No Image
عمان الثقافي

الروايات «السمينة» تسيطر على سوق النشر والجوائز

24 يوليو 2024
24 يوليو 2024

الرواية «الكعب» أو «السمينة» أو «البدينة» أو «الضخمة»، كلها مسمَّيات لظاهرةٍ غريبةٍ صارت تسيطر على سوق النشر والجوائز العربية. توارت «النوفيلا»، أو «الرواية القصيرة»، على الأرفف التي احتلتها أعمال توزن بالكيلو، فما سبب تلك الظاهرة؟ هل هي الجوائز التي لا تعترف بكاتب النوفيلا وتراه قصير النَفَس، أم الناشرون الذين يتيح لهم الحجم بيع الروايات بأسعار كبيرة؟ أم القراء الذين يفضلون أن يمضوا أوقاتا طويلة مع عملٍ واحدٍ بأماكنه وشخصياته؟ هذا التحقيق هو محاولة للإجابة عن كل تلك الأسئلة وغيرها.

لا يعتقد الروائي والقاص الكويتي طالب الرفاعي أن هناك كاتبًا يكتب لنفسه، وإن وجِد فهو الاستثناء، لذا فإن القارئ والناشر والناقد غالبًا ما يكونون حاضرين في «لاوعي» الكاتب أثناء الكتابة، وبالتالي يُراعي مجموعة من الأسس الفنية الأساسية لكتابة الرواية. ويضيف: «بما أننا صرنا نعيش في «زمن جوائز الرواية»، و«زمن روايات الجوائز»، فمؤكد أن هناك بعضًا من الكتَّاب صار يكتب وفي ذهنه الجائزة، وربما يبدو صحيحًا أيضًا أن هناك بعض لجان الجوائز، تنظر لحجم الرواية قبل الخوض في إبداعها وموضوعها وتوفُّرها على العناصر الفنية، مع أن القارئ والناقد ولجان التحكيم، بعد قراءة الرواية، يدركون جميعًا وبوضوح مدى مواءمة موضوع الرواية مع حجمها. لكن على العموم، وللأسف ليست هناك استبيانات واضحة تدلل على ذلك، فإن بعض القراء يميل لقراءة الرواية الأكبر حجمًا، حتى لو جاء ذلك على حساب موضوعها وحبكتها الروائية».

أسأله: «هل أصبح الكتَّاب يستجيبون لمعايير السوق أكثر من المعايير الفنية؟»، فيقول: «يجب أن يكون واضحًا بأن الإجابة على هذا السؤال تذهب لفئة معيَّنة من الكتَّاب وليس الجميع، وبالتالي فإن الرد المباشر على السؤال هو: نعم. وهذا لا يعني أبدًا أن نُخطِّئ من يكتب مراعيًا «معايير» السوق بافتراض وجود معايير خاص بالسوق! لكن ومن واقع كتاباتي الروائية والقصصية، فإن المراعاة الأولى يجب أن تذهب للمعايير الفنية، فلا يستقيم نشر عمل روائي يفتقد إلى أسس الكتابة الإبداعية للرواية، ثم تأتي، في الكتابة الثانية، أو ربما الثالثة مراعاة معايير السوق، وفي الغرب فإن النشر قائم على هذا المعيار، وهو في صلب عمل المحرر الأدبي الذي يُراعي بالدرجة الأولى فائدة وربح دار النشر، مثلما يراعي سمعة وأهمية الكاتب».

وساطات ومراهنات

الكاتب اليمني المقيم في فرنسا علي المقري لا يظن أن هناك قواعد في منح الجوائز العربية بناء على عدد الصفحات أو الحجم، والدليل على ذلك حصول بعض الروايات التي يبلغ عدد صفحاتها أقل من 150 صفحة على الجوائز، مثل رواية «بريد الليل» لهدى بركات الحائزة على الجائزة العالمية للرواية العربية (البوكر).

وقال إنه صار من المتعارف عليه، على مستوى دور النشر العالمية، أن تتراوح عدد صفحات الرواية ما بين 120- 350 صفحة، وغالبًا تعمل دور النشر عند نشر أي رواية حسابها في حجم أو عدد الصفحات، فإذا ما زاد حجمها تزداد تكلفة نشرها عامة والقارئ صار معتادًا على سعر متوسط لأي كتاب يقرأه.

وتابع: «قرأنا قصصًا كثيرةً عن رفض ناشرين لروايات مهمة بسبب حجمها الكبير. وبعض الكتاب اضطروا لإيجاد وساطات لدى بعض الناشرين لنشر أعمالهم كبيرة الحجم بعد مراهنة على انتشارها. وبالطبع تُستثنى من ذلك الروايات البوليسية والمغامرات، حيث تلقى رواجًا كبيرًا مهما كان حجمها أو عدد أجزائها. وكما نعرف هناك روايات صغيرة الحجم لكنها تلبي شروط الرواية، وقد عرفنا الكثير منها، يكفي أن نذكر مثلاً «العجوز والبحر» لهمنجواي، وهناك روايات صغيرة الحجم أو قليلة الصفحات، ولا تلبي شروط الرواية، وتصنف في باب القصة الطويلة أو الرواية القصيرة (نوفيلا). لكن هذه الشروط تبقى غير حاسمة وقابلة للتجاوز».

المجد الروائي

أما الناقد عبدالله العقيبي فيعترف بوضوح بأنها «تهمة صحيحة»، وإن لم يكن لدينا ما يدعمها بالدراسة، مؤكدًا أن الروائيين صاروا يتبجحون بعدد كلمات رواياتهم، وبالتالي كبر حجم كعبها بعد الطباعة، وكأنَّ الأمر فيه شيء من الماراثونية، وخطورة هذا الموضوع، بحسب العقيبي، تكمن في أنه يأتي استجابة لطلب سوق النشر وترشيحات الجوائز.

ويضيف: «لا أعرف السبب الحقيقي وراء هذه الظاهرة، خاصة أن بعض الروايات، إن لم يكن الكثير منها، هو عبارة عن نوفيلا فيها أمكنة محدودة وشخصيات قليلة وأحداث لا تميل في الغالب إلى الطابع التوليدي (حدث يؤدي إلى أحداث متتابعة). أتساءل أحيانًا هل هذا بسبب الرغبة في التكثير؟ ربما.. فالعرب يحبون التكثير في كل شيء، حتى لو كان على حساب المضمون، نحتاج في الحقيقة إلى تغيير هذا الواقع، وأعتقد أن على الجوائز والناشرين الدور الأكبر في محاولة تغيير هذا الواقع، لأن الجودة لم ترُتَّب يومًا ما بالتكثير والتكبير بل بالأمور الفنية، التي تحدد أولًا وأخيرًا حجم العمل الروائي، فكم رواية صغيرة الحجم سابقت روايات كبيرة في حجمها على المجد الروائي».

عوالم خيالية

وتبدأ الكاتبة العمانية ليلى عبدالله كلامها بمقولة للناقد الفرنسي رولان بارت يؤكد فيها أن «الرواية تكتب نفسَها بنفسِها»، وتعلِّق: «مذ بدأت بكتابة الرواية وهي فعلًا خاضعة نوعًا ما لهذا السحر. تمضي الشخصيات إلى النمو على النحو الذي لا يتوقَّعه الكاتب، خالق هذه الشخصيات؛ لأنها أثناء الكتابة تستحيل من مجرد كائنات يحركها المؤلف إلى كيانات حيَّة تفيض بالحيوية، تماثل إلى حد كبير شخوصًا موجودين في عوالم الواقع».

وبالتالي، يخضع حجم الرواية، بالنسبة لليلى عبدالله، للفكرة التي يود الكاتب نقل عوالمها للقارئ، مستعيناً بشخصيات لها قدرة فائقة على التمدد وتتمتع بمرونة عالية لتنهض بأفكار الكاتب وتؤسس عوالمه الخيالية.

ويمكن لأي قارئ أن يميِّز بحسِّه الواعي، بحسب ليلى، بين روايات يتعمَّد بعض الكتِّاب تمطيطها، بهدف مضاعفة عدد صفحاتها على حساب جودتها، فتصدر مهلهلة ومترهلة ومليئة بالثغرات، وفي هذه الحالة فإن الكاتب لا يضحِّي بالمتعة فحسب، إنما يضحي أيضًا بشخصياته ويجرِّدها من الاحترام الذاتي، لتكون مجرد أرواح مُنهَكة تؤدي عملها وفق معايير السوق الرائجة، التي للأسف لا ترى الكمال الروائي سوى في أعمال سمينة، بينما يحدث أن تتمتع بعض الروايات القصيرة بمتعة خالصة وبكمال يميزها. وتستدرك: «لكن أعود فأقول، إنَّ كثيرًا من الكتَّاب لا يتعمدون ذلك، أي أنهم يتجاوزون معايير السوق إلى معايير الفن».

ذات الكعب العالي

الكاتب المصري منتصر القفاش يؤكد أن معظم الروايات التي نالت جوائز تتسم بكبر الحجم، مما يعطي مؤشرا لأحجام الروايات الأكثر حظا في نيل جائزة، مشيرا إلى أنه من النادر فوز رواية أقل من 200 صفحة (باستثناء رواية هدى بركات «بريد الليل» التي فازت بجائزة البوكر) وهذا المؤشر من أسباب كثرة الروايات ذات الكعب العالي الطامحة -بمصاحبة دور نشر- لنيل جائزة، مع أنه يسهل حذف أجزاء كثيرة منها، دون أن يحدث أي خلل فيها. وبحسب القفاش يجب الانتباه إلى أن هناك روايات ناجحة فنيا رغم كبر حجمها، لكن تلك الجوائز باختياراتها تكرِّس لمواصفات بعينها للرواية وتهمِّش الروايات الأصغر حجما حتى لو كانت قيمتها الفنية بارزة، ولا تصل في أحسن الأحوال إلا إلى القائمة القصيرة. وكأن المعيار صار: اجعلها ضخمة لتفوز بالحسنيين: النشر والجائزة. وأي روائي جاد لا يشغله أن يجعل الضخامة هدفا يسعى إليه، فهو يتعرَّف -أصلا- على عالم روايته ونهايتها من خلال الكتابة، ويخوض مغامرة ولا يسجن نفسه في معايير شائعة أو تم تكريسها.

يضيف القفاش: «النقطة الأخرى هي أن القراء أنواع كثيرة، وهناك منهم من يبحث عن روايات خفيفة مسلية وهذا حقهم، ومن الطبيعي أن توفِّر دور النشر لهم تلك الروايات، لكن تبدأ المشكلة حينما يتم التعامل مع تلك الروايات باعتبارها النموذج المفضل لشكل الرواية وأنها الأكثر مبيعا وتُسلَّط على أصحابها الأضواء، ويتم التغافل عن بقية أنواع القراء الذين يفضلون أشكالا أخرى للرواية ولا يهمهم أن تكون أكبر حجما ولا أكثر مبيعا».

أعمال قصيرة

من جهته يقول الكاتب العماني محمود الرحبي: «حين صعدت رواية جوع لمحمد البساطي إلى القائمة القصيرة لجائزة البوكر في انطلاقتها الأولى 2009 قرأناها بشغف ربما فاق الشغف الذي قرأنا به الرواية الفائزة. «جوع» كانت رواية قصيرة مكثفة وعميقة أيضا، تتبادل الحضور فيها ثلاث شخصيات تقول حياتها بأقل الكلمات وأبلغها. لم نشهد منذ ذلك اليوم -حسب علمي المتواضع- روايات قصيرة بهذه القيمة دخلت في منافسة، باستثناء رواية وحيدة هي «بريد الليل» لهدى بركات».

وأضاف: «مزاج الكتَّاب اتجه لإنتاج روايات كبيرة الحجم، وقد يكون السبب ربما هو أنها الأوفر حظا بالحضور والفوز والتنافس. لا أدعي هنا الحديث عن دور الحجم في تقييم وقيمة أية رواية، فثمة روايات قصيرة تدلل على تسرع وكسل أصحابها، ولكن يمكن الحديث عن عدم الاهتمام بالروايات القصيرة بنفس القدر، وبالتالي الاهتمام بالمواضيع على حساب التقنية».

ويلفت إلى أنه قرأ مؤخرا رواية قصيرة للعراقي حسن بلاسم هي «في هجاء المنفى الشمالي»، قالت كل شيء في مائة صفحة، وقال: «تذكَّرت فورا عبارة رولان بارت «نص اللذة يكون قصيرا»، مع العلم أنه ليس من السهل أن تكتب رواية قصيرة، ودعني أذكر هنا قصة الكاتب الروسي الذي أرسل إلى صديقه رسالة طويلة موقَّعة باعتذار مفاده: عذرا لم أجد الوقت لكتابة رسالة قصيرة». وتابع: «لا بأس طبعا أن تطول الرواية بشرط أن يكون كل فصل فيها جديدا بالفعل في كل شيء، وليس استعادة وتكرارا وتدويرا».

الدجاجة أم البيضة؟!

أما الروائي المغربي محمد سعيد احجيوج فقال إنه رغم بساطة سؤال التحقيق، إلا أن محاولة تفكيكه ستضعنا حتما في مواجهة السؤال الفلسفي: «ما الأسبق الدجاجة أم البيضة؟» هل الجوائز هي التي سببت هذه السمنة في الرواية العربية أم أنها مجرد مرآة تعكس ما هو موجود أصلا في السوق؟

ويقول: «أخشى التعميم، والأصوب أن نقارب الموضوع بدراسة دقيقة، لكني سأجازف بالقول إنه خلال العقود السابقة كانت في السوق روايات قصيرة مميزة، تصدر بانتظام، وتتواجد دون عُقد نقصٍ بجانب الرواية المتوسطة وبضع روايات طويلة. لكن متى تغير الأمر؟ ربما في فترة ما صار الكتَّاب، لأسباب متعددة، يميلون إلى الرواية التاريخية، وهذه بطبيعتها (غالبا، لكن ليس دائما) تحتاج التفصيل أكثر، فتكون النتيجة رواية طويلة. ثم بدأت جوائز الرواية في البروز، فركزت على انتقاء تلك الروايات التاريخية التي تمثل «موضة السنة»، وهنا دخلنا في الدائرة المقفلة: هذه الجوائز الجديدة المغرية ماديا صارت عامل جذب للكتَّاب الجدد وكذلك للمخضرمين».

ويرى احجيوج أن الكتَّاب وجدوا أن فرص الرواية التاريخية بالفوز أكبر من غيرها، فهرولوا باتجاهها، مع درجة عالية من الاستسهال، نتجت عنه كتابة لا تبحث عن الحرفية الأدبية بقدر ما تبحث عن «الحدوتة»، التي ستجذب اهتمام القارئ ومعه لجان الجوائز، وبالتالي حصل لدينا تراكم على مستوى الرواية «السمينة»، وصار كل كاتب وافد، وكل كاتب راغب في الجوائز يُحاكي ما يراه يمثِّل نقطة تركيز الجوائز: الرواية التاريخية والرواية السمينة. وهكذا وصلنا إلى الوضع الحالي.

يعتقد احجيوج كذلك أن كتابة الرواية الضخمة أسهل من كتابة الرواية القصيرة، لأن الأولى لا تتطلب شيئا سوى ترك المداد يسيل، أما الثانية فتتطلب جهدا جهيدا لإيقاف سيل المداد، أو الأصعب: ممارسة المحو. ويختتم حديثه قائلا: «ثمة عامل آخر قد يكون حاضرا في خلق الظاهرة هو غياب «الناشر الحقيقي» أمام الناشر التجاري المحض، الذي يرى أنه بنشره كتابا ضخما يمكنه أن يرفع الهامش الربحي، ويبرر أمام القارئ ارتفاع سعر الكتاب بارتفاع ثمن الورق. لكنه أمام الكتاب المحدود عدد الصفحات لا يمكنه أن يبرر ارتفاع ثمنه».

معايير خاطئة

الروائي والناقد المصري محمود عبد الشكور يظن أن هذه الظاهرة تستجيب فعلا لمعايير شائعة خاطئة أعادتنا إلى زمن الروايات البدينة منها ربط الفوز بالجوائز بتلك النماذج من الروايات، مع التأكيد على أن الجوائز من أهم أسباب إعادة الاهتمام أصلا بفن الرواية، واهتمام الناشرين بإصدارها عموما.

عبد الشكور يرى أن كثيرا من الروايات الضخمة يمكن أن تحذف ثلثها بكل ارتياح، مما لا يؤثر على بنائها ومعناها، وهناك مباراة في الضخامة دون هدف أو داعٍ، بالذات في مجال الروايات التاريخية تحديدا، والتي لا تعرف بالضبط لماذا تعيد كتابة التاريخ ونقله إذا كانت كتب التاريخ تفي بذلك، يضاف إلى ذلك هذه الفكرة العجيبة التي تجعل الروائي أقرب إلى الباحث أو طالب الدكتوراه الذي يقدم أطروحة علمية، وهو لا يكتفي بجمع كل شيء له صلة قريبة أو بعيدة عن موضوعه، ولكنه يضيف أيضا قائمة بالمراجع التي اعتمد عليها!

يخشى عبد الشكور أن يكون للأمر علاقة بسوء فهم طبيعة فن الرواية، ويقول: «من المهم أن تدرس موضوعك، ولكن ذلك لا يعني أن تتحول الرواية نفسها إلى دراسة أو إلى كتاب تاريخ، وقد لا تستخدم من المعلومات التي جمعتها إلا النذر اليسير، فالأهم في الرواية، مثل أي فن، هو تشكيل المادة في إطار فكرة، وليس تكديس المعلومات».

واستدرك: «مع ذلك لست ضد الروايات البدينة إذا كانت الفكرة تتطلب ذلك، فروايات مثل «الحرب والسلام» و«الإخوة كرامازوف» كانت تتطلب ذلك، وكذلك «موبي ديك» وروايات الأجيال مثل ثلاثية محفوظ و«مائة عام من العزلة»، ولكن ليست كل فكرة وليس كل موضوع يستأهل تلك الضخامة، لا بد من تناسب الشكل والحجم مع الموضوع، ولا بد من إعادة غربلة المادة الروائية، وليست الرواية مخزنا للشخصيات والأحداث الفائضة عن الحد، وليس هناك فن مثل الرواية يحتاج إلى إحكام البناء، بل إنها من الفنون التي تحتاج إلى هندسة صارمة، ولا يجب على الروائي أن يتردد في الحذف إذا وجد ما يخل بالبناء أو بالإيقاع، والفن عموما حذف، وذكاء وقدرة على هذا الحذف. أعتقد أن فوز روايات ليست بدينة بجوائز الرواية يمكن أن يحل أو يخفف من هذه الظاهرة، ويمكن أن يؤدي تغير طبيعة النشر، نظرا لارتفاع أسعار الورق، إلى ضبط هذا الطوفان السردي المجاني. نسأل الله أن يتحقق ذلك قريبا.. اللهم آمين».

مساحة مرونة

يبدأ الروائي المصري محمد الفخراني كلامه بالإشارة إلى قاعدة بديهية وهي أن أي جائزة تلتفت بالدرجة الأولى، كما يُفترض، للفنِّي والمدهش، وما يُقدِّمه الكاتب من رؤية، وحالة جديدة، أيّا كان شكل الرواية وحجمها.

ويلفت إلى أن الجوائز في الفترة الأخيرة تميل إلى الروايات كبيرة الحجم، ويقول إنه يتفهَّم هذا، مؤكدا أن الروايات القوية صغيرة الحجم قليلة بطبيعة الحال، لأنها تُمثِّل تحديَّا فنيَّا مُضاعَفا.

ويقول: «بعض الكُتَّاب ربما يلتفتون إلى نوع أو شكل من الكتابة تميل إليه الجوائز، وأفكر أن الالتفات هنا سيكون لتجريب شكل رائج من الكتابة، ولا أرى انتقاصا من كاتب يفعل هذا، فلكل كاتب اختياراته، وإنْ كنت لا أفعله، ولا أختاره، ولا أنتقل إلى شكل أو موضوع رائج، ربما فقط أُدْخِل تعديلا على خطَّتي لأجل شيء كبير يحدث في العالم. كما أن الكاتب يحب أن تكون لديه رواية كبيرة الحجم، ورواية صغيرة، حتى لو أقل من 100 صفحة، كي يُنَوِّع تجربته. وفي النهاية، سؤال الكتابة يعود بالأساس للكاتب، هو مَنْ يصنع حالته الفنية الخاصة، ومع إصراره عليها وابتكاره فيها، مع وجود مساحة من المرونة في خطَّته يستوعب بها ما يحدث في العالم، فإن هذا الكاتب ينجح في فرض حالته الفنية وإضاءتها وتشكيل تيَّاره الخاص».

السطح والعمق

من جانبه يرى الكاتب المصري محمد عبد الجواد أن السبب البسيط في البداية للظاهرة، يخص المظهر أو السطح بعيدا عن العمق، فحجم الكتاب الكبير يعطي انطباعا بأن صاحبه قد بذل جهدا عظيما للوصول إلى ما وصل إليه، ويعد بأنه سيقدم فضيلة القراءة الأولى: نسيان العالم والغوص بين دفتي الرواية، كما أن الكثيرين يفكرون بأن حجم الرواية الكبير يعني أن الكاتب من العيار الثقيل، لأن القصص القصيرة أو الروايات القصيرة «النوفيلا» تعطي انطباعا معاكسا بأن الكاتب من أصحاب النَفَس القصير، ولا يتميز بالقدرة على صياغة عالم متعدد الصور والألوان والشخصيات والأحداث بسهولة.

كما أن الظاهرة، بالنسبة لعبد الجواد، تشبه كل ما يخص مبدأ العرض والطلب في السوق الحديثة، حيث إن الحجم الكبير يعطي شعورا بالراحة للعميل/القارئ والثقة والأمان، مثل وجبة متخمة بكل شيء، أو جهاز له عدة مزايا، أو وحدة سكنية كاملة من مجاميعه، ويعلق: «أعتقد أن هذا الشعور مفهوم لأن عميل أزمنتنا اعتاد الحكم على الشيء بعدد ما يملكه، ولكن هذه النظرة قاصرة أيضا في تفسير سر الإقبال على الروايات الكبيرة، فالمعروف أن الكتَّاب الكبار مثل تولستوي ودستويفسكي وغيرهما كانوا من أصحاب الروايات الضخمة، حتى أن الكاتب التركي أورهان باموق، الحائز على نوبل، قرر منذ بداية دخوله مضمار الأدب أن يكتب روايات سميكة وقوية وضخمة مثل «الحرب والسلام»، ولذلك أجد أن عامل الحجم يضرب بجذوره في أساسات الرواية والتي هي فن غربي بالأساس، وأن العقل الجمعي الذي يتلقى الرواية باعتباره منتجا ضخما لا يزال يحترم الحجم بسبب أثر الوعي المشكَّل منذ عقود، وهذا عامل لا نستطيع تجاوزه، ويخص طبيعة الفن نفسه».

عبد الجواد يرى أن الكتابة مثلها مثل أي شيء، فالبعض يكتبون من أجل المعايير الخاصة بالسوق؛ والحجم من بينها، والبعض يكتبون بسبب الفن وحده، وكلاهما يجب وجوده ولا ضير من ذلك، وهي نظرة ليست متسامحة مع كل شيء مثلا، وإنما محاولة تقبل لشيء موجود ونقده لن يمنع وجوده، والضرر الوحيد الموجود هو تبني لجان الجوائز فكرة احترام الكبير (الرواية الضخمة) وعدم الالتفات للصغير (الرواية الصغيرة)، لأن ذلك يخل بمبدأ الفن الأساسي، وهو أنه بلا قيود، لا يعتمد على الحجم، والحلاوة فيه مرتبطة بما يتلقاه القارئ وبقدرة الكاتب على الصياغة والحكي، ولأن اللجان في النهاية ليست قارئا ينتمي للمجموع البشري الواسع الذي لا يمكن تغييره فكره، يمكن تعديل رؤيتها لتصير أكثر ترحيبا بالأعمال الصغيرة، أو على الأقل، تضيف فئة خاصة بالنوفيلا: من أراد الرواية الضخمة فليتفضل، ومن أراد الرواية القصيرة فها هو مكانه، والكل يسعد والكل يرضى!.

تسويق الأعمال

تلفت الروائية عبير حامد الانتباه إلى أن الروايات الطويلة ارتبطت دائما بأسماء كبار الكتَّاب في الوطن العربي كالأديب الراحل نجيب محفوظ، مؤكدة أنها لا ترى سيطرة للروايات الطويلة على المبيعات أو سوق النشر والجوائز، وإن كان لها وجود وانتشار في بعض الأماكن.

وتؤكد أن الروائي «المبدع» مهما وصلت درجة إبداعه لا يستطيع تسويق أعماله، ومن ثم عليه أن يستنهض دور الروائي «الصانع»، الذي يستطيع أن يدمج بين قدرته على الإبداع وإحساسه بنبض السوق والناشرين على السواء، ثم ينظر إلى الرؤية النقدية لعمله في المرحلة التالية بحثا عن اهتمام أو تغطية إعلامية أو إعلان أو الوصول إلى أكبر شريحة ممكنة عبر حساباته على منصات التواصل الاجتماعي، مشيرة إلى أن أغلب الروائيين يضعون هذه المحاور في الاعتبار ربما أثناء الكتابة الأولى أو المراجعة الأولى أو الثانية للعمل الروائي.

وتقول: «أرى الصنعة موجودة في عدد كبير من الأعمال الروائية لكتَّاب من مصر والأردن ولبنان والمغرب العربي، بدون ذكر أسماء، ولكن في المقابل هناك أيضا رؤية للمؤلف في السوق (كيف يبيع الرواية)، وهذا أمر أصبح طبيعي جدا، ولكن العيب أن نغفل الجانب الإبداعي وننظر إلى الجانب التجاري فقط، ففي هذه الحالة علينا أن نقول إنها بداية أفول زمن الرواية».

قوالب أدبية

الكاتبة المصرية إيناس حليم ترى أن اتساق النص أو ترهله ليس له علاقة بحجم الكتاب، فكل نص يحتاج إلى شكل ما من التكثيف، سواء كان رواية أو قصة أو حتى أقصوصة، ولا يعني أن تكون الرواية كبيرة الحجم أنها خرجت عن ذلك الالتزام، فهناك ما يمكن أن يُقال في نوفيلا من 100 صفحة مثلا، وهنالك ما يجب أن يُقال في رواية من 600 صفحة أو أكثر، لذلك لا يجب أن يكون الحجم هو معيار اختيار الروايات في الجوائز الأدبية، كما هو الحال في العديد من الجوائز العربية، بل يجب أن يتم الحكم على الرواية على أساس أنها نصٌ ذو عناصر متسقة من حيث السرد واللغة وضبط الإيقاع بما يتناسب مع الفكرة والحدث.

أما بالنسبة لمعايير السوق فترى إيناس أنها، في معظم الأحيان، تختلف عن معايير الجوائز، ولا تعتمد على الحجم الكبير للرواية بل على العكس، معظم القراء يملون من الروايات السمينة ويُفضلون الروايات التي تُقرأ في جلسة أو جلستين، لذا يجب، كما تقول، ألا يتبع الكاتب أي معايير في الكتابة لأنه ببساطة إذا فكر في اتباع معيار معين سيخصم ذلك من فرصته في الوصول إلى الهدف الآخر، وبشكل عام لا يجب أن تكون هناك قوالب معيَّنة للكتابة لأن اتخاذ تلك القوالب سيؤدي إلى أن تكون كل النصوص متشابهة، وهو ما يخلق ظاهرة كارثية في الأدب لن تُنتج أبدا فنا أو إبداعا.

أسألها: «هل أصبح الكُتَّاب يستجيبون لمعايير السوق أكثر من المعايير الفنية؟» فتجيب: «لنكن منصفين وواقعيين ونُقر بأن حلم أي كاتب أن يُحقق المعادلة الصعبة، بأن يكون كتابه جماهيريا كي يصل إلى أكبر عدد من القراء، وفي نفس الوقت نخبويا فيلقى استحسان النقاد مما يُشير إلى قيمة العمل وجودته، لكنني أرى بصدق أن ذلك غير متحقق في العالم العربي بقدر ما هو متحقق في الغرب، والسبب في ذلك هو أن القارئ العربي لا يتقبل بسهولة أشكال الكتابة الجديدة أو الكتابة التي تحتاج إلى التأويل أو أن يكون القارئ شريكا في النص وليس مجرد متلقٍ له، لذلك هناك عدد كبير من الكتَّاب يعرفون بالضبط ما يحتاجه القارئ العربي، وعلى هذا الأساس يتبعون معايير السوق التي تتعامل مع النص على أنه مصدر للمتعة، وليس مُشكِّلا للوعي أو مصدرا للمعرفة أو مدعاة للتأمل، كما أن هناك روايات تُكتَب لتُلائم فئات عمرية معينة بقصد أن تُصبح من الأكثر مبيعا. وفي رأيي أن القصدية عموما تنفي صدق الكتابة، أيا كان شكل تلك القصدية أو مستواها أو براعة مواراتها داخل النص، والقارئ الحسَّاس ذكي بالقدر الكافي كي يعرف إن كان الكاتب قد كتب بصدق عن حياته وأفكاره ومشاعره وأوجاعه فلمس شيئا ما فيه، أم كتب بمعايير معينة كي تلمسه وتُدغدغ مشاعره. وفي النهاية النص الجيد هو الذي يعيش، ومعايير الجودة لا تلقى ذلك الجدل عند القارئ الواعي».

حسن عبدالموجود قاص وصحفي مصري