الفصل الأول: مريم دلشاد
«آستا... آستا».
سقطت عباءتي على كتفي فرفعتها، هرولت فاخترقت الغبار المتساقط من الأسقف والمتصاعد من أقدام العابرين، اختلطت دقات قلبي مع رنات سلاسل الحرز الذي كان يدق على صدري عند كل حركة فيوجعني. شوّشتني روائح السوق، الرز والطحين والتوابل وروث الدواب وتخمّر الأجساد، سقطت غشاوة من العرق على عيني فلم أرَ إلا أطياف المارّة الملتصقين بجدران الدكاكين والعتالين الذين ينحُّون بضائعهم مفسحين لي الدرب وهم يطلبون مني الإبطاء «آستا.. آستا». ناولني حسن صرة الشاش التي لفّ بها القامش الشنجهاغي الأخضر الذي طلبته خيرية زوجة حجي علي حسن لعرس ابنها إبراهيم، كنت أهمُّ بمغادرة الدكان لكن حسن أشار تجُاه عسكري الوالي الواقف عند أول الزقاق ينكش بضاعة خوجة أحمد بطرف عصاه «هذا خميس سنورة صح؟» «هوه.. بس يتشيطن على الناس في السوق». غمزت لحسن وأنا أمسك بكبة كنت أتسلى بصنعها من بقايا الأقمشة ومشيت نحو العسكري وألقيتها عند قدميه، فقفز وصرخ وصار ينط في مكانه وكأن ألف عفريت تلبَّسه. أكملت سيري وكأنه لا دخل لي بهيجان العسكري عندما ظن الكبة سنورة قفزت عليه من مكان ما، لكن خلف غشوتي كبرت ابتسامتي وبدأت أشعر بصعود الضحكة من بطني حتى رئتي. كادت الضحكة تنفجر وتفضحني في السوق، لولا أن طيفًا نحيلاً مرق أمامي في مجرى السوق فشغلني، تلاشت ضحكتي وما عاد صوت زعيق العسكري وسبابه يصلني. كان هو... حثثت خطواتي نحو مجرى السوق، كان للحظة أمامي، أدار وجهه ناحيتي ثم ما لبث أن غاب في سكة من سكك السوق. كان هو، أعرفه من نحوله وانحناءة كتفه جهة اليمين عندما يمشي، أعرفه من جانب وجهه ومن ذاك التقوس الطفيف في ظهره. كان هو، أنا أعرفه.
«آستا... آستا»
«كمو... كمو...»
«شوي... شوي»
صاح عليَّ الباعة والعتالون والمارة كي أبطئ، لكني أسرعت في مجرى السوق غير مكترثة، دخلت سكة الظلام خلفه فلم أرَه، فتَّشت الدكاكين بعيني لكنه لم يكن في أيٍّ منها، أسرعت أكثر متجاهلة همهمات الرجال ولعناتهم. خرجت من سكة فتلقفتني أخرى أضيق، شعرت بثقل الهواء الذي صار كأنه ستارة من جوخ أُسدلت أمامي، مضيت فيه وهو يصدني، صرخت فحجب صوتي، فاندفعت بسرعة أكبر لأخرج إلى سوق التوابل. أعماني الضوء فأغمضت عيني للحظة ثم فتحتها، فعلت ذلك مرة أخرى علّي أراه، لكني لم أرَه. وقفت حائرة أتلفت حولي، فحصت وجوه الرجال وعاينت مَن في الدكاكين وما فيها ولم أرَه. عدت إلى الركض تجاه مجرى السوق، وعندما وصلت ما وجدت له أثرًا، حاولت التقاط أنفاسي وتفحّصت وجوه المارّة فربما توارى خلفها. لم أجده، وكأن وجهه كان من غبار تلاشى في كثرة الوجوه. عدتُ إلى دكاني وأنفاسي تتلاحق من الركض، وضعت كفي على صدري علّ وجيبه يهدأ، أمسكت بالحرز فربما إن كان فيه طلسم هدأني.
هو دلشاد، لا أخطئه، جاء ليبحث عني. دلشاد حي، دلشاد لا يموت ويترك مريم وحدها. لا أعرف إن كان الركض أتعبني أم أن صدري أثقله الوجع، حدّقت إلى أصابع قدمي المغبرة، فتذكرت الدرب من لوغان إلى بيت لوماه، عضضت على شفتي وأنا أراه يغيب في دروب ولجات، حتى غلب الألم دموعي. سمعت صوت حسن وهو يمد يده بالصرة «هين سرتي بيبي مريم؟» تناولتها ولم أُجِبه، متى بدأ حسن يسميني البيبي؟ نظرت إلى وجه حسن طويلاً، هل فعلاً يشبهه؟ كيف لأحد أن يشبهه؟ كَبُر الفراغ في قلبي فأوجعني وأوجعتني خيبتي، خيبة من ظن أنه وجد ثم أدرك أنه ضيَّع ما وجد. هل كنت أحلم؟ أكان كابوسا؟ أركض في السوق من زقاق إلى آخر ولا أصل؟ سقطت عيني على قدميَّ المغبرتين، قدميَّ اللتين تركضان ولا تصلان إليه، شعرت بألم ركضهما الحافي، أين سقط نعلاي؟ أطلت النظر إليهما، تذكَّرتُ لمَّا كان حصى الوادي يحرق باطن قدمي فيُقطِر أبي الزيت في كفه ويدهنهما به، لم يكن الألم يزول مرة واحدة، بل يتلاشى مع الوقت وهو يغنّي لي ثم أتبعه في الغناء، من منا كان يغنّي للآخر؟ خرجت من مجرى السوق لكني لم أستطع الكفَّ عن التلفت، وكأن الأمل الذي برق للحظة سيظل يخادعني وسأظل أطارده.
وصلت إلى بيت حجي علي حسن، تلمست مطرقة الباب التي أحمتها الشمس، لسعت أصابعي فاسترددتها، رأيت باب بيت لوماه يفتح، ومامويزي تبتسم فينكشف فمها الأدرد، ثم وبحركة من رأسها تصرفه، التفتُّ فلم أرَ سوى ظهره، وصوتي يغيب وكأن مامويزي سرقته فلم أستطِع مناداته، ثم جرتني بذراعي فصرت أتبعها أينما ذهبت علَّها تعيده إليَّ. طرقت الباب ثانية، سمعت خطوات الخادمة الصغيرة من وراء الباب «جاية.. جاية.. ما شي صبر؟ جاية»، فتحت الباب وتبسمت بفم واسع تملؤه الأسنان الصغيرة، «قربي مريم، دخلي.. دخلي» لكني لم أدخل، سلمتها صرة الشاش عند الباب، وأمرتها أن تبلغ سلامي إلى سيدتها وغادرت. أردت العودة إلى البيت فأخذت طريق السوق، مشيت فيه من أوله إلى آخره، تفحّصت وجهي المكروب في وجوه أهله، جالت عيناي داخل دكاكين البانيان والعرب مرة أخرى لكني لم أجده. لعله ما كان هو، ربما سهوت للحظة فخُيِّل إليّ أنه هو، ربما تمنّيت عودته فحضر طيفه ليشاكسني، ربما كان قرينه، يقال إن لكل شخص قرينًا، مامويزي حكت لي، لكن ما بال قرينه غاب مع غيابه وما ظهر إلا الآن! لا، كان هو، أنا أعرفه، لن تشكِل عليّ هيأته، ثم إن قلبي هو الذي يعرف، وقلبي هو الذي ركض أمامي فتبعته.
ماذا سيقولون في السوق؟ مريم دلشاد جُنَّت؟ أم خلعت برقع الحيا فصارت تركض في أزقة السوق بين الرجال، تدافعهم ولا تكترث. لكنه هو، أنا أعرفه، لقد عاد، وجاء ليبحث عني، وإلا ما حاجته إلى مطرح وهو الذي لا أذكر أني سمعته ينطق اسمها. لا بد أن أحدا أخبره بأن عبداللطيف مات وأني رحلت إلى مطرح، لكن من سيخبره عن مكاني وأنا هربت من دون أن أترك ورائي أثرا، أتراه لقي ناصر بن صالح في سوق مسقط؟ لكن ناصر لم يعد من قطر، ولو أنه عاد لكان جاء لزيارتي أول وصوله، ثم كيف سيعرف أبي أن ناصر يعرفني؟ وكيف يعرف ناصر أن دلشاد أبي وهو لم يعرفني إلا زوجة لعبداللطيف وأمًّا لفريدة؟ عدت إلى البيت فوجدت حسن متكئًا على جدار البيت، وما إن رآني حتى تقدّم مني خطوة فرفعت غشوتي. بيبي مريم... ما كانت بي طاقة على الكلام، فتحت باب البيت ودخلت، سمعت أصوات فريدة والفتيات وهن يهبطن من السطح مرددات وراءها: قل هو الله أحد.
بشرى خلفان روائية عمانية