العودة إلى مفهوم الحرب العادلة
«بما أننا عجزنا أن نجعل من العدالة قوة، فقد جعلنا من القوة حقا وعدالة».
ب. باسكال
«الحرب، لا «نعملها»، بل هي التي تعمل عملها فينا».
ج. ب. سارتر
قد يبدو، لأول وهلة، أن الجواب عن هذا السؤال من السهولة بمكان. إذ يكفي أن نبرز ما ينطوي عليه من تناقض. فهو يشكل ما يدعى في البلاغة الفرنسية Un oxymore فيجمع بين ما من شأنه ألا يجتمع، ويضع جنبا إلى جنب، الحرب، بكل ويلاتها وخرابها وعنفها وخللها وأمواتها، مع ما تنطوي عليه من ظلم وشر، إلى جانب العدالة التي هي من صميم الأخلاق، والتي هي مُثل عليا، وقيمٌ ومعايير ومبادئ تسمح بالتعايش السلمي والحرّ بين الأفراد، أي باعتبارها انسجاما وانتظاما وتوازنا.
رغم هذا، فإننا نعثر من بين كبار المفكرين، من يقبل هذا التناقض، بل ربما من يبرّره ويمجّده. فهذا هيجل، صاحب الفكر الجدلي، وممجّد النفي والتناقض، يرى أن الحرب هي المحرّك الجدلي للتاريخ، فهي تمكّن الدول من أن تنال الاعتراف عندما تبين عن قوتها أمام امتحان الواقع، وبذلك فهي تسهم في إحلال «العقل في التاريخ». إلى هذا المذهب ذاته، الممجّد للنفي، يذهب فرويد. ففي حوار كان قد تبادله مع أ. آنشتاين، فيما يخص «أصول الحرب»، كتب مؤسس التحليل النفسي: «ما يبدو لنا اليوم، فإن الحق والعنف نقيضان، ورغم ذلك، يمكن أن يتضح لنا بسهولة، أن أحدهما ناجم عن الآخر، إذا عدنا إلى البدايات وعرفنا كيف نشآ».
معروف أن فرويد يردّ الفعاليات البشرية إلى دافعين أساسين: غريزة البقاء والحياة، ثم غريزة التدمير والقتل. إلا أنّنا، حسب المفكر النمساوي، «لا يجب أن نتسرّع كثيرا في إصدار الأحكام الأخلاقية على الخير والشر. إذ إن إحدى هاتين الغريزتين لا تقل ضرورة عن الأخرى. لأن الحياة تنشأ عن أفعال متعارضة بشكل متبادل ومتزامن للإثنين، بل يبدو الأمر كما لو أن إحدى هاتين الغريزتين تستطيع بالكادّ أن تعمل بمعزل عن الأخرى... ومن النّادر جدا أن يكون هناك فعل مدفوع بغريزة واحدة (وهي نفسها مكونة أصلا من الإيروس والتناتوس، من غريزتي الحياة والموت)». ليس الجمع بين البناء والتدمير عند مؤسس التحليل النفسي إذاً مجرد جمع في مستوى العبارة والتركيب اللغوي، وإنما هو جمع وجودي. فكل بناء ينطوي على هدم. لم يكن هدف فرويد، بطبيعة الحال، أن يبرّر الحروب، وأن يخلط القيمة بالواقع، وما ينبغي أن يكون بما هو كائن. فنحن نعلم أنّ صاحب «قلق في الحضارة» سيدعو إلى تصريف العدوانية في قنوات أخرى غير قنوات الحروب أو، كما يقول: «الإبقاء عليها في المستوى الذي لا يحتاج فيه إلى ترجمتها إلى حروب».
لا يعفينا فرويد إذاً من مواصلة السؤال عما إذا كانت هناك حروب عادلة؟ خصوصا وأنّ التاريخ قد عرف، ويعرف إلى اليوم، حروبا وُجد من المفكرين من رأى عدالتها، وهكذا تساءل الكثيرون خلال الحرب العالمية الثانية، على سبيل المثال، «ألم يكن من العدل أن تعلَن الحرب ضد هتلر لوقف المدّ النازي؟»
يرد البعض إشكالية الحرب العادلة إلى أصول دينية. غير أن المسألة ليست بهذه البساطة. فنحن نجد عند الفلاسفة الإغريق، عند أفلاطون، ثم أساسا عند أرسطو، تمييزا بين «الحرب العادلة» وغير العادلة، والأهم من ذلك أننا نلقي عندهم تساؤلا عن إمكانية وجود معيار يعمل فوق الدويلات، للحكم بمقتضاه على أعمال دولة -المدينة. يرجع الفضل إلى المعلم الأول في كونه أوّل من تحدث عن حرب من أجل السلام وإقامة نظام عادل. يوجز أرسطو موقفه في كتاب الأخلاق إلى نيقوماخوس: «ينبغي ألا نمارس الحرب بقصد استعباد أشخاص لا يستحقون ذلك، ولكن، أولا وقبل كل شيء، تجنبا لأن نصبح نحن عبيدا للآخرين، ثم سعيا وراء مصلحة الرعايا، وليس بهدف السيطرة على الجميع». فإذا كانت الحرب في جزء كبير منها دفاعية إلى حد كبير، فإن «الحرب العادلة» يمكن أن تبرِّر، بالنسبة لأرسطو، العملَ الهجومي، وعمليات الغزو.
سينقل شيشرون إلى العالم المسيحي هذه الفكرة عن حرب من أجل السلم، وسيدافع بصريح العبارة عن شكل من أشكال الحروب، سينعته بـ«الحرب العادلة»، يقول: «إن القوة التي تدافع عن الوطن ضد البرابرة تتوافق تمام التوافق مع العدالة، شأنها شأن القوة التي تحمي من اللصوص». وعلى منواله، وضد الذين يرون أن كل حرب شرّ من الشرور، يصر القديس أوغسطينوس على شروط «الحرب العادلة»، خدمة للعدالة: «فالجندي الذي يقتل العدو، شأنه شأن القاضي والجلاد الذي يعدم مجرما، لا يبدو لي أنه آثم، لأنهم لا يعملون جميعهم بذلك سوى طاعة القانون (...) فعندما يقتل الجندي العدو، لا يكون إلا ممثلا للقانون».
هذا هو المنحى الذي سيتخذه القديس توماس الإكويني الذي لم يكن يرى أن الحرب دوما خطيئة. فهي قد تكون «حربا عادلة» إذا احترمت شروطا، منها أن تقرر الخوض فيها السلطةُ السياسيةُ التي تتمتع بمشروعية، والتي تسعى إلى خير الجميع. فالإكويني يأبى أن يطرح المسألةَ على مستوى الأفراد. وهو يضع شرطا أساسا للحرب العادلة ألا تصدر عن فرد بعينه، أو عن مجموعة تدافع عن مصالحها، بل إن الحرب قضية عمومية ينبغي أن تخاض من أجل قضية عادلة، كوقف عدوان على سبيل المثال. غير أن تقدير العدوان وتحديده يطرح عدة إشكالات كما نعلم، فهل من الضرورة أن يتعلق الأمر بعدوان فعلي، أم يكفي فقط أن تكون هناك نيّة عدوان، عدوان مفترض؟ هذا العدوان المفترض هو ما سمح بكثير من الحروب التي سمّت نفسها «حروبا استباقية»، دلت كثيرٌ من التجارب التاريخية، وحتى المعاصرة منها، أنها كانت مجرد ذريعة لشنّ حروب تكون أبعد ما يمكن عن أيّ مفهوم عن العدالة. ذلك أن الذرائع تقوم على افتراضات وتنبؤات وتأويلات كثيرا ما تكذّبها الوقائع في أغلب الأحيان، هذا إن لم تتأسس على مصالح تتخفّى وراء ذرائع. وقد كان المنظر الحقوقي غروتيوس في ثلاثيته «في الحق في الحرب والسلم» (1625) قد قام ضد هذا النوع من الحروب «الاستباقية»، التي نعرف اليوم ما قد تخلّفه من ويلات، فكتب: «ينبغي ألا نعترف بأيّ شكل من الأشكال بما يعلّمه بعض المؤلفين من أنه يجوز حمل السلاح لإضعاف أمير أو دولة تتزايد قوتها يوما بعد يوم، بدعوى أننا، إذا تركناها ترتقي وتتزايد قوتها، فقد يجعلها ذلك في وضع يمكّنها من إلحاق الأذى بنا وقتما حانت الفرصة».
لا يعني ذلك أن غروتيوس ينفي أن تكون هناك حروب «عادلة». إلا أنّه يأبى أن يرفع عنها صفة الشر: فأنْ تكون الحرب عادلة لا يعني مطلقا أنها خير. فهي، بما هي حرب، شرّ، إلاّ أنه شرّ يقف حاجزا دون شرور أخرى. فهي، حتى إن كانت حربا، فمن أجل السّلم». وعندما يتساءل في كتابه سابق الذكر: «ماهي الحرب العادلة؟ وعمّا هو عدل في الحرب؟» يجيب: «الحرب العادلة هي السّعي نحو حق من الحقوق عن طريق قوة السلاح. فما يهم هنا هو، قبل كل شيء، صحة السبب وليس طبيعة المحارب». مهمة القانون بهذا الصدد، هو أن يمكّننا من الوسائل القانونية لإضفاء المشروعية على التدخل المسلّح. عدالة الحرب ستستمد هنا من كونها تتمّ وفق القانون. فالحرب ينبغي أن تعلن لدواعي معقولة، كما أن المتحاربين ينبغي أن يحترموا القوانين الداخلية المنظمة للحروب.
بهذا المعنى سيردد ماكيافيلي: «تكون الحرب عادلة عندما تكون ضرورة لا بد منها». وقد كان ابن خلدون، قبله، قد ميّز بين حروب الفتن الناتجة عن المنافسة والعدوان، وحروب العدل، الناتجة عن الجهاد في سيبل الله، أو حروب الدول ضد الخارجين والمتمردين عليها.
سيعارض الفيلسوف الألماني إ. كانط هذا الموقف مبينا أن «الحرب سيئة لأنها تخلق من الأشرار أكثر مما تقضي عليهم». إنها مولّدة للشّر، فكيف لها أن تقاومه؟ إن الحرب لا تتم فقط بين أعداء جاهزين، إنْ صحّ التعبير، بل إنها تتولى مسؤولية «صناعة الأعداء». ولا حاجة إلى إعطاء أمثلة على ذلك، ويكفي أن ننتبه من حولنا كي نرى كيف تخلق بعض الدول العظمى أعداءها خلقا، بل إنها قد تخلق أعداء من قبيل الكائنات الوهمية، كأن تتحدث عن «محور الشر» على سبيل المثال.
هذه الصّعوبة في تمييز الغاية عن الوسيلة، حيث تصبح الحرب نفسها أداة للقضاء على الحرب، دفعت بعض المفكرين إلى البحث عن مفهوم آخر بديل عن «الحرب العادلة»، هو مفهوم «الحرب النظامية». مفهوم «الانتظام» هنا يعني أساسا إخضاع الحرب لقواعد وشروط كما رأينا مع غروتيوس. وعلى غراره سيشترط روسو في «عقده الاجتماعي»، على سبيل المثال، أن تخضع الحرب لقواعد، وألاّ تقوم إلا بين دولة وأخرى، كما سبق للإكويبي أن اشترط.
ويمكن أن نقول بصفة عامة إن فلاسفة الأنوار يذهبون إلى مؤازرة الحروب الدفاعية، وربط الحروب بالقانون والمشروعية، وهكذا يذهب مونتيسكيو في كتابه «روح القوانين» إلى القول: «إن حياة الدول، مثل حياة البشر، فهؤلاء لهم الحق في القتل في حالة الدفاع الطبيعي، وأولئك لهم الحق في شن الحرب من أجل الحفاظ على أنفسهم(...) بين المواطنين، حق الدفاع الطبيعي لا يحمل في طياته ضرورة الهجوم. بدلا من الهجوم، عليهم فقط اللجوء إلى المحاكم(...)، ولكن، بين المجتمعات، يستلزم حق الدفاع الطبيعي أحيانا ضرورة الهجوم، عندما يرى شعب أن سلاما أطول في الداخل، من شأنه أن يضع شخصا آخر في وضع يسمح له بتدميره. فالهجوم، في هذه اللحظة، هو الوسيلة الوحيدة لمنع هذا الدمار».
أما كانط، فهو يؤكد على الطابع الحاسم، والإشكالي في الوقت ذاته، لتدخّل القانون في الحروب. يقول: «يجب شنّ الحرب وفقا لمبادئ بحيث يكون من الممكن دائما الخروج من هذه الحالة الطبيعية للشعوب(...) للدخول في حالة قانونية». وهو يضيف، في كتابه «نحو سلام دائم» 1795: «لا ينبغي لدولة في حالة حرب مع دولة أخرى، أن تسمح لنفسها بأعمال عدوانية ذات طبيعة تجعل الثقة المتبادلة مستحيلة أثناء السلام في المستقبل...ينبغي أن يظل هناك، في خضَمّ الحرب، بعض الثقة في مشاعر العدو، وإلا فلن تكون هناك معاهدة سلام ممكنة، وستتحول الأعمال العدوانية إلى حرب إبادة».
إبعادا لكل طرح أخلاقي لمسألة الحرب، يذهب كلاوزفيتز، الذي يرى أن «الحرب ليست إلا امتدادا للسياسة بوسائل أخرى»، يذهب إلى النظر إلى الحرب كظاهرة سياسية وليس كظاهرة أخلاقية. إن كانت الحرب ممارسة للعنف، فليس ذلك إلا امتدادا للعلائق السياسية بين الدول عندما تفشل الطرق السياسية المعتادة عن إيجاد الحلول. لذا فإن أسباب الصراعات ينبغي البحث عنها، في سياقها السياسي، وليس مطلقا في سياق أخلاقي أو، بالأولى، ميتافيزيقي. وبما أن الوقائع، كما نعلم، لا تنقاد إلى الأخلاق، ولا يمكنها أن تأتمر بأوامر مطلقة، فإن القانون الدولي سيسعى إلى ضبط العلائق بين الدول، معترفا ضمنيا أن الحروب تشكل الحياة السياسية الدولية. وهكذا سيهدف نظام القانون الدولي إلى تنظيم العلائق بين الدول. ولن يعود مفهوم العدالة مفهوما أخلاقيا وإنما سيصبح مفهوما سياسيا، وبدل «الحرب العادلة» سيغدو الحديث أساسا عن «الحرب القانونية أو النظامية». ستغدو حالة الحرب وضعا يخضع للقانون الدولي. وكل حرب معلنة، أو تمّ الخوض فيها، ينبغي أن تتمّ وفق قواعد يتم تحديدها، أي أنها ينبغي ألا تحيد عن المشروعية، وليس أن تتم وفق ما تمليه الأخلاق، وباسم قيم متعالية. كان كانط قد أدرك، على غرار العديد من معاصريه، هشاشة هذه الدعوة لتطبيق القانون على الحروب، باعتبارها فقط مجرد قيود على الحق في الحرب. وقد أكدت التجارب التاريخية أن أي كيان أممي عاجز، في نهاية الأمر، عن التحكم في جميع الحروب، والفصل الدقيق بين ما هو عدل فيها عما ليس كذلك. وغالبا ما يبقى المتحكم الأساس هو ميزان القوى، وليس شرعية الحرب وعدم شرعيتها.
تطرح نظريات الحرب العادلة بشكل أو بآخر، في أفق محكمة عالمية لن تكتفي بمعاقبة الحروب الظالمة، وإنما تذهب حتى استبعاد كل حرب واستعمال للقوة في حل النزاعات. الأمر الذي من شأنه أن يحظر الحرب في نهاية المطاف. غالبا ما تشن الحرب العادلة بالنسبة لمنظريها، إلا لغياب حل آخر. وهكذا، فلن تكون الحرب التي تُشنّ تحت رعاية الأمم المتحدة حربا عادلة بالضرورة. إلا أنها يمكن أن تكون مشروعة. الحرب هنا حل ولكنها، على حد قول أحد رؤساء فرنسا السابقين: أبشع الحلول، وأكثرها سوءا.
عبدالسلام بنعبد العالي مفكر وكاتب مغربي، أستاذ في جامعة محمد الخامس بالرباط، له كثير من المقالات والدراسات العلمية.