«الحق في العلم» هو «العلم الحق»
«العلم» و«التكنولوجيا» مفهومان تغيرا عبر العصور، فلم يبدأ العلم على النحو الذي نعرفه الآن ولكنه أخذ مراحل من التطور عبر التاريخ وأشكالا مختلفة حتى وصل إلى شكل ومنهج العلم الذي نعرفه الآن في القرن الحادي والعشرين. لهذا تأخر كثيرا وجود تعريف متفق عليه لما هو العلم. فما كان يعد علما في وقت من الأوقات، ليس سوى هراء الآن. ففي وقت من الأوقات كان هناك علم الأرقام المحظوظة وغير المحظوظة. أضف إلى هذا أن بعض المصادر ترى أن العلم بدأ بعلمين من العلوم التي نعرفها الآن: الطب والرياضيات. الطب بدأ بما يعرف بكتابات أبوقراط، وان كان يغيب أي دليل على أن أبو قراط هو من كتب هذه الكتابات. أما الرياضيات فالأدلة كافية على إسهامات طاليس في القرن السابع ق م وفيثاغورس في القرن السادس ق م. تذكر المراجع أن طاليس سافر إلى مصر وأن اليونان ينسبون أصل معارفهم الرياضية والطبية للمصريين القدماء. أما مصطلح التكنولوجيا فالمفارقة تكمن في أنه رغم أنه مصطلح حديث نسبيا، إلا أن التكنولوجيا ذاتها أقدم من العلم. فالعلم خرج من رحم التكنولوجيا، تكنولوجيا الأدوات الأولية التي أدت بعد ذلك إلى ظهور العلم كنظرية ومنهج. أما الآن فالتكنولوجيا تطبيقات للعلم المعاصر. على هذا النحو تبادل العلم والتكنولوجيا الأدوار حتى أنك تجد خلافا حول أيهما بدأ قبل الآخر وأيهما يؤثر في الآخر أو جاء نتاجا للآخر.
سوف أشير في المقال للعلم والتكنولوجيا مجتمعين بمصطلح «العلم».
عندما اهتم الإنسان بالعلم في البداية اهتم به كنشاط يأمل من ورائه حل مشكلات واقعية تعوقه وفهم الكون. فمراكب البحر مثلا جاءت اختراعا استجابة لرغبة الإنسان استكشاف ما وراء البحر وما يكمن في أعماقه ومن أجل السفر إلى أماكن يصعب الوصول إليها بالبر ولنقل البضائع. كذلك اخترع الإنسان العجلة 3500 ق.م التي مر تطورها في مراحل إلى أن وصلت للشكل الذي نعرفه الآن لندرة وجود الحيوانات التي يمكن الاعتماد عليها في الانتقال وللتعب الذي كان يصيبها وقد يصل إلى حد الموت أحيانا، ومع الوقت زادت أهمية الدراجة لأنها صديقة للبيئة لا تحتاج لوقود للعمل كما أنها صحية للإنسان. وهذا يمكن قوله على كل اختراع أو أداة تكنولوجية وصل إليها الإنسان من أبسط الأدوات حتى الاختراعات التي نعرفها الآن من قطارات وطائرات إلى أجهزة الحاسوب لأحدث تقنيات العلاج والأدوية.
ما حدث أن العلم ومنتجاته التي حرص الإنسان على تطويرها لتخدم البشرية وتيسر حياة الإنسان صارت مع الوقت أداة للسيطرة ولهيمنة بعض المجتمعات على أخرى. كمثال شديد الحداثة على هذا فإنه أثناء وباء كورونا ورغم أن الأمر كان يمثل مسألة حياة أو موت، اشترت الولايات المتحدة وكندا والاتحاد الأوروبي أمصالا تكفي لتطعيم مواطنيها أكثر من مرة بينما أبناء مجتمعات لا يجدون جرعة واحدة: اشترت كندا جرعات تكفي لتطعيم مواطنيها 5 مرات، واشترت الولايات المتحدة ما يكفي لتطعيم مواطنيها 4 مرات بينما اشترى الاتحاد الأوروبي ما يكفي تطعيم أبناء هذا الاتحاد 3 مرات. أصدرت لجنتا اليونسكو: اللجنة الدولية لأخلاقيات البيولوجيا، واللجنة العالمية لأخلاقيات المعارف العلمية والتكنولوجيا (الكومست) -فبراير 2021- تقريرا ترفض فيه هذا المسلك الذي أطلقت عليه اسم «النزعة القومية للأمصال vaccine nationalism» ذلك الذي تندفع فيه كل دولة لشراء حاجة مواطنيها دون اكتراث بأبناء البلدان الأخرى. رفضت اللجنتان هذا المسلك لسببين: الأول أن شراء ما يزيد عن حاجة الدولة لا معنى له سوى أن الدولة ستستخدم هذه الأمصال الزائدة عن الحاجة لتمارس به ضغوطا سياسية. الثاني أن على كل دولة ألا تنسى أن عليها حقوقا تجاه مواطني الدول الأخرى. فالمسألة مسألة حياة أو موت، وجود أو فناء ولا مجال في هذا الصدد لتنافس بشأنه. ما قيمة منتجات العلم -والأمصال مثال هنا- التي لا تصل لمواطني مجتمعات كاملة رغم أن هذا المنتج قد يكون مسؤولا إلى حد كبير عن حياة أو موت أفراد هذه المجتمعات؟
من هنا اهتمت اليونسكو بإبراز مفهوم «الحق في العلم» من أجل إعادة الأمور إلى نصابها وتعزيز القيمة الحقيقية للعلم أنه من أجل خدمة البشرية جمعاء. ولأنه من أجل خدمة البشرية جمعاء يعني أن ممارسته ومنتجاته حق لكل إنسان. هذا المفهوم الذي تبنت اليونسكو إبرازه ونشره عالميا حرصت اليونسكو على توضيحه من خلال مجموعة من المواثيق وتنظيم ندوات. ففي الإعلان العالمي لحقوق الإنسان 1948 جاء في الفقرة الأولى من المادة 27 أن لكل فرد الحق في أن يشترك اشتراكا حرا في حياة المجتمع الثقافي وفي الاستمتاع بالفنون والمساهمة في التقدم العلمي والاستفادة من نتائجه. وفي العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية 1966 جاء في المادة 15 أن من حق كل فرد أن يشارك في الحياة الثقافية وأن يتمتع بفوائد التقدم العلمي وتطبيقاته. أكدت اليونسكو هذا المعنى بشكل خاص في التوصية التي أطلقتها ووافقت عليها كل الدول الأعضاء في منظمة اليونسكو 2017 تحت عنوان «التوصية الخاصة بالعلم والمشتغلين بالبحث العلمي». كان الغرض الأساسي من هذه التوصية مساعدة العلم دعم تنفيذ أجندة التنمية المستدامة 2023 وذلك بوضع إطار عام لمعايير دولية عامة متفق عليها للبحث العلمي.
كان الهدف من هذه المواثيق إبراز الصلة بين التقدم العلمي ومسائل المساواة والشمول والحرية الأكاديمية وحقوق الإنسان الأخرى. ذلك أنه على سبيل المثال رغم أن معظم المجتمعات حاليا تقدر قيمة العلم إلا أنها لا تقدر حقوق الإنسان في العلم. فما زالت عدم المساواة هي القيمة البارزة في توزيع منتجات العلم. فحتى أبريل 2022 على سبيل المثال لم يكن سوى 15.21% من مواطني البلدان ذوي الدخل المنخفض قد تناولوا جرعة واحدة على الأقل من الأمصال المعتمدة ضد فيروس كورونا، في الوقت الذي وصلت النسبة في الدول ذات الدخل المرتفع إلى 71.93%.
ولكن يبدو أن التشارك في العلم إنتاجا واستنفاعا يفرض نفسه يوما بعد يوم ليتخطى كونه مواثيق يجب تذكر بنودها. هذا التشارك في العلم خلقته التحديات البيئية والاجتماعية والاقتصادية في العالم التي فرضت ضرورة التشارك في إيجاد حلول لهذه التحديات. من هنا ظهر ما يعرف بـ «العلم المفتوح» الذي يمثل أحد مبادرات تحقيق قيمة الحق في العلم.
لا يعني الحق في العلم حق الجميع في الاستمتاع بمنتجات العلم فقط، بل يعني أن يسهم الجميع في إنتاج العلم. على هذا النحو يعد العلم المفتوح خير مثال على هذا الفهم في تحقيقه للشرطين. العلم المفتوح حركة بدأت منذ حوالي ثلاثة عقود وتعني ببساطة جعل كل مراحل إنتاج العلم -بدءا من فكرة البحث العلمي حتى الوصول إلى النشر- مفتوحة ومتاحة للجميع. هذا تطلب تغييرا في ثقافة ممارسة العلم وتقييم الأبحاث والنشر كما تطلب تغييرا في مفهوم العلم. فالعلم أضحى سلعة عامة ليست للبيع ولا للتنافس أو أداة للهيمنة. ساعد على نشر هذه الثقافة -التي لم تصبح ثقافة عامة حتى الآن ولكنها تتغير تدريجيا من منطقة لأخرى في العالم- فرص العصر الرقمي الذي نحياه، وإن كانت هناك تحديات ومخاطر تواجهه.
فإذا ما بدأنا بأول خطوات البحث العلمي وهي فكرة البحث، نجد أن فكرة البحث وفقا لمفاهيم العلم المفتوح لم تعد قاصرة على الباحث العالِم الذي يزعم أنه وحده يعرف مشكلات المجتمع التي يحتاج العلم للإسهام في حلها ولكنها أصبحت مفتوحة أمام الجميع. فالتحديات البيئية والاجتماعية والاقتصادية التي تواجه العالَم خلقت ضرورة في إشراك المواطن العادي للوصول إلى طرق إبداعية جديدة لمواجهة التحديات المجتمعية. من هنا ظهر ما يعرف بعلم المواطن citizen science الذي يعني إشراك المواطن في تحديد المشكلات المجتمعية وفي إنتاج المعرفة.
أما فيما يتعلق بالمعطيات المطلوبة لإنتاج العلم، فقد أضحت أيضا هناك ضرورة لجعلها متاحة أمام الجميع وليست قاصرة على أصحاب النظرية الذين استخدموها، فيتم وضعها على منصة إلكترونية للتحقق بها من صحة النتيجة التي وصل إليها الباحثون عن طريق أي باحث آخر ولإمكانية استخدامها في أبحاث أخرى. كذلك أضحى نشر الأبحاث نشرا رقميا على المنصات الرقمية التي قد تتيحها بعض المجلات وهي الخطوة التي تكاد تكون موجودة في معظم مجلات العالم الآن حيث الإتاحة المفتوحة للأبحاث بعد أن كانت الأبحاث المنشورة في مجلة ما متاحة فقط للحاصلين على هذه المجلة وكان البحث يستغرق وقتا طويلا إلى أن يظهر مطبوعا في مجلة علمية. من ممارسات العلم المفتوح أيضا ما يعرف بنشر الباحث نسخة البحث ما قبل الطباعة preprint حيث يمكن للباحث بعد الانتهاء التام من كتابة البحث وتجهيزه للنشر، نشره على إحدى المنصات الرقمية فيظهر أمام الجميع حتى قبل تحكيمه من قبل النظراء. ورغم أن هذا البحث لم تتم مراجعته بعد، فإن فائدته أنه يسهم في غزارة الإنتاج العلمي والنشر السريع للنتائج مع إعطاء باحثين آخرين الفرصة لإبداء رأيهم وتقديم ملاحظاتهم على البحث. كذلك من ممارسات العلم المفتوح التشارك في الأبحاث بين مختلف أصحاب التخصصات ومختلف الأقطار . اتساقا مع أهداف العلم المفتوح تغيرت معايير تقييم الأبحاث. من المعروف أن الأبحاث المنشورة كانت تُقيَّم وفقا لعدد الاستشهادات التي يرجع فيها الباحثون لبحث ما بحيث كلما زاد عدد الاستشهادات زادت قيمة البحث، والبحث المنشور في مجلة معامل تأثيرها عال يتم تقييمه كبحث أفضل من بحث يتم نشره في مجلة معامل تأثيرها منخفض. هذا الأسلوب في التقييم كان مطلوبا من أجل الوصول إلى تقييم كمي رقمي يستخدم في الترقيات والتعيينات ومن أجل الحصول على منح بحثية. اتساقا مع النظر للعلم المفتوح على أنه خدمة عامة ظهرت الحاجة لمعايير متعددة للتقييم وفقا لها لا يُقيم العالِم فقط وفقا لأبحاثه ولكن يتم أيضا تقييم مستوى تدريسه ومدى خدمته للمجتمع. ظهر -اتساقا مع العلم المفتوح- مفهوم أن تكون مراجعة النظراء أيضا مفتوحة. وفقا لهذا الفهم تصبح «الهويات مفتوحة» أي هوية كل من المحكم وصاحب البحث، بحيث يعرف كل منهما الآخر ويتواصلون معا لمناقشة تقارير التحكيم ويتم عرض التقرير بشكل مفتوح أمام كل من يرغب من مراجعي الأبحاث رؤية التقرير، ويشاركون في تقديم ملاحظات تضاف إلى الصورة قبل النهائية للبحث وذلك من خلال وضع مسودة البحث على منصة رقمية تتيح هذه الرؤية وهذا الاطلاع. فالباحث -وفقا لمفاهيم العلم المفتوح- لا يجب تقييمه بدرجات ذلك أن هناك عناصر ومتغيرات كثيرة تدخل في تقييمه من الصعب اختزالها في مجموعة درجات. ولما كان العلم يراد له أن يكون مفتوحا، وتصبح خصائص العلم المفتوح هي الخصائص السائدة، ارتُئي ضرورة تكوين شبكات دولية تناقش أفضل آلية للتقييم تتسق مع ممارسات العلم المفتوح.
من متطلبات العلم المفتوح أيضا تشجيع البحث العلمي والتواصل بين الباحثين عبر العالم بلغات متعددة. فالعلم خدمة عامة مطلوب وصول نتائجه للعالم كله وبالتالي يجب تشجيع التواصل بين الباحثين من عدة أقطار بلغات متعددة للتشارك في البحث العلمي وفي تبادل الآراء والخبرات حتى نضمن وصول نتائجه لصانعي القرارات وللمواطنين في عدة بلدان وبلغات متعددة.
هذه الممارسات المفتوحة لخطوات العلم من شأنها أن تمنع عيوبا كثيرة كان العلم يعاني منها من قبل مثل تلفيق نتائج الأبحاث والسرقات العلمية، ذلك أن إتاحة الأبحاث على منصات رقمية جعل مسألة كشف التلفيق والسرقات العلمية أسهل مما كانت عليه من قبل.
إلا أن هذا لا يمنع أن هناك تحديات تقابل جعل العلم مفتوحا. من أكثر هذه التحديات ظهور مجلات رقمية تزعم أنها علمية وتقوم بتحكيم الأبحاث ولكنها في الحقيقة مجلات غير معتمدة ولا تقوم بتحكيم الأبحاث وتزعم أنها تفعل ذلك ثم يفاجأ الباحث في النهاية أنها ليست مجلة معتمدة فيخسر نقوده ووقته وجهده. لذلك قام أحد العلماء المتخصصين بجمع هذه المجلات في قائمة يقوم بتحديثها مجموعة من الأساتذة باستمرار. تم نشر هذه القائمة في الموقع التالي https://beallslist.net/.
من الصعوبات التي تقابل العلم المفتوح أيضا جعل المعطيات متاحة، ذلك أن هذه الممارسة قد تفتح المجال لاستغلال المعطيات والمتاجرة فيها من قبل القطاع الخاص، وبالتالي بدلا من أن نجعل العلم متاحا للجميع، فتحنا المجال للمتاجرة فيه. أحيانا تكون المعطيات من الخطورة من الناحية السياسية أو الأمنية مما يتطلب عدم جعلها مفتوحة. من هنا تبنى البعض مبدأ جعل العلم «مفتوحا بقدر الإمكان، مغلقا بقدر الضرورة».
من الصعوبات التي تقابل العلم المفتوح أيضا مسألة التمويل البحثي. فإذا كان البحث العلمي أضحى بحثا يمكن لباحثين من مختلف أنحاء العالم ومن تخصصات متنوعة التشارك فيه، فلم يعد التمويل البحثي مسألة خطط بحثية يتنافس فيها الباحثون للحصول على تمويل بحثي، بل ظهرت طرق جديدة في التمويل تظهر التمويل كمسألة تشاركية مفتوحة للجميع. أظهرت هذه الطرق كيفية اشتراك المواطن في عملية إنتاج العلم. من هذه الطرق ما يعرف بالإحسان philanthropy أو التبرعات التي تأتي من هيئات أو أشخاص ثرية دعما للبحث العلمي، ثم هناك ما عرف بالتمويل الجماعي crowdfunding وهو عبارة عن موقع إلكتروني يصممه صاحب المشروع شارحا فكرة المشروع، يمكن لآخرين يقتنعون بالفكرة من وضع مبالغ إضافية على وعد من صاحب المشروع بتقديم نسبة من ربح المشروع لهؤلاء المشاركين في التمويل وذلك بعد الانتهاء منه.
هذا الاتجاه الذي ينتهجه العلم نحو أن يكون مفتوحا هو ما يجعل من العلم علما حقيقيا لأنه يهدف لخدمة كل البشر انطلاقا من تعاون كل البشر دون تمييز على أساس عرقي أو ديني أو لون أو جنس. على هذا النحو يمكن القول إن العلم أداة لخلق حضارة إنسانية تراعي الإنسان من حيث هو إنسان. فالحضارة في رأينا ليست حضارة إلا بقدر تمكنها -كأحد أهدافها- من النهوض بالبشر ككل بمستوى واحد من النهوض. متى استخدمت مجموعة من المجتمعات نواتج العلم وأدوات القوة لقهر غيرهم والتحكم في مجتمعات غيرها، لا يمكن أن نسميها حضارة «إنسانية». وأي حضارة ليست إنسانية بهذا المعنى ليست حضارة.
د. بهاء درويش أستاذ الفلسفة في جامعة المنيا وعضو اللجنة الدولية لأخلاقيات البيولوجيا -اليونسكو- باريس.