عمان الثقافي

الفلسفة تعيننا على فهم أنماطنا الاستهلاكية

29 مايو 2024
29 مايو 2024

الترجمة عن الفرنسية: حافظ إدوخراز -

ربما لن يكون من المبالغة القول: إن الفلاسفة لم يهتمّوا حقًّا بموضوع الاستهلاك. وبالمقابل، من النّادر (مع الأسف) أن يحدّثك مديرٌ لعلامةٍ تجارية عن أرسطو أو سبينوزا. ومع ذلك، كيف يتأتّى لنا أن نفكّر بشكل لائق في موضوع الاستهلاك دون خلفية فلسفية؟ لأن السلع التي نستهلكها تثير أسئلة ذات طبيعة فلسفية: أي معنًى لها في حياتنا؟ ما القيمة التي نمنحها لها؟ وما الذي تخبرنا به عن العلاقات بين الناس؟

بعيدًا عن مسألة الاستعمال

لقد حظي موضوع الاستهلاك بالتحليل منذ فترة طويلة من المنظور المزدوج للمنفعة والأخلاق، غير أن علاقتنا بالسلع ليست علاقة أداتية وحسب. وحتى لو بدا من الصّعب استبعاد القيمة الاستعمالية للسلع تمامًا (كما اقترح من قبل الفيلسوف جون بودريار (Jean Baudrillard) على سبيل المثال)، فإن السلع لا يمكن اختزالها في وظيفتها العملية.

إن المعنى الذي تُحيل إليه سلعة ما قد يكون شخصيًّا أو عائليًّا أو اجتماعيًّا أو ثقافيًّا... وبعيدًا عن مسألة الاستعمال، فإن قضية المعنى هي التي توجد هنا على المحكّ. من المؤكّد أن جميع السلع تملك خصائص ملموسة (الأشكال والألوان والمواد)، إلا أن معناها لا يقتصر على هذا البعد الجوهري. ولا قيمة للسلع إلا بمقتضى المعنى الذي نسقطه عليها. وهذا الذي يسمح لها بأن تلعب دور وساطاتٍ جوهرية (فيزيقية ورمزية في الوقت ذاته) في علاقاتنا مع الآخرين ومع أنفسنا.

البعد الأخلاقي

بصرف النّظر عمّا إذا كانت السوق محايدةً من الناحية الأخلاقية أم لا، فإننا سوف نترك جانبا مسألة الآداب العامة (morality) التي تطمس البعد الأخلاقي للاستهلاك. ولنعتبر، أسوةً بالفيلسوف بول ريكور (Paul Ricoeur)، أن الأخلاق (ethics) تحيل إلى ما يعدّه الفرد خيِّرًا، في حين أن الآداب العامة تشير إلى ما يفرض نفسه على أنه إلزامي بالنظر إلى أننا نعيش في مجتمعات تحكمها قواعد وقوانين تفرض قيودًا على الأفراد.

إن النظر إلى الأخلاق وفقًا لهذه الرؤية يعني افتراضًا مفاده أن العلامات التجارية التي يتفاعل معها هؤلاء الأفراد تزعم مبادئ (وقناعات) وتُزاوج بين مواقف وأفعال متعلقة بالمنتجات المعروضة، وعمليات الإنتاج، وظروف العمل، والخطابات الإعلانية، وغير ذلك. كما أن الحديث عن الأخلاق يعني أيضًا الانطلاق من مبدأ مفاده أن الأفراد الذين يشترون السلع لا يبحثون فقط عن القيمة النّفعية لهذه السلع؛ إنهم يختارون ويقرّرون وفقًا لما يعدّونه خيّرًا.

السعادة باعتبارها أفقًا

من الممكن إذن تحديد استراتيجيات استهلاكية بوسع الأفراد أن يلجأوا إليها. وللقيام بذلك، يجب علينا بدايةً أن ننطلق من هذا المحرّك الأول المتمثل في السعادة. لقد أنشأ علم التسويق، من خلال محاولة الربط بين قيم أداتية (سهولة الاستخدام، السرعة، السعر المنخفض) وقيم نهائية (الحب، التواجد معًا، السعادة)، ما يشبه سلّمًا للكينونات يتوجّه نحو البحث عن السعادة.

إن السلع التجارية قد تُبرز أو تُخفي بشكل أو بآخر الرّغبة في السعادة. تلك إحدى الأساطير المؤسّسة لمجتمع الاستهلاك الجامح. لكن هل يمكننا تحقيق السعادة من خلال الاستهلاك؟ هذا ما لا تنفكّ العلامات التجارية تحدّثنا عنه.

لننطلق، على سبيل المثال، من حملة إعلانية لعلامة تجارية. إنها تقول لنا بشكل صريح ودون مواربة: «من الجيّد أن نمتّع أنفسنا!». ما الأهمية الفلسفية لمثل هذا الادّعاء؟ وما الذي تقوله لنا عن الرغبة الاستهلاكية؟

إضاءة أبيقورية

لنعد إلى ما يخبرنا به الفيلسوف الإغريقي أبيقور (Epicurus) عن الرغبة، وكيف أنه من المهم أن نأخذ بعين الاعتبار خاصيّتين: هل هذه الرغبات طبيعية؟ وهل هي ضرورية؟ وبناءً على مفتاح القراءة المزدوج هذا، يمكننا تسليط الضوء على أربع استراتيجيات استهلاكية ممكنة.

• الحفاظ على الاعتدال:

تتمثل أول استراتيجية في تفضيل الرغبات التي تكون طبيعية وضرورية في آن الوقت. إنها ببساطة استراتيجية استهلاكية تقوم على أخلاقيات الاعتدال.

يتوافق هذا المنطق النّقدي للمتع مع الفكرة الأبيقورية التي تقول: إنه من الأفضل الابتعاد عن الأشياء التي يمكن أن تتسبّب لنا عاجلا أم آجلا في الألم أو الاستعباد. ويشجّع هذا التمثّل للاستهلاك الابتعاد عن التّرف والأشياء السخيفة والتافهة. إننا نقدّر الخير في بعده الوظيفي مختزلين إيّاه غالبًا في قيمته الاستعمالية. والأساس الأيديولوجي هنا هو أن بإمكانك دائمًا فعل المزيد بموارد أقل، ومن الضروري أن نبقي أنفسنا دومًا في منأًى عن الفوران والحماسة والإسراف غير المجدي والإنفاق غير المنتج الذي يميز الاقتصاد العام وفقًا للفيلسوف جورج باتاي (Georges Bataille).

تقوم أخلاقيات البساطة هذه على مبدأ اقتصادٍ مقيَّد يركّز على العمل وإنتاج الثروة والمنفعة (على عكس الاقتصاد العام الذي يحكمه مبدأ إنفاق فائض الثروة). ومن السهل أن نفهم حدود تعميم مثل هذا النهج لأسباب أنثروبولوجية (الحاجة الماسّة إلى الإنفاق من أجل حيويّة النظام الاجتماعي)، واقتصادية (خلق القيمة)، ونفسية (الشعور بالتقييد). وسرعان ما تتحطّم هذه الأخلاقيات مصطدمةً بحدود المنفعة.

• البحث عن المتعة:

تركّز الإستراتيجية الثانية على الرغبات التي تكون طبيعية غير أنها ليست ضرورية. والفكرة هنا هي ألا نسعى سوى وراء الرغبات الطبيعية التي لا يسبّب عدم إشباعها أي ألم. وتحيل هذه الإستراتيجية إلى البحث عن المتعة، وهي متع بسيطة في كل الأحوال لا تؤدي إلى الإدمان أو التبعيّة. يرى أبيقور أن هذه الرغبات لا تعدو أنها تنوّع المتعة وليست ضرورية من أجل إزالة الألم (مثل الأطعمة الشهية).

في كتابه الموسوم «زلبادوني» (Zilbadone) الذي يحتوي على نظرية في المتعة، يُبرز المفكر الإيطالي الكبير جياكومو ليوباردي (Giacomo Leopardi) على نحوٍ جيد الغرور الكامن وراء مثل هذا المسعى. إن الرغبة في المتعة أمر فطري وهي غير محدودة، لكن الموجود يكون دائمًا فرديا، أي محدودا. وبالتالي فلا يمكن لسلعة ما أن تمنح سوى متعة محدودة في الزمن. وفضلا عن ذلك، ليس ثمّة متعة أبدية فهي لا تدوم إلا لفترة قصيرة ولا بد من تنويع محتواها، وإلا فإنها تتآكل بسبب التعوّد.

ويذهب ليوباردي أبعد من ذلك قائلا: إنه لا وجود للمتعة، فالذي يوجد هو هذه المتعة بعينها أو تلك، والتي تكون دائمًا محدودة ومحدّدة. وإلى هذا ترجع الطبيعة المؤلمة للحياة، لأن هذه الأخيرة تطمع في متعة غير محدودة لكنها لا تجد بين الفينة والأخرى سوى متعة محدودة لا تروي ظمأها ولا ترقى إلى إرضائها. إن كل ما نفعله باستمرار هو تحويل انتباه «الرغبة غير المحدودة» كما يقول ليوباردي. ولهذا فإن كل المتع بلا استثناء ممزوجة بالألم. ولا وجود للمتعة غير المحدودة في الواقع، بل هي موجودة في الخيال فقط، ومن هنا تأتي أهمية الصور والمظاهر التي تملأ المجتمع الاستهلاكي.

• تكثيف العواطف:

تركّز الاستراتيجية الثالثة على الرغبات التي ليست طبيعية ولا ضرورية، أو ما يسمّيه أبيقور بالملذّات العقيمة التي لا طائل منها مثل التشريفات أو مراكمة الثروات. تتعلّق هذه الاستراتيجية بتكثيف المتع والعواطف، وبوسعنا أن نطلق عليها بشكل مشروع اسم النّزعة التكثيفية.

يبحث الناس عن السلع لأنها تبعث الأحاسيس والعواطف فيهم، سواء كانت ممتعة لهم أم لا. إن الفكرة هنا هي أننا نعيش حقًا من خلال ما هو استثنائي وغير مألوف وغير متوقع. لقد أبرز داني روبير دوفور (Dany-Robert Dufour) من خلال دراسة تاريخ الرأسمالية في عمله الموسوم «السوق الإلهية»، كيف أننا انتقلنا من أوامر تحرّم علينا الاستمتاع بالملذّات إلى واجب الاستمتاع بأي ثمن. ومن المؤكّد أن الماركيز دو ساد (Marquis de Sade) مثال على حركة تحرير المشاعر هذه، التي دعمت الرأسمالية باعتبارها اقتصادًا للاستمتاع.

• استراتيجية رابعة:

أخيرًا، لا يتناول أبيقور مسألة المتع الضرورية التي ليست طبيعية. يمكن أن نطلق على هذه الاستراتيجية «نزعة التأنّق» (dandysme)، وهي هذه الرغبة «النّادرة جدًا بين المعاصرين، لمحاربة التّفاهة وتدميرها»، والتي تحدّث عنها شارل بودلير (Charles Baudelaire) في «رسّام الحياة الحديثة».

يؤسّس المتأنّق لضرورة ما هو غير طبيعي، أي التميّز و»الأناقة المدفوعة إلى حدّها الأقصى» وهذه «البساطة المطلقة»، التي يراها بودلير كأفضل طريقة للتميّز عن الآخرين. إن نزعة التأنّق هي إذن مثال عن خدعة كبيرة في المجتمع الاستهلاكي تتمثل في التطبّع مع ما هو مصطنع، أي الرغبات غير الطبيعية.

يثير الكشف عن هذه الأنواع من الرغبات عدة أسئلة: كيف يمكننا التوفيق بين المقاربة المقتصدة للاستهلاك والحاجة المستمرة إلى خلق قيمة اقتصادية؟ كيف يمكن أن نشحذ رغبة الأفراد دون أن نسقط في نظام نزوي بحت، ودون أن تؤدي الحياة اليومية والتكرار إلى ابتذال السلع التجارية؟ ما هو الدور الذي تلعبه السلع المادية والخيال في خلق الرغبات التجارية ونشرها؟ كيف يمكن للعالم التجاري التوفيق بين الرغبة في اللامحدود التي تميز البشر ومحدودية السلع التجارية؟

على هذه الأسئلة وغيرها ينبغي أن تنصبّ نظرة الفيلسوف من أجل التفكير حقًا في موضوع الاستهلاك.

بونوا إلبرون أستاذ علم التسويق بمدرسة باريس العليا للتجارة

عن موقع The Conversation