الفلسفة تمارين في السعادة
يبدو أنّ اختراع مشاعر السعادة في حضارة الاكتئاب المعولم وسياسات البؤس الكوني قد صار أمرا مستحيلا، لكن ثمّة من الفلاسفة المعاصرين من يذهب إلى أنّ السعادة هي متعة المستحيل. فالعولمة التي نجحت في تحويل الناس إلى كائنات استهلاكية سلبية قد جعلت من السعادة سلعة تُباع وتٌشترى، وحوّلت الحياة إلى سوق كبرى كلّ شيء فيه سلعة من أسلحة الدمار إلى مشاعر الحبّ والفرح أيضا. ورغم ذلك لا يخلو التفكير في السعادة اليوم من إحراجات ثقيلة ونحن نعيش على حافة الخراب في كلّ مكان، لكنّ خراب القلوب وتصحّرها، وجليد الأرواح يبدو أشدّ رعبا وقساوة من أيّ شكل آخر من الخراب. كيف نعيد إلى العالم قدرته على إنتاج مشاعر الفرح والسعادة من جديد؟ إنّ اختراع السعادة في زمن الحروب والأوبئة حيث يخيّم شبح الموت في كلّ مكان مهمّة صعبة حتى أنّ الحديث عنه قد يبدو خارجا عن سياق العصر أو هو ترف ثانوي أو هو حتى أمر مخجل كلما حدّقت في وجوه من فقدوا عزيزا عليهم في هذا الطوفان الوبائي العبثي الجارف للأرواح هدرا. وفي سياق هذه الحروب الدائمة التي هجّرت البشر من أوطانهم، وحكمت على بعضهم بالهلاك غرقا في قوارب الموت، ولأنّ الحزن قد هيمن على الركح الكبير للعالم، حريّ بنا أن ننتبه إلى خطورة الاستسلام لثقافة اليأس الكونية التي لن تؤدي لغير مضاعفة تعاسة البشر وبؤسهم . وفي هذا السياق يكتب دولوز « أنّ الحزن والعواطف الحزينة هي التي تقلص كلها قدرتنا على الفعل، تحتاج السلط القائمة إلى حزننا كي تجعل منّا عبيدا، يحتاج المستبدّ والكاهن وسالبو الأرواح إلى إقناعنا بأنّ الحياة صعبة وثقيلة»..
انطلاقا من هنا سنعود إلى الفلسفة من أجل رصد إمكانيات اختراع الفرح من داخل فلسفات الفرح، ذلك أنّ الفلاسفة عموما إنّما ينبغي تصنيفهم بحسب قدرتهم على الضحك، كما يكتب نيتشه في الفقرة 294 من كتاب ما وراء الخير والشرّ قائلا ما يلي : « إنّي أميل إلى ترتيب الفلاسفة انطلاقا من كيف يضحكون بأن أنزّل في أعلى السلّم أولئك القادرين على ضحكة من ذهب، وإنّي لا أشكّ أبدا أنّ الآلهة أنفسهم يتقنون الضحك على نحو ما فوق إنساني.. « .
تبعا لهذا القول يمكن تصنيف الفلسفات إلى نوعين: فلسفات التدرب على الموت على طريقة أفلاطون، وفلسفات اختراع الفرح على طريقة نيتشه. النوع الأوّل يجعل الحقيقة في معنى عقلي مضادّ للجسد هو هدف الفلسفة وعليه تكون السعادة لدى هذا الصنف من الفلسفة -الذي هيمن منذ أفلاطون إلى حدود سبينوزا مرورا بالفلسفة العربية والمسيحية الوسيطة- هي سعادة اكتمال الفضائل العقلية.أمّا النوع الثاني من الفلسفة وهو الأقلّ ذكرا ودراسة وظهورا وتأثيرا فهو الصنف الذي جعل من مفهوم الفرحة براديغما أساسيا لبناء تصور للإنسان يقوم على تأهيل إيجابي لمفهوم الجسد واعتبار «الرغبة هي ماهية الإنسان»، وباعتبار الإنسان «جسد فحسب». وهو ما نجده في الفلسفة منذ لوسيب الفينيقي، ثم ابيقور وصولا إلى إتيقا سبينوزا ثم مع البهجة الديونيزية لنيتشه وزرادشت الراقص وأخيرا إلى برجسون ودولوز، وتنشيط السؤال عن الجسد لا بوصفه جهازا عضويا، ولا بوصفه الجسد الخطّاء والمعذّب والمصلوب..بل بما هو اقتدار على إنتاج العواطف الكفيلة بإثبات الحياة.
في كتابه يوميات الحزن العادي، وتحت عنوان «الفرح حين يخون « يكتب الشاعر الفلسطيني محمود درويش ما يلي: «علّموك أن تحذر الفرح ..لأنّ خيانته قاسية..من أين يأتيك فجأة؟». إنّ الفرح لا يحدث إذن إلاّ فجأة وفي غفلة من تجّار البؤس وقتلة الآلهة وكهنة المعابد القديمة، وخاصة المعابد التي نبنيها في أنفسنا، ونخال أنّنا في نزهة ديمقراطية لا يهددها أيّ خطر.
1) لكن ما هو الفرح؟
إن الفرحة هي الانتصار الوحيد على العالم (وفق عبارة لنيتشه)، وهي الحياة وقد نجحت وغنمت أرضا جديدة ( بتعبير برجسون) هكذا تجيبنا الفلسفة، حيث يكون الفرح هو أحد المشاعر الأساسية في هندسة المشاعر وخريطتها..كيف يمكن تحويل الفكر في ديارنا إلى تدرّب على الفرح؟ هيدغر تحدث ذات نصّ عن «عرس الفكر» ودريدا طلب منّا التمهّل في الثنايا اللزجة لهذا العرس؛ لأنّ الفكر مغامرة غير مضمونة النتائج.. لكن كيف يمكن التفكير بالحياة المشتركة تحت راية الفرح دون أن نسقط في أوهام الفرحين بما ليس لديهم؟ بعض البلدان تخصص للسعادة وزارة ، وبعض البلدان تقيس درجة تقدّم مجتمعها بدرجة سعادة أفراده..لكن أيّ مصير لشعوب لا تملك لا وزارة سعادة ولا تفكّر في المواطن من جهة الفرح ولا السعادة..ألا تكون مواطنة بلا حق في السعادة مواطنة كئيبة وبائسة أشبه بشكل المدجنة البشرية حيث لا شيء غير الفواتير والطوابير وأشكال التسوّل الرمزي والحقيقي بأنواعها؟
2) الفلسفة تمارين في السعادة:
رغم أنّ الفرح لم يكن مفهوما أساسيا في الفلسفة بعامّة، لكن الفلاسفة منذ أرسطو قد جعلوا من مسألة السعادة مسألة أساسية، وهي الغاية القصوى من كلّ أخلاق مثلما نصّ عليه كتابه المعروف إتيقا نيقوماخوس.. ولقد استأنف الفلاسفة العرب التفكير في مسألة السعادة تحت عناوين شتى من بينها «تحصيل السعادة» و»التنبيه على سبيل السعادة» للفارابي أو «رسالة في الحيلة في دفع الأحزان» للكندي.. وتكمن السعادة في الفلسفة القديمة بعامة في الفضائل العقلية، وإصلاح النفس وشفائها من رذائل الأبدان. وهذا ما نجده منذ إتيقا نيقوماخوس لأرسطو وصولا إلى رسالة في الحيلة في دفع الأحزان للكندي، حيث نقرأ ما يلي :»فإصلاح النفس وشفاؤها من أسقامها أوجب شديدا علينا من إصلاح أجسامنا، فإنّا بأنفسنا نحن ما نحن لا بأجسامنا». ..ويقول أيضا: «والحزن والسرور ضدّان لا يثبتان في النفس معا..ينبغي إذن ألاّ نحزن على الغائبات ولا فقد المحبوبات، وأن نجعل أنفسنا راضية بكل حال لنكون مسرورين أبدا»..
وبالعودة إلى اليونان: وخاصة إلى أبيقور الفيلسوف الذي يجري اعتباره بوصفه من أوّل من أسّس لفلسفة في اللذة (342 ق.م) ..فإنّنا نعثر لديه على جملة من الشذرات التي تجعل من طلب اللذة ونبذ الخوف الذي هو سبب الألم شعارا لفلسفته. حيث يتمّ اعتبار الفلسفة تحريرا للناس من مخاوفهم: من الطبيعة ومن الآلهة ومن الموت، حيث لا ينبغي أن نخاف من الطبيعة وذلك بضرورة معرفتها بدلا من اعتبارها قوة سحرية وعجائبية. ومن العبث الخوف من الآلهة من الموت ومن العبث أيضا أن نؤثم أفعالنا أو أن نشعر بالندم تجاه ما نفعل..لا ينبغي أن نترك الخوف يدمّر حياتنا..وفي هذا السياق يعلمنا الحكيم أبيقور أيضا: أنّ الموت ليس أفظع من أنّنا لم نولد .. وأنّ الجحيم ليس سوى جملة من الإسقاطات الأخلاقية المرعبة..وأنّ رغد العيش هو نفسه تمرين من أجل الموت..وأنّ مدة حياتنا لا تعني شيئا..وأخيرا أنّ الحياة وفق اللذة هي حياة تقتضي التعقّل والعدالة..
وتبعا لهذا يتمّ اعتبار أبيقور هو أوّل من جعل من إمكانية التفكير في اللذة بوصفها قدرة على التحرر من الألم أي من الخوف أفقا للتفكير بالفرح بوصفه مفهوما فلسفيا أساسيا بل هو أحد المشاعر الأساسية التي انتظمت وفقها هندسة سبينوزا لخريطة المشاعر ضمن كتاب الإتيقا أو الأخلاق.
لقد مثّل الفرح انطلاقا من سبينوزا أهمية أساسية في أفق إتيقا تقوم على رفض الأوامر الدينية، وتحرير العقول من الخرافة. يقترح فيلسوف الرغبة- بوصفها «ماهية الإنسان»- هندسة كاملة للمشاعر تتكون من الفرح والحزن والرغبة، وهي المشاعر الأساسية التي تنبثق منها كل المشاعر الأخرى كالحب والكراهية والخوف.. وهنا يتمّ تعريف الفرح بوصفه ضربا من المضاعفة لقوة الإنسان واقتداره وذلك في علاقة بالرغبة كمجال لاستمرارنا في الوجود. وتبعا لذلك ستكون الفلسفة تمارينا في الفرح غايتها إدراك الغبطة بوصفها الفرح الأسمى..وذلك في أفق تجربة الأبدية أي الديمومة التي لا يحتسب فيها الزمن..وحيث يكون مفهوم الفرح هو
إذن المحرّك الفلسفي الأساسي للمسار الاتيقي وذلك يعني أنّ كل تقدّم نحو اكتمال معرفة اقتدارنا الخاص إنّما يتمثّل في كمّية ما من الفرح.. وتكون الفرحة شعورا يصاحب كل شكل من التقدّم الفكري..كلّ هذا يأتي في كتاب الإتيقا لسبينوزا وخاصة ضمن القسم الثالث منه، حيث يتّم عرض هندسة كاملة للمشاعر. وتقوم فلسفة الفرح هنا على التمييز بين الفرحة والغبطة. ويتمّ اعتبار الفرحة على حدّ قول سبينوزا بمثابة «عبور الإنسان من اكتمال أقلّ إلى اكتمال أكبر.. لأنّ الفرحة ليس الاكتمال في حد ذاته». وتبعا لذلك فإنّ الفرحة حين تكتمل تتحول إلى غبطة، وإنّ أهمّ ما يثيرنا في هذا التمييز هو أنّ الفرحة لا يمكن تملكها؛ لأنها شعور نسبي وزائل ومؤقت، في حين أنّ الغبطة شعور مستقر وهي صعبة المنال، لكن الفرح من جهة أخرى ممكن للجميع وعلى نحو كوني..وتكون الغبطة محبّة والمحبة ضرب من الفرح بحيث أنّ خلاصنا في آخر المطاف هو في الغبطة أي في اكتمال فهمنا لاقتدارنا الخاص أي في الحرية..
لقد صار مفهوم الفرح إذن انطلاقا من كتاب الأخلاق لسبينوزا موضوع تفكير فلسفي رئيسي.. وهو اشتغال سيأخذ منعرجا آخر في القرن 19 انطلاقا من كتاب مولد التراجيديا للفيلسوف الألماني فريديريك نيتشه الذي يعلن على أنّ «الفرحة هي الانتصار الوحيد على العالم»..ولقد اكتشف نيتشه مفهوم الفرح فيما يسميه روح الموسيقى، وذلك عبر تنشيط لأسطورة ديونيزوس الإله اليوناني إله الموسيقى الذي يهيم على وجهه معلّما الناس أبدية الفرح ضدّ قساوة الحياة والمشاعر السلبية القاتلة للقوى الحية من قبيل الشفقة والندم والكراهية والضغينة وكلّ الانفعالات البائسة.. ولقد كتب نيتشه في هذا السياق الذي تكون فيه الفلسفة تمارين على الفرح ما يلي: «إنّي أعتبر النهار الذي لم أرقص فيه نهارا ضائعا.. ينبغي أن يكون ثمّة موسيقى كبرى من أجل أن يرقص العالم»..لكن من أين يأتينا الفرح ؟ إجابة نيتشه هي أنّ الفرح يخترعه الفنّانون باعتبار أنّ الفنّ اقتدار على الفرح..
وفي الحقيقة من أجل أن يكون أن تصير الفلسفة إلى تمارين في السعادة علينا أن نتّخذ من الأفكار التالية مبادئ لإتيقا جديدة:
أوّلا: أن تؤمن فعلا بأنّ السعادة ممكنة حتى لو كانت في شكل أحلام وأمنيات وأغنيات. السعادة هي القدرة على الحلم بعالم أجمل. حين يموت فينا الحلم، تصير الحياة إلى كابوس عمومي.
ثانيا: أن تكون سعيدا معناه أن تؤمن بتغيير العالم. كلّ من يعتقد أنّ حياته قدر محتّم، وأنّ آلامه غير قابلة للزوال يوما، سيبقى تعيسا أبد الدهر. السعادة هي فكرة وأفق..
ثالثا: الحبّ شرط ضروري للسعادة. من لا يحبّ لا يمكنه أن يكون إلاّ تعيسا.،الكراهيّة واليأس والتشاؤم مشاعر لا تنتج غير البؤس والخراب..
3 ) كيف يمكن للفيلسوف إبداع مشاعر السعادة في الفضاء العمومي؟
إنّ إبداع مشاعر السعادة والفرح يمكنه أن يكون عبر انخراط الفنان والمثقف العمومي والفيلسوف المؤمن بقضايا الناس وهمومهم اليومية في ما يحدث صلب زخم الحياة، ذلك أنّ مهمّة الفيلسوف بحسب عبارة رشيقة لفتحي المسكيني هي «مصاحبة الشعوب في آلامهم»..إنّنا بذلك سيكون بوسعنا إبداع فيض الكينونة ومقاومة سياسات الإحباط والتشاؤم. إنّ الجلادين فقط هم من سيستفيد من بؤسنا. يكتب الفيلسوف الإيطالي نيغري»: إنّ الفنّ كالولادة ينتمي إلى الجموع..هذا الانتماء هو بيوسياسي»..وفي هذا السياق يقول الفيلسوف الفرنسي جيل دولوز في إحدى الحوارات التي أجريت معه: «ليس من السهل أن يكون المرء حرّا، إنّه مطالب بالإفلات من الطاعون، بتنظيم لقاءات، بمضاعفة اقتداره على الفعل، وبأن يشعر بالفرحة، ويكثر من المشاعر التي تعبّر عن الإثبات في حالته القصوى».. لكن ألا يمكن للفرح أن يخون أيضا؟ ينبّهنا محمود درويش إلى أنّ الفرح الجماعي لشعب ما قد يكون غير مضمون النتائج..إنّه مغامرة قد لا تؤتمن..لكنها ستكون دوما ولادة جديدة، سندخل الفرح وقد نخرج بهزيمة، لكنّنا سنتعلّم التمرّد مرّة أخرى. هكذا يكتب درويش «لا بدّ أن يصقلنا الفرح..ستبدأ المقاومة..وإذا جاءك الفرح مرّة أخرى فلا تتذكّر خيانته السابقة..ادخل الفرح وانفجر..»..كل فرح يقتضي لحظة شرخ وقطيعة.. قد لا يكون الفرح على حقّ، لكنّه سيكون علامة على انتصار ما على بؤس سابق.
د. أم الزين بنشيخة أكاديمية وكاتبة تونسية