. وهذا رأي من الآراء؛ والفلسفة فضاء مفتوح تُناقش ضمنه كل الآراء.
إذاً، الفكر الفلسفي حاضر ينظر في المنجز في العلوم والتكنولوجيا، ويناقش الانعكاسات البانية والهادمة للتطور جملةً. فكما تنتج التكنولوجيا وسائل، تنحت الفلسفة مسائل وإشكالات، ولا تقف عند التلقّي الساذج للابتكارات. فهناك ميدان للنظر تكوّن بالموازاة مع بروز الهندسة الجينية الوراثية وكردّ فعل عليها، يهتم بطرح الانعكاسات المحرجة للإنسان بحيث تقلب هذه الهندسة فهمَنا للإنسان والقيم والضرورة والإمكان. والأسئلة الفلسفية تتناسل بدون حدود، على شاكلة: هل كل ما هو ممكن ضروري؟ لأي غرض يكون التصرف في التكوين الجيني للكائنات الحية؟ حتى لو أخذنا بعين الاعتبار كون هذه الهندسة ستقدّم خدمة علاجية لأمراض ظلت تحصد الملايين من النفوس، ولماذا الحرص على تمديد حياة الأفراد إلى ما ليس ضرورياً؟ وهل ستمدّد حياة الجميع أم سيعمّق الاختيارُ والانتقاء الفروقَ بين البشر؟ وما دور الشركات الكبرى في المتاجرة في منتجات هذه الهندسة؟ كيف ستتقرر مصائر المنتجات الصيدلية بعد الاستعمال؟ وأي ذوق للحياة إذا أخضعت لحسابات تكنولوجية؟ وماذا عن الموت الرحيم؟ من له الحق في البتّ في شأنه؟
هكذا، كلما خطى العلم خطوة في التقدم، تقدمت التكنولوجيا أكثر، إلى درجة يصعب معها توقّع الآتي من المنتجات. وكل منتج جديد يخلق أنماطاً من السلوك العضوي والنفسي، ويخلق علاقات مجتمعية غير متوقَّعة. لننظر اليوم كيف ينفرد كل فرد من أفراد نفس الأسرة في نفس المسكن من خلال الانكباب على جهاز تلفون، يتلقّى رسائل من عالَم بعيد وقد يكون غريبا. لا يشك أحد في مزايا هذا الجهاز في تسهيل الاتصال والتواصل والبحث عن المعلومات؛ لكن كيف يليق تحمّل هذا الانعزال الذي يفرضه على الأفراد ويفرّق حتى بين الطفل وأبويه. هذه مسائل مطروحة في ميدان التربية وفي علم النفس؛ وهذان الميدانان يتغذيان بالتأمل الفلسفي ويتسلّمان مبادئهما منه.
إذن، ليس لأحد أن يقول إن تدخّل الفلسفة في شؤون العلم والتكنولوجيا من قبيل الكلام غير المجدي، ما دامت لا تقدّم حلولًا لما تعدّه إشكاليات. إذ لم تتعوّد الفلسفة تقديمَ نصائح أو تعليمات أو وعود أو تهديدات. إن الفلسفة تستشكل المصرَّح به، وتنقّب في الخطاب للكشف عن المضمَر، سواء كان الخطاب عادياً أو علمياً أو غيرهما. ومع «استئساد» التكنولوجيا، لا بدّ أن يقلق العقلاء، فيحذروا ويعبروا عن شكوكهم في ما تعِد به التكنولوجيا من رفاهية.
بنّاصر البُعزّاتي أستاذ الإبستمولوجيا وتاريخ العلوم بجامعة محمد الخامس بالرباط