الشاعر المريد والشيخ المتصوف
نعدم في الثقافة العربية أخبارًا تفيد بكيفية تعلم الشعراء على يد شيوخ التصوف، فأغلب ما جاءنا اقتصر على ذكر التقاطع الذي يحدث بينهم من باب كونهما أصحاب أحوال وخيالات. ولقد صادفني، وأنا أتوسع دراسةً في حياة الشاعر الحلبي صلاح الدين الكوراني، وروده تلميذا على حضرة شيخ حلب آنذاك أبي بكر بن أبي الوفا.
وفي الواقع، قسّم صلاح الدين الكوراني في كتابه «مطلع النيرين في مناقب الشيخين»، أساتذته إلى طبقتين: شيوخ المذاهب من جهة، وشيوخ العلوم من جهة ثانية. فأما شيوخ المذاهب، فاقتصر على اثنين: مفتي الشافعية بحلب عمر العرضي الذي لقبه بشيخ الإسلام، ومفتي الحنفية بحلب أبو الجود البتروني الذي أطلق عليه اللقب نفسه.
ولقد استطرد صلاح الدين الكوراني من ذكرهما إلى ذكر الفقيه أبي اليمْن البتروني مفتي الديار الحلبية، وإلى ذكر والدهما الشيخ الصوفي صاحب الكشف والشهود عبدالرحمن البتروني، وإلى ذكر أبي بكر بن أبي الوفا، والنجم الحلفاوي الحلبي (988هـ-1054هـ) الذي تقاسم معه الدرس وهو الذي استفتاه في مسألة نحوية ناظمًا إياها في شكل أبياتٍ شعريةٍ، وذكر أبي الوفا العرضي ما دار بينه وبين المذكورين من مساجلات ونقاش.
ويأتي صلاح الدين الكوراني في مخطوطته «مناهل الصفا» على سرد بعض وقائع طفولته، مشيرًا إلى طريقة التعليم التي لازمها وهو فتى يافعٌ بالزاوية المعروفة بالجيشية التي كانت تطل بشباكها على الجامع الكبير بحلب. ويذكر إلى جانب كونه تلميذًا للشيخ عمر العرضي، شيخًا آخر يكاد يكون مرجعًا لجميع شيوخ حلب ممن شهدوا له بالولاية وهو الشيخ أبو بكر بن أبي الوفاء. ويشير صلاح الدين الكوراني إلى سماعه لدى شيخه عمر العرضي «شرح الشمسية في علم المنطق» الذي استعصى عليه شرح بعض مواضعها فالتجأ إلى الشيخ أبي بكر بن أبي الوفاء طالبا منه الإعانة عليها، و«شرح الشمسية في علم المنطق» هي رسالة في قواعد المنطق الأرسططالي، بحيث يسمح التمكن منها بالإحاطة بكنه الحقائق ودقائقها، وبها يعْرف صحتها من سقمها وغثها من سمينها. ولعلها من بين ما كان يعتمد عليه الشيوخ في تكوين القضاة والعلماء بحلب حينها. يقول صلاح الدين الكوراني: كنت في أيام قراءتي وأنا يافع السن على شيخ الإسلام ومفتي الشافعية في ديار حلب مولاي وسيدي وقدوتي إلى الله الشيخ عمر العرْضي حاضرا مع طلبة العلم في زاويته المعروفة بالجيشية المطل شباكها على الجامع الكبير بحلب ذات يوم وشرع الشيخ المذكور في إقراء شرح الشمسية في علم المنطق في بحث القضايا المختلطة وتأمل في أثناء الإقراء طويلًا وتفكر مليًا في تقريره، ثم قال لنا إن صدري ضيق وما طالعت هذه الليلة هذا المحل، وهو في غاية الإشكال، فاتركوا الدرس وقوموا بنا إلى زيارة الشيخ أبي بكر قدس سره حتى ينشرح صدرنا، فلما ذهبنا معه ودخلنا على الشيخ أبي بكر رضي الله عنه، قال للشيخ عمر: تعالي اقعدي، الله أعطاك، وكان لا يخاطب الناس إلا بلفظ التأنيث والظاهر أنه كان يريد به نفس الإنسان فجلس الشيخ عمر في ناحية من المكان والطلبة حوله وكان مكان الشيخ أبو بكر (رضي الله عنه) جامع محلة تربة الغرباء بحلب، فأخذ الشيخ (رضي الله عنه) يتكلم بكلام يفهم وكلام لا يفهم كأنه يخاطب الغير به والشيخ عمر ساكت مطرق الرأس، ثم إن الشيخ عمر نهض على قدميه، وقال الفاتحة فقرأناها وقمنا وخرجنا، فلما صار الشيخ عمر خارج الجامع، قال لنا: هل فهمتم ما قال الشيخ (رضي الله عنه)، قلنا: الله أعلم، فقال: إنه قد قرر لي الدرس وبيّن إشكال القضايا وأفهمني إياها، فارجعوا إلى الدرس، فرجعنا إلى الزاوية المذكورة فقرر لنا الدرس كما ينبغي، وقال هكذا قرره لي الشيخ (رضي الله تعالى عنه). ولا ريب أن هذه الواقعة من باب الكشف (رضي الله تعالى عنه وأرضاه). وإذا كان الاستدلال بهذه القصة يفيدنا في فهم واقع تدريس القضاء عند الشافعية بحلب -من جهة-، فإن اعتقاد صلاح الدين الكوراني في الولاية يشير -من جهة أخرى- إلى طبيعة توجه التعليم العثماني آنذاك، إذ كان يسمح بتعيين مدرسين ذوي توجه صوفي عرفاني، كما يدعم -على وجه الخصوص- فرضية توجه صلاح الدين الكوراني الباطني نسبيًا، وهو توجهٌ غير مرتبط بالمذهب الشافعي، إذ كثيرٌ من الشافعيين أنكروا على الشيخ كراماته، وطعنوا فيها وأوغلوا، وإنما توجهٌ يعطي انطباعًا بانقسام الشافعية إلى ظاهرة وباطنة.
وفي القصة التي ذكرها صلاح الدين الكوراني وهو يسرد عن أخيه ما حدث له مع الشيخ أبي بكر بن أبي الوفا ما يؤكد هذا النفور لدى بعض الشافعية من مسألة الولاية، فيقول: وحكى بعض المترددين إلى الشيخ (رضي الله عنه) مناقبه عند أخٍ لي وكان نائبًا في الـمحكمة الشافعية بحلب، وكان أخي من المنكرين على الشيخ (رضي الله تعالى عنه) ويطعن فيه أنه خارق الشريعة، فرغبه ذلك الرجل في زيارته فأبى أن يجيبه، فألحيْت أنا عليه حتى طاوعني، فذهبنا إلى زيارته وكنت إذ ذاك صغير السن، فلما دخلنا على الشيخ (رضي الله تعالى عنه)، قال لأخي: قفي يا قحبة، لا تقعدي، روحي عنا، فوقف أخي في ناحية من المكان ودعاني الشيخ إليه وأدخلني بين رجليه وأخرج لسانه وحركه كأنه يريد تخويفي به، وقال لي لأجل خاطرك ما ننكد عليها، ونخليها تروح في شفاعتك، والتفت إلى أخي وهو واقف على قدميه وقال له: روحي عنا وخليها لنا هذي مثلنا خارقة مارقة.
يتبين حتمًا من هذه القصة أن حب صلاح الدين الكوراني للشيخ ولولايته والذي بدأت تظهر ملامحه سريعًا تحت تأثير شيخه عمر العرضي، قد نما عنده منذ الصغر، ولا شك أنه كان من مريدي الشيخ أبي بكر بن أبي الوفا، بطريقةٍ مباشرة أو غير مباشرة، ما دام أنه قد رغب أخاه الأكبر منه عمرًا فيه وهو لا يزال صغير السن كما قال. وقد نصل بمفهوم هذا الحب -من خلال سرد صلاح الدين الكوراني لوقائع هذه القصة- إلى بركةٍ يعتقد أنه أصابها من دعاء الشيخ أبي الوفا له، عندما اعتبر روحه خارقةً مارقةً مثل روحه هو.
ولا ينبغي أن نغمط له هذا الشعور الذي أوصله في آخر المطاف إلى تأليف كتاب يردد مناقبه بعد موته، وهو كتاب أراد استكمال ما نقص فيه من شهادات أدرجها حوله كتابٌ آخرون.
كان صلاح الدين الكوراني في الثلاثينيات من عمره عندما توفي أبو بكر بن أبي الوفا، وقد استمر صلاح الدين الكوراني -ذو الشخصية الخارقة المارقة التي تكونت في ظل ما أعطي للشيخ من الولاء المعزز بحب التلميذ له ووفائه- في إحياء ذكراه، إذ سيأتيه شيخه في عالم الرؤيا، ويطلب منه أن يقوم ببعض ما يتعين عليه من الواجبات، وسيظهر في الأخير كما لو أن الشيخ ابن أبي الوفا على علم وهو في عالم الرؤيا بما يـحدث في عالم الدنيا سواءً ما تكتم عليه مريده في السر أو ما ظهر عليه في العلن. وسينظم صلاح الدين الكوراني قصيدة يتعجب فيها من هذه الرؤيا، واصفًا ضريح شيخه كما لو أن به ضجيجًا كذلك الضجيج الذي يعقب جلبة المريدين بالزاوية، وهي إشارة إلى استمرار تدفق نوعٍ من الحياة المجازية في الشيخ الذي غادرها إلى الآخرة. يحكي هذه الحادثة فيقول: كان قد حدث لي حادثٌ فنذرت قربانا للشيخ (رضي الله تعالى عنه) إذا فرجني الله منه فحصل الفرج بإذن الله، ثم مضت أيامٌ نسيت هذا النذر وما أرسلت القربان إلى الجبل وذلك بعد وفاته فنمت ذات ليلةٍ فرأيت الشيخ (رضي الله تعالى عنه) في عالم الرؤيا وهو مقبلٌ علي وفي يده العصا، وقال لي: ليش نسيت القربان، هاتيها ولو كانت نعجةً. فاستيقظت وقت السحر، وأرسلت رسولا إلى دار الغنم ليأتي بالقربان، وقلت له هات قربانًا ولو كان نعجة، فذهب في دار الغنم فلم يجد إلا نعجة بخلاف المعتاد لأن دار الغنم كانت لا تخلو عن الغنم فاشتراها وأتى بها، فتعجبت من إشارة الشيخ (رضي الله تعالى عنه) وبعثتها إلى الجبل وقد ذكرت هذا الأمر في قصيدة التائية التي هي نحو ثمانمائة بيت بهذه الأبيات:وفي الجبل المعمور بابن أبي الوفا ببلْدتنا الشهْبا تتكشف كرْبتي
سمي أبي بكْرٍ وأسْرار صدْقه
مناقبها سارتْ إلى كل بلْدة
ومنْ ينْس نذْرًا يرْعب في الكرى
ليهْرع بالإيفاد منْ بعْد خيفة
ضجيج ضريحٍ بالـمهابة مكْتسى
يوفى إلـى النذْر منْ غيْر نذْرة
ولوْلا رجال الله لانْـخـسفتْ بنا
وجارتْ علينا الأرْض رجًا ورضت
قدمت هيكْنرْ زايتيلنْ فاتنْباوْخْ، في مقالها المنشور بمجلة الدراسات العالمية للشرق الأوسط سنة 2005 والذي يحمل عنوان «الدراويش المنحرفون: الفضاء والجندر وبناء القوى المتعارضة في حلب العثمانية» دراسة عن علاقة الفن والعمارة بالتصوف، واهتمت بدراسة متصوفة حلب زمن الحكم العثماني.
تعتمد كاتبة المقال على الرسائل التي كتبها التاجر البريطاني ويليام بيدولف من حلب عام 1600، وهو يصف الحياة اليومية لحلب، هذا المركز التجاري الديناميكي الذي يصل الشرق بالغرب والذي يعد أحد أكبر الأسواق المغطاة في العالم، في هذه المدينة، أين كان يتم تبادل التوابل والحرير من الهند وإيران مقابل الفضة والملابس الإنجليزية المعبرة عن العالم الجديد، يتساءل التاجر وهو يكتشف الممارسات الإسلامية والمعتقدات الدينية عن تلك السمات التي بدت له أكثر غرابة وإثارة للسخرية والاستهزاء، حيث سيلاحظ أن ذلك الدرويش سيحظى بعد موته بتعظيم المجتمع له وإقامة النصب التذكارية الفخمة فوق قبره وهو لم يكن في حياته إلا غبيًا ومجنونًا. ولدراسة هذه الظاهرة، ستقوم الكاتبة باختيار شخصية أبي بكر بن أبي الوفا، معتمدة على سيرته الذاتية التي قام بكتابتها الكثير من المؤلفين الحلبيين الذين نعد من بينهم صلاح الدين الكوراني. وأول من ترجمه رضي الدين ابن الحنبلي (908-971هـ = 1502-1563م) في در الحبيب في تاريخ أعيان حلب، ثم الشيخ أحمد الحموي العلواني (ت 1608) في كتاب له سماه «أعذب المشارب في السلوك والمناقب»، وتلاه محمد بن عمر العرضي (المتوفى سنة 1615م) في كتابه معادن الذهب في الأعيان المشرفة بهم حلب، ثم صلاح الدين الكوراني في تأليفه الذي سماه «منهل الصفا في مناقب ابن أبي الوفا»، ثم وضع أبو الوفا العرضي (1585-1660) كتابا فيه، ثم الشيخ يوسف بن السيد حسين الحسيني مفتي حلب (1662-1740) الذي أثرى في كتاب حافل بأحواله ومناقبه سماه «مورد الصفا في ترجمة الشيخ أبي بكر بن أبي الوفا»، ثم الشيخ أحمد القاري (ت. 1632) الذي كتب مؤلفًا عن الشيخ باللغة العثمانية.
تقول هيكْنرْ زايتيلنْ فاتنْباوْخْ، إن كثرة هذه السير لا تدل فقط على حجم التأبين الذي حظي به أبو بكر من قبل كبار السنة في حلب وهو تأبين مدفوع بالحاجة إلى تبرير تلك التقارير المستمرة عن ما عرف عن الدرويش من معارضة ومناهضة، بل أيضًا على محاولة من كتاب حلب لإضفاء الشرعية على الشيخ وذلك من خلال اللجوء إلى علم الأنساب، وإلى السلسلة الروحية التي تدرج فيها، وإلى إثبات معرفته الدينية - تمامًا مثلما تم التأكيد على ارتباطه بحلب. ولقد تم توفير شكل مكتملٍ جدًا لاسمه حيث قدمه الحسيني على أنه سيد منحدر من شجرة علي بن أبي طالب (ت 661) نفسه، وتمت إعادة تشكيل اسمه من حيث أنهم لقبوه بـ«أبو الوفا تاج العارفين». وتضيف الكاتبة: إن إعادة التسمية هذه، وتطريز نسبه، يمثلان تحريرًا لصورة الشيخ المعادي للمجتمع ومناورة منهم لتحويله إلى شخصية قابلة للرجوع إلى بيت الطاعة، تستمد شرعيتها بقدر كبير من حقه العائلي بقدر ما تستمد شرعيتها من تلك العرفانية التي أوتي إياها من عند الله. وتعقيبا على هذا الكلام دون حاجة كبيرةٍ إلى التوسع في هذا الجانب، أورد قصةً تظهر مدى الغضب الذي كان يتملك ابن أبي الوفا من القضاة العثمانيين ذوي الشوكة الذين كانوا يلحقون الظلم بالأهالي. يقول الكوراني: حكى لي شيخ الإسلام الشيخ عمر العرضي قال: كان في حلب قاضٍ اسمه علي أفندي بن سنان، وكان يسمع بأحوال الشيخ وينكر عليه، ثم أراد أن يزور الشيخ ليلا مختفيا حتى لا يعلم الناس أنه زاره، فلما فات وقت العشاء من تلك الليلة وكان مكان الشيخ (رضي الله عنه) خارج البلد، ففتح القاضي باب المدينة وذهب بجماعته متوجها إلى الشيخ، فجاء إلى مكان الشيخ فرأى بابه مقفلا من الداخل وليس فيه حسٌ، فطرق الباب مرارا فما أجابه أحد، فرجع غضبان، فجاء رجل من الذين كانوا عند الشيخ تلك الليلة وأخبر بأن الشيخ لما فات وقت العشاء تلك الليلة قام على قدميه وصاح بالفقراء: سكروا الباب ولا تفتحوه لأحد ولو كسروا الباب واسكتوا كلكم لا أحد منكم يتكلم وأطفئوا الضوء ما لنا حاجة بزيارة الظالمين، فبينما نحن على هذا الحال إذ جاء القاضي وطرق الباب مرارا فلم يفتح له ولا أجابه أحد امتثالا لأمر الشيخ (رضيالله عنه)، فرجع القاضي غضبان.قال الشيخ عمر العرضي: فلما سمعت من ذلك الرجل هذا الخبر أسرعت في الذهاب إلى القاضي وأعلمته أن الشيخ (رضي الله عنه) صاحب كشف ولا شك في ولايته، وإنما فعل ذلك معكم تنبيهًا لكم على النظر في أحوال الرعايا وإنصاف المظلوم من الظالم. وسليت خاطره، فاعتقد صحة كلامي وأرسل إلى الشيخ قربانا، فلما وصل إليه القربان قال الشيخ للرسول الآتي به: قول لها تدعي للذي نصحها وإلا كنت أفرجها، فكان الشيخ يشير إلى الشيخ عمر العرضي أنه هو الناصح للقاضي حتى أزال إنكاره عنه، وهذه كرامة وكشف صريح من الشيخ (رضي الله عنه).
وتعتبر مخطوطة «مناهل الصفا في مناقب الشيخ أبي بكر بن أبي الوفا» استكمالًا لما لم يرد بكتاب أحمد الحموي من أخبارٍ عن الشيخ أبي بكر بن أبي الوفا، وقد أضاف عليها صلاح الدين الكوراني معلومات جديدة وأبياتا شعرية له، حيث نجد مثلًا في الصفحة 11 من هذا المخطوط عددًا من الأبيات الشعرية التي ذكرها الكوراني في مدح الشيخ ابن أبي الوفا وذكر فضائله.
وإذا تبنينا موقف الكاتبة هيكْنرْ زايتيلنْ فاتنْباوْخْ، فإن صلاح الدين الكوراني سيدلي بدلوه السياسي في دعم التصوف على حساب جهة سياسية ما، وسيتمكن من إيجاد مكانةٍ أخرى تختلف عن تلك التي حظي بها بين العاملين بالقضاء أولا، وهو القطاع الإداري الذي يعد أكثر المؤسسات اقترابًا من السلطة وتقاطعًا مع توجهاتها الأيديولوجية، ثم بين الشعراء ثانيًا.
ولن يجد القارئ لمقدمة صلاح الدين الكوراني دليلًا على نزوعه إلى التصوف فحسب، بل أدلة أخرى تشير إلى حجم ذلك الصراع الذي طغى على الساحة الدينية والعلمية والثقافية لحلب بين المذاهب الدينية من جهة وبين الظاهرة منهم الجاهلة المارقة، والباطنة العارفة الصادقة وهي المؤمنة بالتصوف والولاية. وسيستعين صلاح الدين الكوراني في آخر مقاله ببيت من نظم الشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي الذي لا نعدم مطلقًا تأثيره في متصوفة حلب، يقول:
(...) إني لما طالعت كتاب الرجل الصالح العالم العالى الشيخ أحمد الحموى الذي جمعه من أفواه الثقاة في مناقب الشيخ أبي بكر بن أبي الوفا قدس سره ورأيته خاليا عن كثير من مناقبه (رضي الله عنه)، وكان في خاطري له مناقب كثيرة بعضها شاهدتها وبعضها سمعتها من الثقاة، وهي في فكري من أقاربي وأبناء عصري، أحببت أن أجعلها لكتابه رسالةً ولسراجه ذبالةً وذيلا لهذه الغلالة، لأنها وقعت في عصره لا محاله، بعد الْتماس تسطيرها لاقتباس نورها ولتكون ذكرى للمعتقدين، واعتبارًا للمعتمدين، وسببًا لإهداء ثوب الفاتحة، إلى روحه المرضية الصالحة، وطلبًا للمدد من أسواره، وهربا من سوء ظن المنكر وإنكاره، وهدية للمحبين وتحفة للصادقين، حيث لا يعتقد [بـ]ـأولياء الله إلا العارف الصادق، ولا ينكرهم إلا الجاهل المارق، كما قال الشيخ محيي الدين وهو الشيخ الأكبر (رضي الله عنه):
يـحبنا كل منْ صحتْ بصيرته
نعمْ، وتبْغضنا العمْيان والعور
الهواري غزالي أستاذ محاضر بجامعة باريس