الحرب بين واقع خرابها وخيال أثرها أنسليم كيفر صانع الأسطورة الحديثة في الرسم
«في كل مكان من هيروشيما، احتفظت الجدران والمباني التي ظلت واقفة بظلال الناس والأشياء. تتجه كلها إلى ناحية وهج الضوء. إن إبداع مثل هذه الصور يشبه العلامة التي تتركها الساعة في اليد عند ارتدائها طوال يوم مشمس على الشاطئ»
تشارلز بينجرينو «قطار هيروشيما الأخير»
تلك اللوحة الجاهزة «جورنيكا»
تبدو لوحة بابلو بيكاسو «جورنيكا» نموذجا جاهزا للاستعمال ما أن يتم الحديث عن تمثلات الحرب في الفن. وهو استعمال صار مستهلكا بالرغم من أهمية تلك اللوحة على مستوى التحول الأسلوبي لدى الرسام الذي يُعتبر واحدا من أهم الرسامين في مرحلة ما بعد بول سيزان (1839 ــ 1906). كانت جورنيكا عملا رمزيا، حاول بيكاسو من خلاله أن يطلق العنان لخياله المأساوي متأثرا بحدث واقعي. وهي عمل إشاري يبدو أقرب إلى الخلاصات منه إلى أن يكون تجسيدا للمأساة التي عاشتها البلدة الإسبانية بعد أن تعرضت في إطار الحرب الأهلية الإسبانية للقصف الألماني عام 1937. هي أشبه بالصرخة التي سعى بيكاسو من خلالها إلى تفكيك الوعي الإنساني وإعادة تركيبه بما يجعله قابلا لفهم التحولات التي يخلقها فعل شاذ كالحرب. هناك زمن للصلح الداخلي يذهب إلى غير رجعة ليحل محله زمن للقلق والاضطراب والحيرة والأسئلة الوجودية الغامضة التي تحيط بالمصير البشري. وبالرغم من محاولة الرسام تعطيل الحدث المباشر من خلال توسيع دائرة الصرخة المحتجة فإن اللوحة التي صورت مأساة جورنيكا لم توقف الحرب بقدر ما كانت محاولة لاستدراجها إلى منطقة محايدة. لقد كان الوضع البشري يتدهور بحيث أثبت الإنسان قدرة عجائبية على التماهي مع قوى الشر التي تسكنه ليسمح لها باستحضار الجانب المظلم والعنيف وإيجاد جورنيكات جديدة لا تُحصى بدءا من الحرب العالمية الثانية. في العلاقة بين بيكاسو وجورنيكا يمكن القول إن البلدة الحزينة خدمت الفنان حين هزته وحرضته على إعادة النظر بأسلوبه الفني كما أنها فتحت أمامه أبواب الشهرة.
صارت جورنيكا أثرا جبارا ينتمي إلى واحدة من أعظم مراحل التحول الأسلوبي لدى بيكاسو وفي الوقت نفسه بدت كما لو أنها من مخلفات الحرب التي يمكن النظر إليها من جهة رمزيتها.
مهارة وصف الألم
ما بعد جورنيكا كان هو الأكثر خطورة في التاريخ البشري المعاصر. لقد وقعت أهوال ومجازر وحفلات قتل في مختلف أنحاء الأرض، كان الغرب للأسف أما منفذها والمستفيد منها أو مسببها الداعم لاستمرارها أو الشاهد القوي الذي كان في إمكانه أن يمنع وقوعها ولم يفعل. وبالرغم من أن تلك الحقيقة كانت سياسية بالدرجة الأساس فقد كان واجبا على الفنانين أن لا ينغلقوا تماما على ما جرى في القارة الأوروبية باعتباره مأساة كل العصور كما أن اهتمامهم بالمحرقة النازية ضد اليهود حصر وعيهم الإنساني في منطقة ضيقة وحال بينهم وبين رؤية المآسي التي تتعرض لها الشعوب الأخرى بسبب الحروب.
كان الألماني أنسليم كيفر (1945 ــ ) واحدا من أعظم الفنانين الذين ظهروا في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية. فبالرغم من أنه ولد في السنة التي انتهت فيها تلك الحرب فإنه خصص الجزء الأكبر من فنه لمشاهد مستلهمة من أهوال الحرب وتداعياتها على الوضع البشري. لم يرسم كيفر الحرب بشكل مباشر كما لو أنه عاشها. لا وقائع عنف بشري في رسومه كما في مشاهد الإعدام لدى فرانسيشكو جويا أو في لوحة بيكاسو التي تدين الحرب الكورية. كيفر لا يصف الحرب بل يصف الخراب حين يرسم مبان تعرضت للقصف، أما حين يغلف أجزاء من لوحاته العملاقة بالرصاص فإنه يصف الألم الإنساني الذي يعنيه بالدرجة الأساس. كان الفنان الألماني قد انغمس في تراجيديا الألم في مرحلة سابقة حين استحضر في لوحاته الأساطير ذات الطابع الديني في محاولة منه لاختراق الزمن. من وجهة نظره فإن عالم تلك الأساطير لا يزال ممكنا والفضيحة الناتجة عن خضوع الإنسان لشروره الكامنة لا تزال قائمة فهي تمثل الخيط المأساوي الذي يتسلل من الماضي إلى الحاضر.
ما أصغرنا حين تقوم الحرب
كيفر هو واحد من أكثر الرسامين حظوة في العروض المتحفية. لقد أقام له متحف اللوفر بباريس معرضا شخصيا. ذلك حدث استثنائي بالنسبة لفنان حي. غير أن المعرض الذي أقامه في قاعة «وايت كيوب» بلندن نهاية عام 2016 كان بمثابة نقطة تحول في مسيرته. في ذلك المعرض عرض كيفر مستشفى حربيا بكل أسرته في أجواء كئيبة وتحت أضواء خافتة. حضرتُ ذلك العرض وكنت أشعر أنني أستمع إلى أنين الجرحى وأمشي معهم في الطريق إلى الموت. بالنسبة لسكان ذلك المكان المظلم فإن الحرب قد انتهت. وهو الواقع الذي ينطلق منه كيفر في معالجته لظاهرة الحرب. ما الذي يتبقى من الحرب. الرمق الأخير لمعنى أن تتعرض البشرية لتداعيات الحرب. يشعر المرء أن هناك بشرا تحت الأغطية يهمسون بأن الحرب قد مرت من خلالهم وحطمت أسباب الحياة في أعماقهم. ذلك المستشفى الميداني هو مقدمة متجهمة تمهد لرؤية رسوم كيفر التي صورت الخراب الذي تعرضت له الطبيعة والأبنية من غير أن يظهر أثرا للإنسان. لقد اختفى الإنسان وحلت محله العلامات التي تشير إلى فنائه.
«ما أصغرنا» تلك جملة تفرضها قوانين الحرب. غير أن كيفر يقاومها بالرسم حين يسعى إلى أن لا يكون الدرس وصفيا. كيفر يعيد قراءة الدرس من الصفر البشري فيوسع درجة الألم. علينا أن لا نخطئ في العد. يرسم مشاهد طبيعية نتسلل من خلالها إلى منظور الروح البشرية. لقد اختبأ الناس هناك. احتموا بالطبيعة حين سقط الرصاص من الفضاء الذي لم يعد صديقا لهم ولتأملاتهم الروحية.
فلسفة البقايا باعتبارها مفهوما
كغيره من الفنانين المعاصرين تأثر أنسليم كيفر بالفنان الألماني جوزيف بويز (1921 ــ 1986). بأسلوبه في التعامل مع المواد الجاهزة وبفكرته عن الفن الاجتماعي. ذلك ما فتح الباب أمامه واسعا لاستعمال ما تبقى من ملابس وأدوات المحاربين على سبيل الذكرى بعد أن قُتل أصحابها أو تعرضوا للإعاقة الدائمة. أجزاء من تلك الثياب ملوثة بالدم والتراب نراها ملتصقة بلوحاته أو معروضة كما هي في صناديق زجاجية. لقد اختفى المحاربون بعد أن انتهت الحرب وبقيت ملابسهم وأدواتهم في صناديق زجاجية لتشير إليهم باعتبارهم ضحايا. في معرض (وايت كيوب) بلندن يعرض مجموعة من الكراسي المتحركة الخاصة بمعاقي الحرب على هيئة ركام في إشارة إلى أن الموت غيب أصحابها الذين عاشوا حياة كئيبة بعد أن خاضوا حربا لم يكن لهم يد فيها بالرغم من أنهم كانوا مادتها المباشرة. كيفر يعيد هنا النظر في المعادلة المرتبكة بحيث يجمع بين نوعين من الضحايا، المدنيون والجنود في سلة واحدة كونهم حطبا للمحرقة التي أشعلتها القوى المهيمنة على السلطة. في النهاية فإنهم قد تحولوا إلى رماد. ذلك الرماد الذي يستعمله كيفر في تغطية أجزاء كبيرة من لوحاته. مشاهد الغابات المحترقة والبنايات المهدمة الخالية من البشر. لا تظهر أية إشارة إلى وجود بشري مباشر في أعمال كيفر. لقد محت الحرب كل شيء ولم تبق إلا على الوجود البشري السابق، كما لو أن المرء يتجول بين أزقة بومبي الرومانية التي ضربها بركان فيزوف عام 79 ميلادي. فلسفة كيفر تحوم حول البقايا، وجودا ومفهوما. ستظل تلك البقايا عالقة بالذاكرة البشرية باعتبارها بديلا عن كلية الأشياء التي لا يمكن استعادتها، وليس ممكنا ترميمها بل ليس ذلك مطلوبا. ذلك لأن الشيء الجوهري منها يتعلق بالروح وليس بوجودها الفيزيائي. سيكون الإرث الإنساني ناقصا دائما بسبب الثغرة التي تحدثها الحرب في العاطفة. هناك شعور دائم بالنقصان وهو ما تعبر عنه الثياب الممزقة الملتصقة بعضها بالبعض الآخر عن طريق الدم اليابس باعتباره صمغا.
الطبيعة من مخلفات الحرب
يُعتبر أنسليم كيفر واحدا من أهم فناني عصرنا. فبالرغم من أنه كان وفيا لما شهده الفن الحديث في منتصف القرن العشرين من تحولات أسلوبية وأدائية من جهة طرق تفكيره والتقنيات التي أجاد في تطويرها والمواد المختلفة التي استعملها فإنه لم يدر ظهره للألم الذي تعانيه البشرية وهي تواجه كوارث الحروب.
ولأن الرسم لا يعنى بالجدل المباشر بل يقدم صورة هي أشبه بواقعة طقسية عابرة كان من الصعب أن يتم اختزال كل ما جرى ويجري من خلالها. ما فعله كيفر وهو يميل إلى رسم اللوحات كبيرة الحجم أنه سعى إلى التقاط العنصر الصادم في مشاهد ما بعد الحرب كما لو أنه يمد يده إلى جرح لا يزال ينزف. تلك فكرته التي حقق منها الرغبة في وصف الألم بطريقة الفهرسة. في كل مشهد من المشاهد التي يصورها كيفر هناك عملية تشريح للألم، مادتها الحجارة والأعشاب والأشجار والرصاص والأفق الممتد في منظور لا نهائي، استطاع الرسام أن يجسده بحرفية أكاديمية يفتقر لها الكثير من فناني عصرنا. أنجز كيفر تلك الحرفية عن طريق الرسم المباشر أو عن طريق الإيهام الذي ساهمت فيه المواد المختلفة التي أثقل الرسام بها سطح اللوحة ليكون المشهد طبيعيا.
لدى كيفر تصبح الطبيعة من مخلفات الحرب.
فاروق يوسف كاتب وناقد وشاعر عراقي