الرجل بكامل قيافته
دخل الرجل الستيني الموفور الصحة إلى مجلس العزاء بكامل قيافته العصرية: بدلة منسقة ومكوية جيدا من ياقتها حتى حواف أردانها، ربطة عنق زاهية الألوان، لحية حليقة وسحنة تطفح بالبِشر، شارب مصبوغ بالأسود متوسط الكثافة، ومن معصم اليد اليسرى تطل ساعة رولكس مهيبة، وعلى سطح الخنصر يلتف خاتم فضة تتوسطه عين عقيق تنبض بالحياة. قد يكون بعض الحاضرين في العزاء لم يخفوا اندهاشهم لأن هناك من يعرفه ونقل المعلومة سريعا بهمهمات كهربائية، بيد أن البعض اعتبره أستاذا جامعيا عربيا وهو يدور على أيدي الصف الدائري الطويل مسلما. وبعد انتهاء المصافحة قام الذي يعرف مقامه وجره من يده ليتصدر المجلس، مرددا بارتباك: «معاليه جاء من سفرة رسمية، ومن المطار إلى مجلس العزاء لم يضيع الوقت للذهاب إلى البيت ليغير ملابسه» وكأنه جاء بملابس غير لائقة تستدعي التوضيح، حيث إن للعزاء حلته التي يتقيد بها عادة حتى الصبية الغرر، تتمثل في الدشداشة البيضاء والمصر مع اصطحاب العصا العمانية المعقوفة الرأس. لم يعلق الرجل على العبارة الدالة إلى قدومه من المطار، لم يؤكدها نفورا ولم ينفها مراعاة لوضع قائلها خاصة وأنه كان المبادر إلى دعوته إلى تصدر المجلس. وبعض الداخلين حديثا إلى مجلس العزاء، حين يصل دور المصافحة إليه، يلفظون رأسا بكلمة دكتور أو أستاذ قبل أن يتدارك أحدهم - وقد انتبه إلى الملامح الواضحة للرجل - إلى إطلاق كلمة معاليه، وهو يرفد يمناه يسراه ويهزهما حانيا جذعه قليلا. دار التمر على الحاضرين، فاكتفى الرجل بفنجان قهوة يتيم قدم له في تجويف كرتوني صغير، احتساه على مهل وهو ينقل عينيه بين وجوه المجلس وكأنه يقرأ حديثا محتملا تنطق به عيونهم. لكنه أدرك مع الوقت أن العملية تمت بسلام وأن الجمع لم يعد مهتما بأمر ملابسه، بل إن بعض النظرات كانت ترسل نور بصرها إليه بحياد وبرضا تام، وهناك من رأى في ذلك علامة تنوع وكسر مريح لجهامة الحياة: أن يختار وزير مجلس عزاء ليرتدي ملابس عصرية بالغة الأناقة، وهناك من صرف نظره ناحية نوعية الثوب الذي خيطت به بدلته وثمن الساعة التي يرتديها، بل هناك من صوب سهام عينيه جهة عين العقيق التي تبرق من ظهر خنصره الأيسر. أحد الملاصقين له في المجلس بالغ في مجاملته حين تحدث عن حرية اللبس وأنها ليست أكثر من أردية تصنع خارج البلاد، دون أن يحظى من الرجل بأي ردة فعل، الأمر الذي دعاه إلى تغيير مجرى الحديث إلى عدة مواضيع لا يجمعها رابط، في أحدها بدت عن الرجل ابتسامة وامتلأ صدره بمقدمات ضحك حد تدفقه مقام العزاء.
حين قام الرجل مستأذنا تبرع ثلاثة من متصدري صف العزاء لتشييعه والوقوف انتظارا حتى يرتدي حذاءه، ثم التقدم معه جهة سيارته «البي أم دبليو»، حيث هرع سائقها من كرسيه كي يفتح له الباب. وانتظروا واقفين رافعين أكف الوداع إلى أن اختفت سيارته في منعطف الطريق.
***
حين ترك الرجل منصبه في الوزارة، اختار عالم رجال الأعمال والمضاربات الحرة، ظل بعد ذلك مرتبطا بالسفر والتجوال. وضمن القرارات التي أضافها إلى حياته، تخليه عن الملابس التقليدية نهائيا. حتى في الأعياد كان لا يصطف أمام محال الخياطة كما يفعل بعض زملائه السابقين تظاهرا بأن الوزير يمكنه أن يكون مثل العامة في الوقوف خلف الصفوف، بل لم يحضر خياطين إلى بيته. في مكتبه كذلك بالشركة كان لا يتخلى عن ملابسه الأنيقة تاركا موظفيه على حريتهم في ارتداء ما يشاؤون طالما أن أمور العمل تجري على الوجه المعقول. لا يفرط في المناسبات الاجتماعية، بل يؤديها بحرص خاصة زيارات المرضى من أقاربه، ولكن دون تفريط في أمر ملابسه. وكانت هذه المرة الأولى التي يحضر فيها مراسم عزاء بملابس عصرية. لا شك أن الأمر استغرق منه يومين كاملين لاتخاذ القرار، ولكن في اليوم الأخير للعزاء عقد أمره وتقدم بكامل زيه جهة صحن العزاء.
***
كان ينظر من الكرسي الخلفي لسيارته منتشيا وكأنه يرى العالم من حوله بحلة جديدة. وكأن البلد تغيرت وصار للغروب معنى، كما سيصير الشروق إلى معنى آخر كذلك.
محمود الرحبي روائي وقاص عماني