السّارِدُ والرسّامة
وصلَ إلى المقهى قبلَ الموعدِ، وجلسَ في الرّكنِ البعيدِ الهادئِ، يرتدي دشداشةً بيضاءَ ومصرًا بنيًا مرقطًا، يضمُّ ساعديْهِ إلى صدرِهِ بشيءٍ من القلقِ؛ فهوَ هنا منْ أجلِ دعوةٍ ماطل في قبولِها، تلقّاها منْ متابعةٍ عبرَ «الانستجرام»- تدّعي أنَّها رسّامةٌ- وظنَّ عبثا أنَّ الطاولةَ التي ستجمعُهُ بها لا تزال أخشابُها في غصنِ شجرةٍ.
انتبهَ إلى فتاةٍ تدخلُ حاملة عدّةَ رسمٍ، وجهُها خليطٌ من الجمالِ والمأساةِ، تبدو مثلَ سائحةٍ أجنبيةٍ في سوقِ مطرح. بعدَ التفافتين واثقتين عرفتْهُ، فقد رسمَتْ ملامحه في مخيلتِها، وجهٌ منحوتٌ بسحنةٍ سمراءَ، وأنفٌ طويلٌ يميل نحو شاربٍ كثّ. اقتربتْ منهُ، رمتْ أشياءَها على الطاولةِ، وقالتْ بعدَ أنْ حيّتْهُ «لقدْ فقدتُ روحَ الفنانِ! صارت رسوماتِي أشبهُ بأعمالٍ إعلانيةٍ خاليةٍ من المعنى الإنسانيِّ» ردَّ عليها يلوّحُ بيدِهِ، وكأنه في مأزقٍ «وأنا لدَيَّ قصصٌ تثقلُ رأسِي.» أجابتْ وهيَ تفرغُ شحنات الانطباعِ الأولِ، وتستريحُ على الكرسيِّ «لا تؤذي القصص ساردَها، بلْ تفعل ذلك بأولئكَ القريبين منهُ؛ وهذا حالُ أيِّ عملٍ إبداعيٍّ! لكِني أخشى أنْ يقعَ لكَ ما وقعَ لي، يجفُّ كلُّ هذا الشغفِ! فرغمَ أنَّني أعتاشُ على الرسمِ، لكنْ في ذلكَ اليومِ رفضتُ جميعَ عروضِ العملِ؛ فأيُّ خطٍّ مستقيمٍ كانَ يخرجُ مني مثلَ سربِ نملٍ مضطربٍ. وبينما أتصفّحُ هاتفِي بأصابعَ مشلولةٍ، ظهرَ لي مقطعُكَ المصوّرُ على الانستجرام: تمشي على حافةِ جبلٍ شاهقٍ خلفَ حمارٍ، ثمَّ تحتضنُك غابةٌ منْ أشجارِ العتمِ، يرهقُكَ المسيرُ، فترمي بجسدِكَ في مياهِ اللّجلِ (١)الفاترةِ، وتشربُ منْ جحالٍ (٢) معلقةٍ للعابرين. في الأخير، تمدُّ عينيْكَ نحوَ القرى التي تبدو منْ بعيدٍ كنقطٍ بنيةٍ وخضراءَ.» تنحنحَ ثمَّ قالَ «أحرزَ ذلك المقطع عددًا هائلًا من المشاهداتِ، رغمَ كونِهِ متواضعا» قاطعَتْهُ وهيَ ترفعُ عنْ جفنِها خصلةً منْ شعرِها «بلْ مُطعّمٌ بثنائيةِ المكانِ والقصةِ. ألم تلقّب نفسكَ بالسّاردِ؟ ثم كتبْتَ في أسفلِ المقطعِ: كلّ يومٍ يمضي على وادي السحتنِ هو يومٌ جميلٌ يتوهّجُ بلهبِ قصصٍ منسيةٍ؟ لقدْ جعلتَ رسّامةً يائسةً تردُّ عليكَ «ليتَني معكَ، أنتَ تقصصُ وأنا أرسمُ». ظهرَ على وجهِه الخجلُ، وها هيَ تطلبُ شطيرتيْ جبنٍ وكوبينِ من القهوةِ السوداءِ دونَ أنْ تستشيرَهُ حتى؛ سامحةً لهُ أنْ يطلقَ الأحكامَ فيما تشدّ قماشَ الكانفاس، وتهيئ فرش الألوانِ.
والآن، اجتمعَ الغريبان على الطاولةِ. لكلٍّ منهما خلفيّتهُ الاجتماعية وأسلوبه في الحديثِ، فالرّسامةُ تنحدرُ منْ عائلةٍ ثريةٍ، لكنْ كبرتْ كفتاةٍ مستقلةٍ. شخبطتْ على الجدار في طفولتِها، فلمْ تغضبْ الأمُّ، بلْ رسَمتْ إطارًا! وهذا ما شجّعَ الابنةَ بعد ذلك لتدرسَ الفنونَ الجميلة في جامعةٍ بريطانيةٍ، وتقيم عدةَ معارض فنيّة حولَ الرمزيةِ والانطباعيةِ وفنِّ البورتريه، وقدْ سلكتْ في حديثِها أسلوبا تطفليا أو علميا يطفحُ منهُ المنهج التحليلي والنقدي والفلسفي. أما الساردُ فهوَ ليس أكثر من مذياعٍ يردّدُ القصصَ، كانت لديْهِ مخيلةٌ جامحةٌ، وبدا متحفظا لا ينغمسُ في التحديقِ، ولا يطرحُ أسئلةً. وخلاصةُ القولِ كانَ يوجدُ بينَهما هدفٌ مشتركٌ، ويأملانِ منْ هذا اللقاءِ-كلٌّ بموهبتِهِ- أنْ يعبّرا عمّا لا يمكنُ وصفُهُ!
خلا رأسُ الرسّامةِ منْ أيةِ فكرةٍ وهيَ تحدّقُ في القماشِ، بينما ترتجفُ الفرشاةُ ذاتُ الشعيراتِ القاسيةِ بينَ أصابعِها. عرفَ الساردُ أنَّ دورَهُ قدْ حانَ؛ فأطلقَ ناظرَهُ إلى الخارجِ منْ النافذةِ وقالَ: «سأبدأُ منْ قصتِي! شاوٍ (3) مندسٌ عنْ العالمِ، عالقٌ في واديهِ يرعى الأغنامَ، ليسَ لهُ أصحابٌ ولا خليلاتٌ فهوَ أشبهُ بالرقمِ واحد في صورتِهِ الفقيرةِ لا البطوليةِ. لكنْ في لحظةٍ، بدا وكأنَّ أحدَهمْ انتزعهُ من مكانِه، ورماهُ بعيدا في مسقط، وجدْتُ نفسِي بداخلِ ثكنةٍ طويلةٍ ومظلمةٍ، ممتلئةٍ بالأسرّةِ الحديديةِ، يتسرّبُ إليها ضوءٌ خافتٌ منْ نافذةٍ وحيدةٍ، بينَ أقرانٍ من الجنودِ المتدربين، منْ تنمو بداخلِهم القسوةُ شيئًا فشيئًا، وتتبدّل في أعينِهم المروجُ الخضراءُ إلى ساحاتِ قتالٍ. تغيّر كلُّ واحدٍ منهمْ؛ فلا أحدَ يعودُ من العسكريةِ كما كانَ في السابقِ. إلّا أنا، ما زلتُ أقطفُ منْ ليلِ مسقطِ نجومِهِ؛ فأتذكرُ مواسمَ جنيِ البوتِ منْ أعالي الجبالِ. ما زالت الكلمة كلمة، ولم تتحولْ بعدُ إلى رصاصةٍ. أكتبُ القصائدَ على جلاميدِ الصخورِ مُجاريًا نقوشَ أسلافي، كتبتُ مرةً: ما نريدُهُ نحصل عليهِ؛ لكنْ معَ ندبةٍ! وحينَ نخسرُ، نربحُ دائما ما يُذخرُ في صندوقِ الحكمةِ».
تجرّع الساردُ مرارةً في حلقِهِ، صمتَ لبعضِ الوقتِ، وأخذَ يرتقبُ قصتَهُ وهيَ تتجسّد في القماشِ إلى صورٍ وظلالٍ، لكنَّ الفرشاةُ كانتْ تتحرّكُ ببطء؛ لذا أكملَ «كيْ أحصلَ على الوظيفةِ كانَ عليَّ أنْ أركضَ. هلْ توقفتُ عنْ الركضِ يوما؟ أخذتُ أركضُ بين مجموعةٍ من الفتيانِ في مسارٍ مُسفلت، وفي رأسِي كنتُ أركضُ في مقبرةٍ. يزعقُ الضّابطُ ملقيا تعليماتِهِ، وفي رأسِي كنتُ أسمعُ صوتَ أبي يومَ سقطت جرّةُ عسلِ البرَمِ منْ يدِي بعدَ أنْ جنيناهُ بمشقةٍ، «يداكَ لا تصلحانِ سوى للعارِ»، قال أبي. شاهدتُ الجنودَ يحملونَ البنادقَ الثقيلةَ، وفي رأسِي كنتُ أصوّبُ التفقَ (4) نحوَ أرنبٍ بريٍّ. ركضتُ، ولمْ أتعبْ إلى أنْ صفّقَ الضابطُ لكسري الرّقم المسجّل في قطعِ مسافةِ الـ ٣ كيلو مترات. عندَ خضوعِي للفحصِ الطبيِّ، لمْ يحبَّ الممرضُ تقوّسَ قدميّ، لكنَّهُ أُعجبَ بخفةِ اليدينِ النحيلتينِ؛ فاختِرتُ لأكونَ حلّاقا برتبةِ جنديٍّ. وتذكرتُ كلامَ أبي وأنا أتناولُ المقصَّ بينَ يدَيَّ.»
انتبهتْ الرسامةُ إلى استعمالِ السارد ذاتَهُ مادةً للقصِّ، وفكّرتْ أنَّ هذا الفعلَ الفاضحَ يتجنبُهُ كلُّ مبدعٍ- تحديدًا في مجتمعٍ مترصدٍ- كانتْ في بدايةِ مشوارِها ترسمُ نفسَها في مواقفٍ عفويةٍ؛ حتى قِيل عنها سوداويةٌ! لكنَّها لمْ تشرْ إلى هذهِ الملاحظةِ الفنية كيْ لا تبدوَ متعاليةً، وقالت بدلا منْ ذلك «هنالكَ رمزان مُشعّان في قصتِكَ: القلمُ والمقصُّ. لطالما أحاطَ البشرُ أنفسَهمْ بالرّموزِ، وإن المرءَ ليتعجبُ كيف يتعلّقُ رمزٌ واحدٌ بكلِّ فردٍ بعينِهِ؛ فالتفاحةَ عند إيريس في الأساطيرِ اليونانيةِ ترمزُ للحربِ، فيما يرى الرسّامُ بول سيزان أنَّها حياةٌ صامتةٌ، وكنتُ أخبرُ أبوَيَّ في غربتِي أنَّني تفاحةٌ! فيفهما أنَّني وحيدةٌ ومهمَلةٌ حينَ يفتحُ أحدُهما ثلاجةَ البيتِ» وكمنْ يقودُ دفّةً، أضافتْ «ما رأيُك في أنْ أقترحَ رموزا عشوائيةً؛ فتبني قصصَكَ على أساسِها؟ سيساعدُني هذا كثيرا» ومجددا لمْ تنتظرْ منهُ إجابةً، بلْ فتحتْ شطيرةَ الجبنِ المغلّفةِ بالبلاستيك، وقالت «نفاياتٌ ومقبرةٌ»
ردّ الساردُ بصورةٍ آليةٍ، وهوَ يرتّبُ الشّخوصَ في رأسِهِ «بسببِ الجفاف، وكلِّ تلكَ النفاياتِ، صار الوادي حزينا. يهيمُ أبِي في الجبالِ الملتهبةِ مع أغنامه الهزيلة، فيأسى حينَ يجدُ أشجارا تحترق، وثعلبًا يلهث من العطش، وطيورا تتساقطُ من السماءِ. اضمحلت السواقي تحت السفوح؛ لمْ نعد نزرع القمحُ لنحصده ونبيعه في أنحاءِ البلادِ، وقلَّ حصادُ القتِّ، والبصلِ، والثومِ، والسفرجلِ. قرّر أبي أن يحفر بئرا؛ فدفع كل نقوده لحفار باكستاني متمرس نزل في جوف الأرض مسافة ٤٩ مترا، ولم يجد قطرة ماء واحدة! فعاد أبي إلى البيت يبحثُ عمّنْ يدثّرُهُ ويقول «هاجروا للعمل في مسقط، إنَّنا نموتُ رويدا رويدا.» باتَ ينظرُ إلى السماءِ بعينينِ مرعوبتينِ أوْ ذابلتينِ ويرتعد.»
أضافت الرسامةُ بتجهّم وهي تضع شطيرتها جانبا، وتمسك بالفرشاة: « إنّه الحزنُ البيئي. فمنْ يمكنُهُ أنْ يرى العالمَ بذعرٍ أكثرَ منْ شخصٍ يعاني نوعا خاصا منْ الحزنِ؟ تؤثر قضايا البيئة سلبا على مشاعرنا؛ أخبار الطقس تجعلني مستيقظة طوال الليل خشية وقوع كارثة، لمّا أصابُ بالحمى أفكر أنني لن أنجو في كوكبٍ محمومٍ هو الآخر، وأشعر بالذنب بسبب خياراتي الاستهلاكية فأتساءلُ، أين ضميري عند تناول شطيرة الجبن إذا كانت تلفُّ بلفافةٍ، تبقى جزيئاتها ملايين السنين في أعماق البحار؟»
أكمل الساردُ متجاهلا معاناة الرسّامة، غارقا في قضيتِه «ومنذُ ذلك الوقتِ هجرتْهُ أمي، فعاشتْ في بيتٍ، وتركتُهُ في بيتٍ تفصلُ بينَهما مقبرةٌ، كنتُ وأخوَاي سيف وشريفة نركضُ خلالَها بينَ الحين والآخر تائهينَ. وبينَ حينٍ وآخر مبتهجينَ، حينَ تنبتُ على آثارِ أقدامِنا نبتةُ سعترٍ.» قاطعتْ الرسّامةُ حديثَهُ «لا تصنع العائلة سوى قوالبَ جاهزةٍ للتعبئةِ والشّحنِ نحوَ طريقٍ مجهولٍ» قال الساردُ «لكنْ لمْ تحب أمي أبِي يوما، وكانت ترى أنَّهُ رجلٌ عديمُ النفعِ نزلَ من الجبلِ يجرُّ خيبتَهُ. ولما باتَ طريحُ الفراشِ، لم يجدْ سواها تهتمُّ بهِ، وتتحمّل كلّ ما يخصُّهُ: طعامَهُ، نظافتَهُ، وأدويتَهُ. صارتْ حياتُها بائسةً تتبعُها عفونة جسدِ أبي الذي تحولَ إلى نفايةٍ! مراتٍ كثيرةً فكرتْ في خنقِهِ، لكنَّها تخافُ اللهَ!»
لمحتْ الرسّامةُ التأثرَ في وجهِ السّاردِ، وعلى أملِ أنْ تغيّر مسارَ القصةِ، آثرتْ تبديل الرموزَ، فاختارتْ «بيضةٌ، ديكٌ، وتميمةً» نظرَ نحوَ الفراغِ، وقالَ « حتى في مواسمِ الخِصبِ، لمْ تزرعْ أمّي بذرةَ قمحٍ وحصدتْ سنابلَها قطُّ. كانتْ شقيةً، انتُزعَ الحظُّ منْ جبينِها كابتلاءٍ ستتعبُ منهُ. ماتَ أبِي مختنقا ووحيدا، في وقت كانت أمي تدفنُ ديكَها، وتتحسّرُ « ديكُ المحظوظةِ يبيضُ!» فبينما كانت المحظوظةُ تجمعُ البيضَ من الصناديقِ، لمحتْ ديكَها المزهوَّ رابضًا، يدورُ حولَ حفرةٍ، وشهقتْ حينَ وجدتْ تحتَهُ تلكَ البيضةُ! جرتْ نحوَهُ ودفعتْهُ بيديْها، ثمَّ أمسكتْ بالبيضةِ وراحتْ تتفحصها، كانت صغيرةً، مائلةً للصفرةِ، ورقيقةَ القشرةِ. عرفت الجاراتُ جميعُهنَّ أنَّ ديكًا قد باضَ. ومذْ كسرتْ المحظوظةُ البيضةَ، وشربتْ نصفَها ودلقتْ النصفَ المتبقي في فمِ زوجِها؛ حتى صاحبَهما الحظُّ، فأينما وضعا يديْهما كانا يجنيانِ كلَّ ما اشتهيا. ولأنَّ النحسَ الذي عانتْهُ أمِّي لم يكن شيئا يُكبحُ بانتظارِ الفرجِ؛ أطلقتْ قدميْها نحوَ حظيرةِ المحظوظةِ قبلَ الفجرِ، وتسللتْ لتسرقَ الديكَ. وبينما تهمُّ بالخروجِ نهشَ كلبُ الحراسةِ ساقَها، ولمْ يكفَّ عن النباحِ إلى أنْ هرعتْ المحظوظةُ لتتفقدَ ما يحدث، فشاهدتْ أمِّي جاثيةً على ركبتيْها تتشبّثُ بالديك كأنَّها تعلّقُ تميمةً، وتئنُّ متجاهلةً سيلَ الدمِ منْ ساقِها. عالجتْ المحظوظةُ جرحَ أمِّي، وقالت «أيا جارتِي المسكينةِ! في المرةِ القادمةِ حينَ يبيضُ الديكُ سأكسرُ البيضةَ في جوفِ فمِك.»
خمّنت الرسّامة نهاية القصة بمنطقٍ علمي وقالت مواسيةً: «لكنّ الديكُ لمْ يبضِ! لن أقول إن أمك تراجيدية فهي تفهم العلاقات التعاقدية المبنية على المصلحةِ. يعقِدُ الناسُ أنواعًا مختلفةً من العقودِ معَ أنفسِهم ومعَ الآخرينَ لتحقيقِ المنفعةِ. لدَيَّ صديقٌ شابٌّ هاجرَ إلى أوروبا، وتزوجَ هناكَ ليحصلَ على الإقامةِ منْ امرأةٍ مسنةٍ كانتْ وحيدةً تبحثُ عمّن يهتمُّ بها. قالَ «عدا عنْ كلِّ شيءٍ آخرَ، وجدتُ معها الأمانَ». لا يوجدُ شيءٌ عرضيٌّ؛ فحتى العلاقاتُ المبنيةُ على الحبِّ المثيرِ تفسحُ المجالَ لمنفعةٍ ما.»
وعبرَ نافذةِ المقهى لمحتْ الرسّامةُ عاملا يحملُ مانيكان باتجاهِ محلِّ الأزياءِ المقابلِ، وتساءلتْ ماذا قدْ يحدثُ في حالِ دخل هذا المانيكان أحدُ بيوتِ وادي السحتن؛ فاقترحتْهُ كرمزٍ تتحدى بهِ خيالَ الساردِ الذي قالَ: «كيْ لا تبدو رقية جثةً هامدةً على الدوام، كانَ يجبُ أنْ يعودَ أخِي سيف منْ عملِهِ في مسقط يزفُّ معهُ مانيكان، عثرَ عليهِ مرميا في الشارعِ. أمامَ باب البيتِ خلعَ سيف إزاره، ولفَّهُ حولَ المانيكان كيْ يسترَهُ، بعدَ ذلكَ أوقفَهُ أمامَهُ، فبدا وكأنَّ عروسا تحتضنُهُ. حافظتْ رقية على برودِها المعتادِ، وهيَ تقتربُ منْ زوجِها الذي جلبَ لها ضرةً تعملُ بنصيحةٍ سمعتْها منْ أمِّها «اصبري على زوجِك. إنْ لم تجدي غطاءً دافئا تلحّفي بإزارِهِ!». لكنْ لم يبدرْ من رقيةَ أيُّ فعلٍ وهيَ تكتشفُ حقيقةَ المانيكانِ، بلْ ألقتْ التّحيةَ على زوجِها من بعيدٍ- وكأنَّهُ وعلٌ يقفُ غربَ الجبلِ، فيما هي عشبةٌ نمتْ في المنحدرِ الشرقيِّ- وحملتْ أكياسَ المشترياتِ، ثمَّ ابتلعَها البيتُ. تركَ سيف المانيكان في البهوِ، ودخلَ إلى غرفتِهِ، فتبعتْهُ رقية التي لم تتخطَّ صورةَ المانيكان، وهوَ يبدو أكثرَ جمودًا منها.» قاطعتْهُ الرسّامةُ فيما ترفعُ فرشاتَها عن اللوحةِ «وأدركتْ رقية الحالةِ المزرية التي يظهرُ بها المرءُ حينَ يكونُ متجردا من المشاعرِ»
أكملَ الساردُ: «وشعرتْ لحظتَها كما لوْ أنَّ شيئا يتوهجُ بداخلِ صدرِها، لذا تعمدتْ أنْ تطلقَ ضحكاتٍ غيرَ معتادةٍ، وهيَ تتخيّلُ الضرةَ منبوذةً في الخارجِ. وبينما يسترخي سيف في فراشِهِ، أخذتْ تمسحُ رأسَهُ الأصلعَ، وتحكي الأخبارَ التي فاتتْهُ إلى أنْ أغمضَ عينيْهِ. عصرا، خرجتْ لتغسلَ ملابسَهُ التي جلبَها متسخةً، وبحرصٍ أكبرَ، غسلتْ الإزارَ مرتينِ، ثمَّ تأملتْهُ وهيَ تنفضُهُ، فانتابتْها رغبةٌ في لفِّهِ حولَ كتفيْها. كانَ شديدَ البياضِ ورطبا، لكنَّهُ يجلبُ شعورًا جعلَها أكثرَ حياةً. وبالتالي حملتْ المانيكان العاريَ، ورمتْهُ فوقَ كومةٍ من الحطبِ المشتعلِ. ولتنشّف الإزارَ؛ علّقتْهُ فوق الجدارِ، لكنَّها لمحتْ يدا منْ جهةِ بيتِ الجيرانِ تستلُّهُ، ثمَّ هوى حجرٌ، وأصابَ جفنَ عينِها. تألمتْ رقية ونزفتْ ولم تعرفْ يد من تلكَ التي فعلتْها.»
حرّكت الأحداثُ المتسارعةُ فرشاةَ الرسامةِ، وقدْ وجدت تفاصيلَ من الحياةِ اليوميةِ غارقةً في المتضادات والصراعات الداخلية. وبقدرِ ما بدت تلكَ الأحداثُ موجعةً إلا أنَّها استعملت مع اللون الأزرق الكئيب ألوانًا أكثر إشراقا، كما استخدمت الظلَّ والضوءَ لتعكسَ مشاعرها الخاصة وتعبّر بمنظورها الشخصي عمّا تسمعُه. إنها الآن في منتصف مشروع لوحة فريدة، لتكتمل ستحتاج إلى جرعة إضافية من الأدرينالين؛ لذا رمتْ بهذهِ الرموزِ بغيةَ دفعِ القصةِ للأمامِ «إزارُ، جدار، حمامةُ غفغاف»
ردَّ الساردُ «ثمةَ جدارٌ يفصلُ بينَ بيتينِ تتكئُ عليهِ أكواعٌ ناعمةٌ، عادةً بعدَ العصرِ؛ وعندئذٍ حتى الشمسُ تؤجلُ غروبَها كيْ تتفرجَ. وقفتْ أختي شريفة فوق البرميلِ -ليطلَّ رأسُها على رأسِ صديقتها نعيمة- وقالت وهي تضغطُ بأكواعِها «أريدُ أنْ أكسرَ هذا الجدار!»، طَبعتْ نعيمةُ قبلةَ اشتياقٍ على الخدِّ الضئيلِ. أضافتْ شريفة «آهٍ! لو لمْ تكبري قبلي يا نعيمة! لما منعتكِ أمك من زيارةِ بيتِنا.» امتعضت نعيمة، فردّتْ» أنا سعيدةٌ بذلكَ! إنَّ كلَّ متعِ الحياةِ متاحةٌ للكبارِ. والآنَ إليكِ إحدى هذهِ المتعِ! سأصيرُ في القريبِ زوجةً ثانيةً لأخيكِ سيف. لماذا انكمشَ وجهُكِ؟ لقدْ أخبرتُكِ أنَّني غفغافته الوديعة، لكنَّكِ لا تفهمين.» صفعت شريفة فم صديقتها، وهبطت إلى بيتها، لكنْ بالنسبةِ لنعيمة، فإنَّ الصفعةَ منْ كفِّ طفلةٍ مجرد تربيتةٍ! ولمحتْ -ليسَ بعيدا عنها- رقية وهيَ تعلّقُ الإزارَ على الجدارِ، فلمْ تفكرْ نعيمة مطولا حينَ انتزعتْهُ ليصيرَ في حوزتِها، وبسلوكٍ جرميٍّ أشدَّ، حملتْ حجرا منْ الحجارةِ المتفرقةِ فوقَ الجدارِ، وقذفتْ بهِ ذلكَ الرأس، ثمَّ اندسّت.»
في تلكَ اللحظةِ، تركتْ الرسامةُ ريشتَها، وأخذتْ تلتقطُ أنفاسَها، وتضيفُ «عوضا عنْ الحجارةِ، كأنَّني أرى نعيمةً تطلقُ سهاما في مبارياتِ الجوعِ (5) التي تخوضُها معَ الكبارِ-وهيَ التي كبرتْ توا- في مكانٍ مفتوحٍ أمامَ الملأِ، يتقاتلونَ إلى أنْ يتبقى فردٌ واحدٌ على قيدِ الحياةِ. وكونُ نعيمة تؤمنُ بالفرصِ لا بالحظِّ، فحتما ستتوجُ بطلةً!»
أضافَ السّاردُ « بعدَ قليلٍ، ستعودُ نعيمة لترمي حجرا آخرَ نحوَ نافذة شريفة التي ستخرج وتتسمّرُ أسفلَ الجدارِ، فتسمعُ الثرثرةَ « لنْ تنته لقاءاتُنا على هذا الجدارِ، حتى نكونَ تحتَ سقفٍ واحدٍ. لمْ أحبَّ السارد ليس لأنَّهُ جندي سلاحه مقص، بل قد كبرَ أمامَ عينَيَّ وصورتُه الشائنةُ وهوَ ولدٌ حامضٌ، يجمعُ الخنافسَ المعدنيّة في جيوبِهِ، لنْ تفارق مخيلتِي. أكرهُ الأولادَ الصغارَ؛ يقالُ إنَّ الديكَ يصيحُ وهوَ بداخلِ البيضةِ، وهذا ما أراهُ في سيف، رجلي الوقور... إنّ زوجته التي تدافعين عنها تختبئ الآن خلف البرميل بجفنٍ نازفٍ، وقد سمعَتْ ما يسمعُه الجدار. لمّا سمعتْ، لا يعني أنها كانت تريدُ أن تَسمع؛ تحدث لنا أمورًا لا نرغب فيها، الأطفال يتجاهلونها وتظهر في دماغهم حين يكبرون على شكلِ صدمة، أما الكبار فتكون لهم ردّة فعلٍ في حينه. لكن رقية لم تهبّ لتصفعني؛ فهكذا يتصرّف الكبار، إنهم يلجؤون إلى أكثر الأساليب خبثا وغموضا. أما أنا فسأناضل، وسنرى من ستلتحف بالإزار أولًا حين لا تجد غطاءً دافئًا.» عندها تهلوسُ شريفةً «لنْ أكبرَ! لن أكبرَ! «
تمتمت الرسامةُ بصوتٍ خافتٍ، وهيَ تسدلُ جفنيها على دمعتينِ مالحتينِ « أفكرُ في مصيرِ شريفة فأراها تكبرُ! تدهن كوعيها بزيتِ الزيتونَ بعد أن تيبّسا من أثر الاتّكاء المتكرّر على الجدارِ. تودّع نعيمة، ربّما إلى الأبدِ. تواصِلُ تعليمَها في مسقط. تُنصِت إلى ثرثرةِ الفتيات في غرفِ السكنِ الجامعي. تفهمُ معنى أنْ يمتلك المرءُ الشرفَ والكرامةَ. تتذمر من المايونيز الذي يُفسد طعمَ الشاورما. تُغيّر اللكنةَ التي تنطِق بها حرفَ القاف. تشتري زجاجةَ عطر وأحمرَ شفاهٍ. تتعلم كيف تتعامل مع الجنس الآخر بما لا يسيء بسمعتِها. تتخرجُ. تعملُ. تقودُ سيارةً. تتزوجُ. تسافرُ. تُنجب طفلةً. تَخيب آمالُها. تظهرُ خطوطٌ متعرجةٌ حولَ فمِها. تتعثرُ بصدماتِ طفولتها؛ وما تزال رغم ذلك تحتفظُ بشهيةٍ لتجربةِ الحياةِ.»
وثبَ الساردُ، وبلياقةٍ عاليةٍ، استأذنَ بالمغادرةِ تاركًا قهوته وشطيرته في مكانهما. اكتفتْ الرسّامةُ بإيماءةٍ شاردةٍ، وهيَ تنقرُ بفرشاتها على لوحةٍ لمْ تكتملْ. في الواقع انتابتها صدمة! كيف يغادرُها وكأنَّهُ يمزحُ؟ لقد رمى بثقلِ رأسه عليها ومضى! كانَ عليهِ أن يبدي الاهتمام بمشاهدةِ لوحتها الكاملةِ، وألا يكون أنانيًا. لطالما بحثت عن هذا الصديق، ومن ثمّ فقد أنهتْ علاقتها مع كلّ مَنْ لمْ يفهمْ المعنى العميق للوحاتها. مراتٌ كثيرةٌ شعرتْ بالأسى حين تُنهي لوحةً ولا تجد من تريه إياها.
وها هو يغادرُ المقهى بوجهٍ صارمٍ، يمشي مشيةَ الجنودِ بحيث يقرعُ الأرضَ بكعبِ قدمه اليمنى. بدا وكأنّه قدْ خلعَ القلمَ من صدرهِ ووضعَ مكانَه شارةً عسكريةً. «لقد تحرّر من قصصه!» قالتْ الرسّامةُ وهي تشيّعهُ شاعرةً بالسّخطِ، ثم تتصفّح مقطعَه المُصوّر على الإنستجرام لمرةٍ أخيرةٍ. كان ثمّة شيء هناك، والآن هذا الشيءُ بداخلها، ولن ترغبَ في أكثرِ من ذلك؛ لذا قامتْ بحظرِه.
انتهى.
اللّجل: اسم محلي، البركة وسط القرى الزراعية التي تتجمع فيها مياه العيون أو الآبار وتستخدم للرّي.
الجحال: اسم محلي، أواني فخارية لتبريد المياه.
الشاوي: الذي يربي الشاة ويرعاها.
التفق: اسم محلي، بندقية الصيد.
إشارةً إلى فيلم (مباريات الجوع)، وباللغة الإنجليزية (Hunger Games)
حمد المخيني